ابق حيث الغناء، فالأشرار لا يغنون.
مقولة رُددت عن طريق الغجر

في واحدة من أكثر الصور تناقضًا في جغرافيا العالم، عند البحر الأبيض المتوسط، والذي تبدو مياهه كالصراط الذي يفصل بين الجنة في أوروبا، ظاهرة في إسبانيا ورفقائها، وبين ألسنة لهب جهنم التي تقبع المغرب على أطرافها العُليا، يُولد يوميًا أُناسٌ بأحلام تربط ألجمة الخيول منذ المهد، عازمة على الخروج بلا رجعة من موضع لن يختاروا التواجد فيه ولو خُيروا.

نمت الشعوب في تلك المنطقة كالغرباء، لا هم ينتمون لأوروبا بكامل تفتحها ومتعها الحياتية التي يرغب فيها جل الشباب، ولا هم بالسمات الدينية التي تضعهم في أوائل البلاد المسلمة، ولا هم بقوة اقتصادية تجعلهم يتصدرون المشهد العربي أو بالأحرى الخليجي. لا يتحدثون العربية بطلاقة، ولا هم من ذوي الفرنسية كلغةٍ أم.

في تلك الحالات تتعاظم قيمة الكلمات التي عُرفت عن طريق قبائل «بوشمن»: «يوم نموت، سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا على الرمال. بعدما يفنى النسيم، ترى من يخبر الأبدية أننا مشينا ها هنا مرة في فجر الزمان؟» يبدو أن المغاربة اتفقوا على إجابة واحدة لذلك السؤال الوجودي الصعب؛ ألا وهي الغناء.


عضو جديد في أسرة الغناء المغربية

تباين الطبيعة الجغرافية في المغرب، وتعدد الثقافات وغنى الحضارة في كل عصر باختلاف عن سابقه، جعل الموسيقى حاضرة على الدوام كتعبير عن الحياة في تلك البقعة من الكون، وسيلة للتواصل بين جيل وغيره. وعلى مر سنين لا تُحصى،قدم هذا البلد ألوانًا موسيقية عدة، كانت دائمًا كالزهرة التي تنمو من بين صخور صماء، وما يبدو أن مرور الزمن لم يقضِ على تلك الظاهرة، بل عززها.

مع حلول الأيام الأخيرة من عام 2018، ودون سابق إنذار، تحركت موجة شعبية جامحة، اجتاحت الأوساط العربية بأكملها، قادمة من حناجر يغطيها الأخضر كلون بديل للأحمر الداكن الذي يلون قلوب البشر.

رجرجت جماهير الرجاء المغربية الأفئدة بأنشودة بدت من وهلتها الأولى أنها ستعيش طويلًا، لفتت بدورها الأنظار إلى نوعٍ من الغناء المغاربي يمكن أن يدرج في قائمتهم التاريخية التي تُعزي كل فترة من فترات تلك الدولة، وتعبر عن عدد كبير من شباب تلك الأمة، بالأحرى، إنما يمكن أن يُوضع ذلك النوع كمعبر عن الشباب العربي أجمع من محيطه الأقصى حتى خليجه الأغنى.

بين المدرجات من ملاعب كرة القدم، وبين الميادين في ثورات الربيع، التي كان مقدرًا لها أن تغير خرائط التاريخ العربي، كانت قفزات الشباب على أنغام «الأولتراس» هي العامل المشترك بين كل البلدان بلا تفرقة في المسمى أو اللغة التي تُلفظ. نمط واحد، أداء واحد، وربما هدف واحد يجتمع الكل حوله.

منذ تاريخه، أُضرمت النار في الهشيم، وأخذت تلك الطريقة تنتشر شيئًا فشيئًا بين جموع الشباب، حتى تحركت من مواضعها إلى حفلات العرس واحتفالات التخرج وحتى الأغاني الهزلية الداعية للسخرية. ظهر الأمر بكونه نشيدًا واحدًا يحفظه الجميع، حتى تُوّج ذلك كله بأغنية «في بلادي ظلموني» التي رددها الملايين حتى قبل أن يفهموا معنى الكلام.


العاصمة «الحشيشية» بالمغرب

في هاد البلاد عايشين في غمامة، طالبين السلامة، انصرنا يا مولانا. صرفوا علينا حشيش في كتامة، خلونا كي اليتامى. نتحاسبوا في القيامة.

من مدينة وزان المغربية، وفي الطرق الوعرة لنحو 3 ساعات متواصلة، مرورًا بجبال الريف، في رحلة ليست استكشافية بصحراء أفريقيا الغنية، بينما هي رحلة نحو العاصمة. عاصمة الحشيش بالمغرب، مدينة كتامة، صارت القوات الشرطية الإسبانية عازمة القبض على برغوث من نوع خاص،إنه «ميسي الحشيش» كما اعتاد العامة على تسميته، وهو أحد أكبر مهربي المخدرات المغربيين الذين يعملون في تهريب هذه المادة بين المغرب وإسبانيا.

في تلك البقعة من الأرض يرددون: «أنا أزرع الحشيش، إذن أنا موجود»، وإن بُثت الروح في «ديكارت» -نفسه- مرة أخرى، لن يقدر أن يلومهم على ذلك التصرف في مقولته الأشهر، حيث تعيش أكثر من 900 ألف أسرة مغربية على زراعة مادة القنب الهندي أو «الكيف»، حسب الدراسة الأخيرة والصادرة عام 2013.

