بين العرب والإسلام فجوة زمنية تتسع منذ ضاع الأندلس بسقوط مدينة إشبيلية عام 1248م، وبذلك سقط الجناح الغربي للمسلمين، ليتبعه بعد عشرة أعوام سقوط الجناح الشرقي، بسقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258م، وما زالت تلك الفجوة تتسع حتى الآن، لأنه «يستحيل تطبيق الإسلام تطبيقًا صحيحًا في مجتمع متخلف، ففي اللحظة التي يتم فيها التطبيق الحقيقي للإسلام في مجتمع ما، يكون هذا المجتمع قد بدأ يتخلى عن تخلفه ويدخل في مجال الحضارة». [1]

وهذه الفجوة الزمنية أنتجت قومًا «تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة، وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة؛ لا يسمعون بكانط وبرجسون، ولا بأدباء أوروبا وشعرائها، ولا بعلمائها وأبحاثهم، إلا أسماء تُذكر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة، لا تغني فتيلًا ولا تستوجب علمًا، وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة، يعرفون آخر ما وصلت إليه نظرات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة، ويتبعون تطورات الأدب الأوروبي الحديث، وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا؛ ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل؛ فإن حدَّثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل، أشاحوا بوجوههم وأعرضوا عنك، وإن ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا، قالوا: إن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم. [2]

إنه الصراع الممتد منذ قرون بين العقل والنقل، بين الجديد والقديم.

نقطة الانكسار

بعد أن توقف الاجتهاد، وبذلك توقف العصب الناقل لروح الفكرة إلى حيز الواقع، وليس هناك أمة لديها ما لدى أمتنا من رصيد ضخم من النصوص والنظريات والأحكام التي ينعقد عليها كل تأسيس أو تخطيط لوضع المزيد من مشاريع التجديد والنهوض، إلا أن العوق غالبًا ما يتمثل بالفقر المؤلم في فهم روح التطبيق وآليته. [3]

وهذا الفقر المؤلم جعل الخلاف في الرأي بابًا للتعصب المذهبي، لدرجة أن بعض المقلدين من الفقهاء نظروا إلى أقوال أئمتهم كما ينظرون إلى نص الشارع، فوقفوا جهدهم العلمي على نصرة مذهب إمامهم، وترويجه، وبذلوا كل ما في وسعهم لإبطال مذهب المخالف وتفنيده، فهذا «عبد الله الكرخي» وهو أحد المتعصبين لمذهب أبي حنفية يقول: «كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ».[4]

وها هو «ابن رشد» الذي مات في عام 1198م، بعد أن طرده الغوغاء من مسجد قرطبة، وتم نفيه مرتين: الأولى من قبل السلطة الحاكمة وهو في عمر السبعين إلى قرية «الليسانة» اليهودية، والمرة الثانية بعد موته عندما تم نفي واستبعاد فكره وفلسفته، نجد ابن رشد حاضرًا في جدارية «مدرسة أثينا» الشهيرة لرسام عصر النهضة الإيطالي «رافائيل»، الذي جمع في مكان واحد كل المفكرين والعلماء الذين أثروا في الغرب، كما نجده في الكوميديا الإلهية لـ «دانتي»، في فصل خاص أسماه  دانتي الـ «ليمبو» (بمعنى: البرزخ)، حيث سمح للصالحين من غير المسيحيين بحياة لائقة بعد الحياة، ونجد هناك ثلاثة مسلمين، ابن رشد، وابن سينا، وصلاح الدين الأيوبي. [5]

إنها نقطة الانكسار في منحنى التطور التاريخي، لحظة انقلاب القيم داخل حضارة معينة، وهنا نحن لا نواجه تغيرًا في النظام السياسي، بل إن التغير يُصيب الإنسان المتحضر ذاته، الإنسان الذي فقد همته المُحضرة فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع، لذلك ليس من الصواب أن نبحث عن النظم بل عن العوامل الإنسانية المتمثلة في عجز الإنسان عن تطبيق مواهبه الخاصة. [6]

حتى إن المسلمين «هجروا القرآن إلى الحديث، ثم هجروا الحديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين، ثم هجروا المقلدين وتزمتهم إلى الجُهَّال وتخبطهم». [7]

