ترتبط الأعمال الدرامية المصرية بمواسم معينة وطقوس مشاهدة محددة، ترتبط بالمكان والزمان وطبيعة المتلقي، لطالما عرضت الأعمال الدرامية في التلفزيون، في توقيتات تتعلق بتناول الطعام وتوجهت إلى جمهور يمكث في البيت معظم يومه ينتظر الحلقة يوميًا، حلقة تتخللها إعلانات، ونشاطات أخرى مثل تحضير أو تناول الطعام، تغيرت عادات المشاهدة الدرامية في العالم أجمع بدخول المنصات الرقمية، وبالتبعية تغيرت طبيعتها وجمهورها المستهدف، وصل ذلك التغير تدريجيًا إلى مصر وبدأ بطرح تلك المنصات باعتبارها بديلًا عن التلفزيون، لكن تعرض المنتجات ذاتها في إطار أكثر ملاءمة لهؤلاء الذين لا يملكون أوقاتهم بشكل كامل، المشاهدة على المنصات هي صديق جيد لطبيعة الحياة الرأسمالية خصوصًا لمن هم في سن الشباب، فأصبح المسلسل التلفزيوني متاحًا في الوقت الذي يتفرغ فيه المشاهد، ويمكنه تقسيم المشاهدة بحسب وقته الخاص، لهدف رئيسي وهو الهروب من الحياة اليومية.

مؤخرًا بدأت المنصات العربية والمصرية في صناعة محتواها الخاص، المنفصل عن المحتوى التلفزيوني، محتوى ذو حلقات أقل وطبيعة أكثر تحررًا من المحتوى العام المسيطر عليه من جهات حكومية وسياسية، وفي الشهور الأخيرة بزغ عملان إلى السطح في أوساط مشاهدي المنصات، القادرون على دفع اشتراك شهري أو حتى الذين يحصلون على المحتوى الجديد بصورة مقرصنة، العملان هما «وش وضهر» و«ريفو»، الأول من إنتاج منصة شاهد التابعة لشبكة «إم بي سي» والثاني من إنتاج «ووتش ات» المصرية، وصفت عملية مشاهدة العملين «بالهادئة» و«المختلفة»، ووصف كلاهما بالقدرة على نقل المشاهد إلى عوالمها الخاصة، تلك العوالم تحددها الأماكن والأزمنة، فكلا العملين على اختلافهما يجتمعان على خيارات محددة تضعهما خارج الإطار العام.

يمكن تسمية كل المحتوى المتسلسل بالهروبي، فهو يتطلب وقتًا أطول مما تتطلبه الأفلام في الاستهلاك، كما أن تسلسل الحلقات وارتباطها ببعضها يجعل المشاهد مستعدًا لتلقي المزيد ومعرفة المقبل، كما أن عملية الانغماس في عمل متسلسل تتطور شخصياته في وقت طويل هي عملية تنتزع المتلقي من عالمه إلى عالم الآخرين، لكن «وش وضهر» و«ريفو» يأخذان ذلك الهروب إلى أبعاد أخرى جعلتهما محبوبين أكثر من معظم الأعمال التي صدرت ذلك العام أو العام الماضي حتى بموسمه الرمضاني، وهو رغبة شخصياتهم نفسها وسعيها للهروب، الهروب من المكان في «وش وضهر» ومن الزمان في «ريفو».

الهروب من المكان والزمان

يبدأ مسلسل «وش وضهر» من إخراج مريم أبو عوف وكتابة ورشة سرد بحلقة أولى سريعة ومرحة يروي لنا فيها بطله جمال (إياد نصار) كيف غير حياته فجأة، يروي أسبابه ورغبته في الهروب من واقعه، تتضمن أسبابه وظيفة لا يحبها، زوجة لا تحبه، مستقبل مسدود وأحلام ضائعة، كل تلك التفاصيل الحياتية التي يمكن التعاطف معها أودت به لركوب أول ميكروباص يقابله، ليصل به إلى أي مكان، فالوجهة لا تهم، هرب جمال من حياته الحالية مكانيًا، ليبدأ حياة جديدة بأموال مسروقة، وهوية مزيفة، وفي حياته الجديدة التي ساقه القدر لها في طنطا يجد النجاح ويجد الحب، وكل ما افتقده في الحياة المدنية في صخب القاهرة، يبدأ «وش وضهر» بما يبدو كسرد حداثي متحرر يميزه صوت راوٍ خفيف الظل، ينتقل بنا بشكل غير خطي داخل الزمان والمكان لكن مع مرور الحلقات يأخذ طابعًا أكثر ميلودرامية ويستبدل سرده غير التقليدي بآخر خطي تقليدي، لكنه اختار غير التقليدية في كتابة الشخصيات نفسها.

