حفل اليوم يحمل معنى مميزا للغاية، لأننا لا ننقل السلطة من إدارة إلى أخرى، أو من حزب إلى آخر، ولكننا ننقل السلطة من واشنطن ونعطيها إليكم؛ للشعب.

في ثلاثينيات القرن الماضي ظهرت جماعة سياسية أمريكية لم يُكتب لها أن تتحول إلى حزب، ولم يكتب لها البقاء طويلا، دعت هذه الجماعة إلى العزلة الأمريكية عن العالم، وتلخصت رسالتها في أن أمريكا أفضل بمفردها.. «لا نريد هجرة، لا تجارة حرة، لا لاجئين، ولن نشارك في حروبكم». رفضت هذه الجماعة خوض الحرب العالمية الثانية أو المساعدة التي تقدمها أمريكا للدول الأوروبية، عُرف عن هذه الجماعة عداؤها لليهود وللعرق السامي، وكان أشهر شعاراتها؛ «أمريكا أولا»!أصبح الشعار شبه مُحرم استخدامه في العرف السياسي الأمريكي، خاصةً لما عُرف عن هذه الجماعة من معاداتها للسامية وميولها النازية، لكن جاء دونالد ترامب ليفرض نفس الشعار ويقدم نفسه حاملا نفس الأيديولوجيات والآراء، ولكن بعدو مختلف هذه المرة، وهو الإسلام الراديكالي، على حد وصفه.

نحن المجتمعين هنا اليوم نصدر مرسوما جديدا سوف يُسمع في كل مدينة وعاصمة ومركز قوة حول العالم، من هذه اللحظة سوف تكون أمريكا أولا.

جرى العرف السياسي الأمريكي أن يكون خطاب التنصيب خطابا وحدويا عاما، لا يتطرق للكثير من التفاصيل، خطابا لأمة متفرقة الأعراق والأديان والجماعات، خطابا يعمل على توحيد وتقطيب ما فرقته المعركة الانتخابية، لكن هل دخل البيت الأبيض من هو مثل ترامب سابقا؟


الحرب على الإسلام «الراديكالي» الذي لا نعرفه!

أمريكا أولا؛ بهذا الشعار يمكن تلخيص رؤية دونالد ترامب للأمن القومي الأمريكي، لكن بالنسبة لرئيس تقوم أجهزة الاستخبارات بالتحقيق مع معاونيه لاتهامات تتعلق بالتدخل الروسي في الانتخابات يبدو ترامب شديد التناقض.

فأجهزة الاستخبارات التي يتلافاها دونالد ترامب منذ إعلانه رئيسا منتخبا قد توصلت إلى أن التلاعب الروسي في الانتخابات الأمريكية جاء في صالحه تحديدا، كما تحاول تلك الأجهزة التحري عن علاقات شركائه بروسيا، وروابطهم المالية تحديدا. بالإضافة إلى أن لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ بدأت هي الأخرى تحقيقًا في ذات الموضوع.

في خطابه المتناقض يقرع ترامب طبول الوطنية الأمريكية، ليعلن خروج أمريكا من العصر الذي سماه «عصر المذبحة الأمريكية»، ليصبح شعار أمريكا أولا هو المسيطر على الرؤية الأمريكية للعالم.

سوف ندعم تحالفاتنا القديمة ونكون أخرى جديدة، ونوحد العالم المتمدن ضد الإرهاب الإسلامي الراديكالي، الذي سوف نمحوه تماما من على وجه الأرض.

تعهد ترامب في خطابه بتحالفات خارجية جديدة، ويعني بها نيته تقريب العلاقات مع روسيا وبوتين تحديدا، بهدف محاربة الإسلام الراديكالي، وبينما يشتكي ترامب من إهدار المليارات من الدولارات على مغامرات خارجية سابقة، يدق طبول حربه الخاصة على الإرهاب الإسلامي الراديكالي على حد وصفه،في سابقة لم يقم بها رئيس أمريكي سابق.وعلى وجه التحديد، تجنب باراك أوباما الرئيس السابق الربط بين الإسلام والإهاب، كما تجنب ذلك كل أفراد إدارته، بما فيه كيري وزير خارجيته، ولكن ترامب في سابقة خطيرة ضم الإسلام الراديكالي إلى رأس أولويات الأمن القومي الأمريكي.