وهم لا يدركون أن «النقل» دون إعمال العقل يعني التوقف بالنصوص عند فترة تاريخية، ما يجعلها نصوصًا تراثية تفقد قدرتها على توجيه الحاضر وترشيد حركته، لأن ذلك مرهون بقدرة العقل على فهم معطياتها وتكييفها وتحقيقها في الواقع، وهذا يتطلب اجتهادًا بشريًّا يهدف إلى فهم معطيات النصوص ويحقق للشريعة تجددها واستمرارها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، خاصة «أن العقل الذي توصَّل بعلمه ومشاهداته وخبراته إلى أن الإنسان كان جوهره التغير، وهذه الحقيقة تُحتِّم أن تكون القواعد التي يخضع لها متغيرة بدورها، فالعقل البسيط والمباشر يأبى أن يكون هناك في المجال البشري، ما يصلح لكل زمان ومكان، ما دام الإنسان ذاته قد طرأت عليه تغيرات أساسية في الزمان والمكان». [8]

مقياس الحق والباطل

والاجتهاد الذي يحقق للنصوص تجددها واستمرارها لكل زمان ومكان يتطلب عقلًا، والعقل العربي تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء، وتلك النظرة كانت سببًا في ضياع الأندلس وسقوط بغداد في يد هولاكو ثم بوش الابن رغم ما بينهما من قرون طوال. ونقصد بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم، التي يتخذها ذلك التفكير مرجعًا له ومرتكزًا، وهذه النظرة تكون في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها.

إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضيفه عليه الشخص -المجتمع والثقافة- صاحب تلك النظرة، أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية تُحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه، وهي نظرة فلسفية تجرد الأشياء من عناصرها الظاهرة لتبحث عن ماهيتها وجوهرها.

والنظرة المعيارية للعقل العربي أبرزها النقَّاد القدماء أمثال الجاحظ، والذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات الشعوبية، ربما لم يكن منتبهًا إلى أنه يسلبهم القدرة على التعقل بمعنى الاستدلال والمحاكمة العقلية، إن العقل العربي -حسب الجاحظ- قوامه البداهة والارتجال، وهو يريد بذلك سرعة الفهم وعدم التردد في إصدار الأحكام، وهذا معناه تحكم النظرة المعيارية التي تؤسسها ردود أفعال آنية، وذلك مقابل النظرة الموضوعية التي قوامها المعاناة والمكابدة وإجالة النظر، التي يجعلها الجاحظ من خواص العقل عند العجم من فرس ويونان. [9]

لذا عندما استخدام العرب منتجات العقل اليوناني من فلسفة ومنطق صدرت فتاوى تحريم الفلسفة وتكفير الفلاسفة، وإهالة التراب على مدرسة العقل في الإسلام «المعتزلة»، الذين قالوا إن الحسن والقبح ذاتيان في الأفعال، أي أن الخير والشر يرجعان إلى صفة هذه الأفعال وليس لأن الشرع أمر أو نهى عنها، وأن الشرع يأمر بالفعل لما فيه من حسن، وينهى عن الفعل لما فيه من قبح، وأن العقل مُكلَّف ورود الشرع، وأن الإنسان سيُحاسب على أفعاله حتى لو لم يصله شرع. [10]

وعلى ابن رشد ومقولته: «الحسن ما حسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحه العقل. الله لا يمكن أن يعطينا عقولًا، ويعطينا شرائع مخالفة لها». [11]

فحكم الشرع لا يخالف حكم العقل؛ فـ «المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابًا للعبادة المفروضة». [12]

وهذا العقل تمت إهالة التراب عليه منذ قرون وحتى الآن، لأنه لا يصلح أن يكون مقياسًا للحق والباطل، لا يصلح أن يكون مقياسًا للعقائد –الإلهيات والنبوات والأخلاق- ومن هنا انطلقت فتاوى تحريم الفلسفة وتكفير الفلاسفة.