تلك المدينة التي تمثل عضوًا اقتصاديًا هامًا للملكة المغربية، حيث تستحوذ على جزء ليس بالهين من سياحة الغرباء الأوروبيين الذين يتوافدون بالآلاف لتناول أفخر أنواع الكيف المتواجد هناك، كانت الهم الأول الذي ضرب عقول الشباب المغربي الذي يبحث عن التغيير في مستقبلهم القريب.

الظاهر إعلاميًا أن الشرطة تسعى بكل ما أوتيت للقضاء على تلك الظاهرة، لكن المزارعين والأسر التي تعيش هناك تعلم أن الحل ليس في تجريمهم أو في وضعهم تحت مطاردات مميتة، ولكن في إيجاد بدائل تجعلهم يستغنون عن زراعة تُدر لهم مالًا وفيرًا ولا يعرفون غيرها منذ ولدوا.


«طحن مو» والبقية تأتي

مواهب ضيعتوها، بالدوخة هرستوها، كيف بغيتوا تشوفوها؟ فلوس البلاد كاع كليتوها، للبراني عطيتوها «جينراسيون» قمعتوها

أمر أصدره شرطي، كان كافيًا لضياع أسرة مغربية جديدة ضمن غياهب البطالة وقلة الحيلة في الرزق. قصة المواطن المغربي «محسن فكري» التي كانت الأكثر شهرة فيما يخص المعاملات الشرطية العنيفة والمميتة ضد فئات الشعب العادية، في الأشهر الأخيرة من عام 2016، وضعها العديد من الباحثين آنذاك تحت بند جرس الإنذار الذي يجب أن تلتفت له البلاد، بعدما قفز في سيارة النفايات المزودة بمطحنة، في محاولة أخيرة للحفاظ على مصدر رزقه الوحيد، وهو كمية قليلة من السمك الذي يباع بالتجوال.

اقرأ أيضًا: طحن مّو: جرس إنذار للنظام بالمغرب

عانت المغرب في تلك الفترة من معدل بطالة ليس بالهين، حيث مليون و169 ألف عاطل بنسبة 79.2% لسكان الحضر، هذا إلى جانب أن ثلث الموظفين حاملون لشهادات ذات مستوى عالٍ. ذلك المعدل أخذ في الارتفاع، فمن 10% في عام 2016، وقت الحادثة التي عرفت بـ«طحن مو»، إلى 10.5% في آخر معدل من عام 2018.

ارتفاع معدل البطالة من شأنه أن يزيد في الأعداد التي تفقدها المغرب سنويًا ضمن قوارب الموت، تلك التي تمتلئ بالعديد من العقول الحالمة بعبور صراط المتوسط نحو جنة الحلم في إسبانيا. أكدت التقارير الرسمية لوزارة الداخلية الإسبانية، أن عدد المغاربة الذين هاجروا بطريقة غير نظامية إلى بلادهم تجاوز خلال الثلاث السنوات الأخيرة، شيبًا وشبابًا، العشرة الآلاف.

اقرأ أيضًا: «حرقة» الشباب المغاربي: ثناية الهروب والمواجهة.


ليس الرجاء وحده

بالشغب شحال تتهموا، ونسيتوا شحال صفقتوا بشهور الحبس جازيتوا رجاوي ضيعتوا حياته، خدمته وقرايته، حيث ما فهمتوا «لا باسيون».

لم يتوقف تأثير الحشود التي ملأت ميادين مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن بداية من 2010، على الإطار الإقليمي لدولهم فقط، بل طال التأثير الدول التي لم تشهد تغييرًا جوهريًا في سياساتها الحاكمة، وعلى رأسها المغرب، والتي سرعان ما قامت بتعديلات حزبية وسياسية من شأنها ضبط بعض الأحوال التي كانت لتثير حفيظة المواطن العادي قبل المهتم بالشئون السياسية.

لكن خلال تلك الفترة، كان التأثير الشبابي لم يتم درئه، وبدأت مجموعات الأولتراس المغربية في وضع نصوص من شأنها إشعال اللهيب الثوري في قلوب الشباب الصغير. كانت أشهر تلك الأهازيج، أهزوجة «بصوت الشعب اللي مقموع» لجماهير نادي الوداد المغربي، بحث صغير بـ: الأغنية التي تسببت في اعتقال جماهير الوداد المغربي، سيصل بك إليها دون أدنى عناء.

https://www.youtube.com/watch?v=Aer1lT8INbg&feature=share&fbclid=IwAR3BDBjB9a8F3cFVrB9KaE7h5pZrISyO0rMlG9OidTQ4mMszjCm0V6l6P3E

الحرية.. لي بغينا يا ربي الحرية.. تفاجي ليا قلبي
أغنية «بصوت الشعب اللي مقموع» لجماهير الوداد المغربي

شأن الحكومة المغربية وقصرها الملكي كان شأن كل الدول العربية التي تخشى تكرار نفس السيناريو على أراضيها. بدأت موجة في الاعتقالات وصلت لأعداد كبيرة من جماهير الوداد. وبربط الصدى الذي أخذته أغنية جماهير الوداد بالصدى الذي نالته أنشودة جماهير الرجاء، وبتلاشي الحاجز التنافسي بين كلا الفرقين، نقف جميعًا أمام توقعين لا ثالث لهما؛ إما أن تشعر الحكومة في المغرب بخطر سياسي جديد فتقوم بموجة جديدة من الاعتقالات لجماهير الرجاء، أو أن تزيد من التسهيلات السياسية كما حدث في عام 2011 لتهدئة أكثر للشعب.

هادي آخر كلمة عندي، نكتبها من قلبي والدمعة في عيني التوبة للرب العالي، توب علينا يا ربي