ولكن ما هو الإسلام الراديكالي؟

هو مفهوم غير متبلور عن الإسلام، وكثيرا ما يختلط بالإسلام نفسه، فكيف سيفرق ترامب بين المعنيين؟ وكيف سيحيا ملايين المسلمين الأمريكيين في الداخل الأمريكي وسط بيئة تعادي مفاهيم دينية خاصة بهم؟

ومن جهة أخرى، انتقد ترامب الدعم والمعونات التي تقدمها أمريكا للجيوش الأجنبية، بينما يعم الإهمال والتردي حال الجيش الأمريكي، كان هذا الأمر محور جدال دائر بين هيلاري وترامب أثناء الحملة الرئاسية.

اقرأ أيضا:ما يخبرنا به مستشارو ترامب عن سياسته الخارجية المقبلة؟

أصرّت هيلاري على موقفها الداعم للبشمركة العراقية، كحليف في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، بينما لم يتبن ترامب نفس الآراء. فماذا سيكون موقفه ساعة الاختبار؟ هل سيقبل بمشاركة قوات أمريكية على الأرض للقضاء على الإرهاب الإسلامي كما توعد أم سيختار البديل وهو دعم الميليشيات الأجنبية على الأرض، متراجعا بذلك عن أحد تعهداته؟

لقرون عديدة، أثرينا صناعات أجنبية علي حساب الصناعة الأمريكي، ساعدنا جيوش الدول الأخرى فيما سمحنا باستنزاف جيشنا، ودافعنا عن حدود الدول الأخرى فيما رفضنا الدفاع عن حدودنا، وأنفقنا بلايين الدولارات في الخارج، فيما تقع البنية التحتية الأمريكية فريسة الإهمال!

وعلى الجانب الآخر، حمل خطاب ترامب تناقضا شديدا، إذ تعهد في خطاب تنصيبه بالحفاظ على التحالفات التقليدية العتيقة، التي كان في السابق قد تحدث بالتخلي عنها، لأنها تُثقل كاهل أمريكا، مثل حلف الناتو والتحالفات الخليجية.تحدث ترامب عن تخلي أمريكا عن حلفائها في الناتو إذا لم يشاركوا في دفع نفقات الجنود الأمريكيين الذي يحمون حدود أوروبا الشرقية، ونفس الأمر بالنسبة للخليج. يتعامل ترامب مع الأمن القومي بمنطق الدولارات. وهو ما سيحمل تبعات خطيرة على الإستراتيجية الأمريكية إذا ما تم تطبيقه فعلا.اقرأ أيضا: توماس فريدمان: ما الذي يخيفكم من رئاسة ترامب؟


الاقتصاد والهجرة وجهان لعملة واحدة

أُغلقت المصانع الأمريكية واحدا تلو الآخر، وغادرت شواطئنا، بدون التفكير في ملايين العاملين الأمريكيين. سرقت ثروة الطبقة الوسطى الأمريكية من منازلهم، ووزعت على العالم كله. ولكن هذا كله من الماضي.

ظهرت رؤية ترامب الاقتصادية واضحة للغاية، وخاصة عندما تحدث عن مصطلحين مهمين جدا:

أولا: المذبحة الأمريكية؛ تحدث ترامب عن المذبحة التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي، ما ترك المصانع الأمريكية «صدئة» و«كالمقابر»، وألقى ترامب باللائمة على عملية Outsourcing، حيث يقوم المستثمر الأمريكي ببناء مصانعه في مناطق تتميز برخص اليد العاملة وبقيود متساهلة فيما يخص حقوق العمال والنقابات العمالية، كالصين وفيتنام والمكسيك وغيرها، ما ترك ملايين العمال الأمريكيين بدون وظائف، وهؤلاء تحديدا هم من آمنوا بترامب وسعوا من أجل تنصيبه.