رغم أن الفلاسفة المسلمين اتخذوا العقائد الدينية التي جاء بها الإسلام بمثابة مسلَّمات انطلقوا منها للدفاع عن الإسلام في وجه عقائد ومذاهب وأديان اتخذت من الفلسفة والمنطق اليونانيين أدوات للدفاع -عن نفسها- أي أنهم انطلقوا مما هو مسلم عند هذه العقائد والمذاهب (الفلسفة والمنطق اليونانيين)، ليصلوا به إلى ما هو مسلم لدى «الدين الإسلامي»، أي أن المسلم المشتغل بعلم الكلام يُسلِّم أولًا بوجود الله ثم يحاول إقامة الأدلة على وجوده، بينما الفيلسوف المسلم لا يُسلِّم بشيء عند البداية ثم يحاول البرهنة على وجود الله، ويُقرِّب الأستاذ «أحمد أمين» هذه الفكرة بالمقارنة بين القاضي الذي يبدأ باتخاذ موقف محايد ثم يتبع الأدلة حتى يصل لبراءة أو إثبات التهمة على الجاني، والمحامي الذي ينطلق من البداية من مُسلَّمة وهي براءة المتهم. [13]

وما جعل الفلسفة تزدهر بالعلوم الفقهية والكلامية وعلم أصول الدين، هي فلسفة الإسلام لأنها تقوم على القرآن وفلسفته.

وهو ما يؤكده ابن تيمة بـ «جواز الإشغال بعلم الكلام لإحقاق الحق وإبطال الباطل، إذا لم يُقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني المقررات الباطلة». [14]

إلى أن جاءت فتاوى ابن الصلاح ومقولته: من تمنطق فقد تزندق. وأيضًا فتواه في مشروعية الاشتغال بالفلسفة حيث يقول: الفلسفة أُس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيع والزندقة. [15]

وهي الفتاوى التي ما زالت حاضرة بقوة رغم كل تلك القرون، لتزداد الفجوة الزمنية داخل المجتمع اتساعًا بين هؤلاء الذين تثقَّفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة فيُصفقون للمتبع، ويستعيذون بالله من ابن سينا والفارابي وابن رشد، ويحاربون كل من أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، لأنهم حكَّموا تقاليدهم ولم يحكموا عقولهم. وبين الذين تثقَّفوا ثقافة أجنبية بحتة فانفصلوا عنَّا، وما الإسلام بالنسبة لهم إلا خانة في بطاقة الهوية، فلا يعرفون الجاحظ، والمعري، والفارابي.

ولا يعرفون أن الحضارة الغربية قامت على جهود العلماء المسلمين، «الذين كان باستطاعتهم أن يحوِّلوا النصوص إلى قيم تمشي على الأرض، بعد أن تنامى لديهم فهم عالٍ للواقع الاجتماعي والنفسي للجماهير فأمكنهم أن ينهضوا بالأمة أو أن يحافظوا على عمتها المحضرة الفاعلة». [16]

لذا كان ابن رشد حاضرًا في لوحة مدرسة أثينا مع أرسطو وأفلاطون، وكذلك وضع «دانتي» ابن رشد وابن سينا وصلاح الدين في الـ «ليمبو»، اعترافًا بفضلهم على الغرب، بينما المسلمون يستعيذون بالله من الفلسفة والفلاسفة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. على عزت بيجوفيتش، “الإسلام بين الشرق والغرب”، الطبعة الثانية، دار النشر للجامعات مصر، 1997، ص23.
  2. أحمد أمين، “فياض الخاطر، مؤسسة هنداوي، ص41.
  3. فارس عزيز المدرس، “الرؤية الآن” دار الكتاب الثقافي، ص40.
  4. محمد المنسي، “التفسير الفقهي”، مكتبة الشباب، ص23-24.
  5. دانتي أليغييري، “الكوميديا الإلهية: الجحيم”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص124-126-127.
  6. مالك بن بني، “واجهة العالم الإسلامي”، ص24.
  7. محمد الغزالي، “كيف نتعامل مع القرآن”، نهضة مصر، ص28.
  8. فؤاد زكريا، “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة”، ص12-13.
  9. محمد عابد الجابري، “نقد العقل العربي (1)”، مركز دراسات الوحدة العربية، ص23.
  10. صبري محمد خليل، “الفكر الفلسفي الإسلامي”، دار جامعة الخرطوم للنشر، ص21.
  11. نوال حسن البحطيطي، “العلوم عند العرب والمسلمين”، دار الخليج، ص52.
  12. ابن رشد، “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، دار الكتب العلمية ببيروت، 1996، ص393.
  13. صبري محمد خليل، “الفكر الفلسفي الإسلامي”، دار جامعة الخرطوم للنشر، ص4-5.
  14. المرجع السابق، ص8.
  15. أحمد فايز العجارمة، “الرشدية عند الجابرية”، دار البيروني، ص103.
  16. فارس عزيز المدرس، “الرؤية الآن” دار الكتاب الثقافي، ص40.