إعلان مسلسل وش وضهر


يمثل «وش وضهر» طنطا كمدينة حية وصاخبة لكنها غير رئيسة، ليست بمحورية القاهرة، فتقدم للهارب إليها مكان جديد متقبل له كقادم من خارجها، تقدم له كل ما يفتقده من ألفة وحميمية ربما تزيد على حدها في بعض الأحيان، كما أن قربها من أراض زراعية خضراء يجعلها مناسبة لشخص يحاول أن يتحرر من المدينة ومن القيود المجتمعية الخانقة، فيصنع المسلسل ذلك التضاد النمطي بين هدوء الريف وصخب المدينة، وبين البساطة والتعقيد، فالريف يمثل هروبًا من التوقعات، الشكلية والعملية.

بينما يبدأ مسلسل ريفو إخراج يحيى إسماعيل وتأليف محمد ناير بشخصية حسن فخر الدين (محسن محيي الدين)، يكتب تفاصيل سيناريو تقع أحداثه في تسعينيات القرن الماضي على آلته الكاتبة، فينتقل زمن المسلسل إلى الماضي الدرامي، نرى أعضاء فرقة موسيقية في القاهرة في أواخر التسعينيات تميزهم قصات شعر رائجة في ذلك العقد وملابس ملونة وأجواء مستعارة من فرق روك الستينيات ، يتجولون معًا في سيارة لشراء شرائط الكاسيت من الأكشاك ويحاولون أن يصنعوا المجد الموسيقي، يستخدم المسلسل المظاهر النمطية للعقد الذي يريد أن ينقلنا إليه التي ربما كانت على وشك التلاشي في سنواته الأخيرة، يستخدمها لتسهيل وهم الانتقال للماضي، و مجاراة موضة ملابس التسعينيات التي تعود للرواج كل عدة سنوات حتى وإن لم تكن دقيقة تمامًا.

إعلان مسلسل ريفو

في «ريفو»، تعود الشخصيات إلى الماضي للهروب من الحاضر وللهروب من الماضي نفسه، يتمثل ذلك بشكل رئيسي في شخصية مروان (صدقي صخر) المكروب تمامًا من ماضيه مع الفرقة الموسيقية ويرغب في إنهاء حياته، حتى يقابل مريم (ركين سعد) ابنة حسن فخر الدين التي تنزعه من رغبته في الهروب من الماضي لتشركه في رغبتها هي في الهروب من الحاضر الذي تعيشه فجأة من دون أبيها السيناريست الشهير، ترغب في العودة لماضي والدها لتكتشف تاريخها الشخصية وتصنع مجدها المعاصر، يمضي المسلسل وقته بين الماضي والحاضر، لا يهتم بشكل رئيسي بالمكان بقدر ما يهتم بالزمان، لكنه يتوه تمامًا عن مقاصده عندما يغوص في حاضر شخصياته، يصيغ أنماط شخصيات شريرة وطيبة ومجروحة تجعل متابعة مشكلاتهم مرهقة وبلا طائل، كما يقدم لأحداث صادمة لنكتشف أنها أبسط من توقعاتنا عنها.

ما يربط العملين وطبيعة تلقيهما هو تهميش دور التكنولوجيا في كل منهما، التي يعد الابتعاد عنها زمانيًا ومكانيًا نوعًا رئيسيًا من الهروب من الواقع، سواء كان ذلك بسبب الابتعاد عن المدينة مكانيًا أو بسبب الابتعاد عن الحاضر زمنيًا، تبزغ التكنولوجيا وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي في العملين كأداة لتحريك الحبكة للأمام، يمثل ذلك نوعًا من الاستسهال لأن وجود تلك الأدوات محدود في العملين، وتبزغ فقط عند الحاجة في فضح أحدهم أو في إيجاد أحدهم، لكن تنحية دور التواصل الاجتماعي في مشاهد الماضي في «ريفو» أو في مشاهد طنطا في «وش وضهر» يمكن اعتباره أحد أسباب نجاحهما.

الوجود الإلكتروني

معظمنا مصاب بإرهاق المعلومات والتواصل المستمر، سهولة الوصول للآخرين والإغراق في المعرفة العامة بكل شيء في كل وقت، لذلك يمثل الهروب إلى التسعينيات حتى وإن كان نمطيًا وغير دقيق راحة مؤقتة واستغلالًا لنوستالجيا رائجة، لوقت يتحرك فيه الفرد لمكان محدد لشراء الموسيقى مثلًا أو لسماعها، يتقابل الأصدقاء في مكان محدد مسبقًا، ويتواصل الجميع من دون ما يعطلهم عن ذلك، في حين أن «وش وضهر» تقع أحداثه في حاضر تكنولوجي تمامًا إلا أنه يختار أن يحيد دور التكنولوجيا إلا عند الحاجة لها، يهرب جمال من حياته بكسر شريحة هاتفه وكسر كل تواصله مع عائلته ومن يعرفونه، ونادرًا ما نراه ممسكًا بهاتف ذكي في معظم أحداث العمل، يعيش جمال وجودًا غير منسق إلكترونيًا، معظم شخصيات المسلسل تبتعد تمامًا عن التشبع الحالي بجماليات الإنترنت، يعود ذلك للابتعاد عن مركزية المدينة والرغبة في إضفاء البساطة والرومانسية على المحافظات المترامية ربما بشكل غير دقيق ، لكن يضفي التصوير في الأماكن الحقيقية صدقًا على تلك الرغبة.