اقرأ أيضا: في ظل هيمنة اقتصاد الخدمة: هل تعود أمريكا للتصنيع من جديد؟

سوف نخرج شعبنا من الرفاه، ونعيدهم إلى العمل. نبني بلدنا مرة أخرى بأيدٍ أمريكية وعمالة أمريكية، سوف نتبع قاعدتين بسيطتين: اشترِ الأمريكي ووظف الأمريكي

ثانيا: الحمائية الاقتصادية؛ وفيها يرغب ترامب في معاقبة أي مستثمر أمريكي يخرج برأس ماله إلى خارج البلاد، ويفرض الحماية على المنتجات الأمريكية برفع الجمارك على المنتجات المستوردة بما يضمن للمنتج المُصنع في الداخل الأمريكي تنافسية عالية في السعر، وبذلك يفقد المستثمر الدافع لبناء مصانعه في خارج البلاد.وكما أشار ترامب للحماية الاقتصادية، فإن قضية الهجرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالاقتصاد، أشار ترامب لقضية حماية الحدود 3 مرات أثناء خطابه الذي استمر 16 دقيقة فقط، ما يؤكد نيته تشديد التشريعات المتعلقة بعملية الهجرة، ولكن ما يُثير الخوف حقيقة ليس نية ترامب تغيير التشريعات أو بناء سور على الحدود مع المكسيك، ولكن تصاعد عملية العنف تجاه اللاجئين والمهاجرين.


أول القرارات: تقويض الرعاية الصحية

تعهد ترامب والحزب الجمهوري بإلغاء مشروع الرعاية الصحية «أوباما كير»، لكن لا هو ولا الجمهوريون تمكنوا من وضع خطة رعاية صحية مكافئة لخطة أوباما، وعلى الرغم من ذلك وفي أول قراراته التنفيذية، أمر الرئيس دونالد ترامب الوكالات الفيدرالية بتقليص جوانب كثيرة من مشروع الرعاية الصحية في تحرك مبكر للغاية للقضاء على تشريع مهم من تركة أوباما.لم يشتمل الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب على الكثير من التفاصيل، ولكن لهجته العامة أعطت الوكالات الفيدرالية الصلاحية لتغيير أو تأخير أجزاء من مشروع «أوباما كير»، إذا رأوه عالي التكلفة على جهات التأمين أو شركات الدواء، وأعطاهم الصلاحية لتقليص النفقات العلاجية أو زيادة نفقتها على المرضى، وهذا ليس إلا بداية تفكيك لمشروع أوباما كير.

اقرأ أيضا:هل تبدو مهمة الرئاسة سهلة أمام ترامب؟ جدير بالذكر أنه لم يوجد من قبل مشروع رعاية صحية يغطي الإدمان إلا مشروع «أوباما كير»، فكيف يطمح ترامب لتفكيك الجريمة والمخدرات بينما هو يفكك بالفعل مشروع الرعاية الصحية المخصص لمواجهة الإدمان؟


محميون باسم الرب

يجب أن نحمي أنفسنا من ويلات الأمم الأخرى، الذين يصنعون منتجاتنا ويسرقون شركاتنا ويدمرون وظائفنا، هذه الحماية سوف تؤدي إلى ازدهار وقوة عظيمين.
يجب ألا يكون هناك خوف، نحن محميون وسوف نظل دائما محميين، سوف نكون محميين برجالنا ونسائنا العظماء في الجيش والشرطة، والأهم أننا محميون بالرب.

لم يذكر ترامب أي حديث متعلق بقضايا المناخ والحريات، ولكن في مفارقة مختلفة ذكر في حديثه دور الرب في حماية الشعب الأمريكي، كما أشار ترامب لدور الشرطة والجيش في حماية الشعب وتجاهل تماما الحوادث العنيفة بحق المواطنين السود، التي وقعت العام الماضي.كما قام الفريق الانتقالي لترامب بمسح كل ما له علاقة بالمناخ وقضايا الحريات الجنسية من موقع البيت الأبيض سريعا بعد تولي ترامب السلطة.تجاهل ترامب في خطابه أكثر مما ذكر، وأخفى أكثر مما أوضح. لكن على كل حال جاء خطاب ترامب متوافقا مع حملته الانتخابية بشكل كبير، حافلا بالتناقضات والشعارات وتغيبت عنه التفاصيل. لكن الأيام المقبلة سوف تتكفل بحل لغز ترامب وخطاباته المتناقضة.

المراجع
  1. Inaugural address: Trump's full speech