على العكس من ذلك تملك مشاهد الحاضر في «ريفو» ذلك الوجود الإلكتروني المنسق التي تخف حدته بالعودة للماضي، بل إن هناك شخصيتين يلعب أدوارهما مؤثران رقميان انتقلا إلى التمثيل من عالم الإنترنت هما ملك الحسيني ومحمد المولى، يتمثل وجود التكنولوجيا في وجودهما وتتحرك الأحداث بسبب وجودهما على ساحة التواصل الاجتماعي، تمثل تلك اللحظات بعضًا من أضعف ما يقدمه المسلسل في سهولة الحلول واختزال ثقافة الشباب في التأثير الاجتماعي على الإنترنت، ويلهي عن التيمات الرئيسية التي تجعل المسلسل محبوبًا وهي الرغبة في الهروب من الذات، والرغبة المعاكسة في إيجاد الذات، يمثل مروان الرغبة الأولى فلقد عاش رومانسية الماضي القريب وقد هزمته تلك الرومانسية، لكن مريم الراغبة في استكشاف ماضيها وماضي والدها بل ومكانها في الحياة ترغب دائمًا في إعادته للماضي، في وقف حياتها الحالية للتعرف أكثر على تاريخها، ينهمك المسلسل في تيمة استكشاف الأهل من جديد، في اكتشاف أن كل ما نعرفه عن والدينا ربما يكون غير حقيقي، لكنه يأخذ ذلك لأبعد من اللازم ويقع في فخ الميلودراما العائلية نتيجة لذلك.

قصص غير مرئية

يستكشف كل من «ريفو» و«وش وضهر» شخصيات غير مثالية، ويصعب تصنيفها، تبتعد بشكل كلي على الأعمال المنمقة المصنوعة خصيصًا تحت رؤى محددة مسبقة للخير والشر والمقبول وغير المقبول مجتمعيًا وسياسيًا، لكن في الوقت نفسه يمكن وصف العملين باللاسياسية، فهما بشكل أو بآخر مفصولان عن الواقع السياسي سواء المفروض دراميًا على المسلسلات الأخرى أو المتمرد عليه، لكنه يطرح شخصيات بديلة ومصائر بديلة وهو ما يجعلهما مناسبين لجمهور بديل للجمهور التلفزيوني، يكاد «وش وضهر» ينجرف في الطرح العام للعقوبات الأخلاقية التي تحل بالشخصيات الخطاءة لكنه ينتهج نهجًا أكثر رقة وتعاطفًا، فيبتعد عن تنميط الفتيات والشباب الذين تربطهم علاقات خارج إطار الزواج ويكلل قصة حب هبة (ثراء جبيل) وعبده (إسلام إبراهيم) بنهاية سعيدة، تتضمن زواجًا بالطبع لتجنب الشجب المجتمعي، لكن جعل السعادة المحافظة بديلة عن الموت في عملية إجهاض أو الوصم الأبدي يعتبر شجاعة من صناع العمل في تحدي السائد في الدراما الحالية، كذلك يحصل الأبطال جمال وضحى (ريهام عبد الغفور) على نهايتهما السعيدة على الرغم من كون كلاهما كاذب ومزيف تمامًا، يحتفي «وش وضهر» بتلك الحيوات الصغيرة غير المؤثرة في السياقات الكبرى، وغير المرئية على الإنترنت.

ينتهج «ريفو» منهجًا أكثر محافظة في نظرته للشخصيات، ويتبع الأنماط الثابتة بشكل أو بآخر، فيجعل من شخصية شادي (أمير عيد) بطلًا موسيقيًا رومانسيًا، يقدسه الجميع ويذكر طموحه وعبقريته بكل خير، بينما يرسم شخصية ياسمين (سارة عبد الرحمن) كشيطانة مغوية، تتلاعب بالرجال، بل ويوصمها بسبب عيشها علاقة مع شادي في الماضي وقت صعود الفرقة الموسيقية، في الحاضر يكره الجميع ياسمين، هي الشخصية الشريرة في المسلسل، شريرة بشكل نمطي شكليًا وكتابيًا، تتلفظ بالخطط الشيطانية ويعكر وجودها صفو الأجواء، لكن في النهاية يقدم العمل رؤية يمكن اعتبارها خارجة عن السائد في ما يتعلق بالشكل التلفزيوني نفسه.

كل من «ريفو» و«وش وضهر» يقعان في تنميطات وعيوب مكررة في الدراما المصرية، ويتجاهلان إمكانية السرد غير التقليدي لصالح قصص أكثر تقليدية وعاطفية، لكن كليهما يحاول ضم الهامش إلى العام، ويحاول طرح سرديات بديلة أو على الأقل سرديات هروبية يمكن التعاطف معها بعيدًا عن السرديات المفروضة عن الخير والشر، والبطولات التي تنقذ العالم، ويمثل نجاحهما فرصة لصناعة أعمال درامية أكثر تحررًا من القيود الإنتاجية والسردية، أعمال تجعل الهروب أكثر إثارة للاهتمام.