منذ سنوات قليلة أطلق أحد الفنانين الشباب حملة بعنوان «عايز مسرح»، كان الغرض منها انتقاد الوضع المسرحي الخامل إبداعياً رغم التراكم الإنتاجي الكبير الذي شهدته السنوات الأخيرة، ما بين عروض البيت الفني للمسرح، وإنتاجات المستقلين، وفرق الهواة، والنوادي الثقافية، والمراكز الإبداعية.

ظل شعار «عايز مسرح»محفزاً بالنسبة للكثيرين لاعتباره ذا دلالات تتجاوز مجرد المطالبة بتوافر خشبة للبروفات والعروض، أو مساحة للوصول إلى شرائح معينة من الجمهور الذي لا تستهويه نوعيات المسرح –الكوميدي تحديداً- الذي تقدمه الدولة في محاولة لاستنساخ نجاح «المسرح السياحي» الرديء الذي شوه وجه المسرح المصري خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات.

وعلى الرغم القفزات النوعية في مجالات الديكور، والسينوغرافيا، والإضاءة، وعناصر التأليف والإخراج خلال تجارب الكثيرين داخل وخارج البيت الفني للمسرح، ومن أجيال جديدة مغامرة أو مخضرمة تريد تجديد دمائها، فإننا نجد أنفسنا نعود خلال كل موسم للبحث عبر الخشبات الكبيرة ووسط الإمكانيات الإنتاجية الضخمة –بالنسبة للميزانيات المتوفرة- عن عروض ذات عمق حقيقي، وشكل طازج، وبراح تأويلي وشعوري فائر، فلا نجد إلا تجارب قليلة بالمقارنة لأسماء تلمع فوق الأفيشات يتم الحشد لها إعلامياً وتسويقياً دون أن يكون للمحتوى الذي تضمه أي انعكاس فكري براق على وجدان المتلقين أو الشرائح الراغبة في ممارسة فعل المشاهدة الأصلي، وليس الفرجة بمعناها السطحي الفاتر.


لم تكن فرصة سعيدة في تلك الليلة

تلك الليلة، فرصة سعيدة، أحمد بدير، مسرح الهناجر، مسرح السلام، محمد الصاوي، فتوح أحمد
مسرحية تلك الليلة، ومسرحية فرصة سعيدة

العنوان السابق بالطبع هو صيغة تهكمية فرضتها علينا مشاهدة عرضين من العروض التي لمعت دعايتها فوق بوابات اثنين من أهم مسارح الدولة خلال الشهر الحالي، ونقصد بهما عرض «فرصة سعيدة» تأليف وإخراج «محمد جمعة»، وبطولة أحمد بدير على خشبة مسرح السلام، وعرض «تلك الليلة»، تأليف وإخراج محمد عبد الخالق، وبطولة مجموعة من الفنانين على خشبة مسرح الهناجر.

ينتمي العرضان إلى نوعين مختلفين من المسرح؛ فالأول هو عرض كوميدي هزلي ذو طابع إنساني، والثاني هو ميلودراما اجتماعية تحمل بعض الظلال السياسية.

لكن على الرغم من اختلاف الأنواع، فإن كلا العرضين يلتقيان في العديد من النقاط الشكلية، ويكمن تلاقيهما الأساسي في أن كليهما يدفعان المتلقي المهتم بالمسرح إلى أن يعيد تذكر جملة «عايز مسرح» ليضيف عليها عدداً من الممنوعات أو العناصر التي لا يريد أن يراها على الخشبة مجسدة من خلال سرديات من المفترض أن يتم توظيفها من أجل إمتاعه لا الحط من شأن أفكاره ومشاعره.

يفتقد عرض «تلك الليلة» إلى مخرج آخر لنص محمد عبد الخالق، بينما يفتقد عرض «فرصة سعيدة» إلى وجود كاتب بجانب المخرج محمد جمعة

على مستوى الشكل فإن طاقة التأليف والإخراج لفرصة سعيدة وتلك الليلة اضطلع بها فنان واحد، فكما سبق أن ذكرنا أن النص والإخراج لمحمد عبد الخالق في تلك الليلة ومحمد جمعة في فرصة سعيدة، أي أن مسئولية كتابة النص وتجسيده بصريًا تقع على عاتق مخيلة ورؤية شخص واحد، وهو ليس عيبًا في حد ذاته، ولكنه يتحول إلى كارثة إذا كان الفنان المسرحي يفتقد إلى واحدة من الميزات الإبداعية التي تخص الكتابة أو الإخراج.

وفي حالتنا هذه فإن تلك الليلة يفتقد إلى مخرج آخر لنص عبد الخالق، بينما افتقد المخرج محمد جمعة إلى وجود كاتب بجانبه ليضطلع بصياغة فكرة العرض التي يبدو أنها مأخوذة بشكل ما من رائعة تشارلز ديكنز «أناشيد عيد الميلاد»،حيث العجوز المريض الشرير الذي يدخل في رحلة استرجاعية طويلة ليرى فيها حياته بكل مساوئها قبل أن تقبض روحه، لكي يستيقظ في اليوم التالي لتلك الليلة – ليلة عيد الميلاد- وقد أدرك حجم حماقته وشره، وصار يعرف قيمة الخير والشر في الحياة.

تأخذنا هذه الإشارة عن الاستلهام غير المعلن لرواية ديكنز في فرصة سعيدة إلى المقاربة الشكلية بين الزمن الدرامي والسردي لكل من العرضين، حيث يدور كل من تلك الليلة وفرصة سعيدة من خلال فلاش باك استرجاعي، سواء على مستوى ذاكرة شخص واحد؛ هو العجوز المريض أحمد بدير في فرصة سعيدة، وصاحب الشاليه الثري في تلك الليلة، بل إن كلا العرضين يدوران على مستوى الزمن الدرامي في ليلة واحدة، بينما سرديًا ينتقلان إلى عدة أزمنة ماضية موزعة بشكل خطي كما في فرصة سعيدة، حيث محطات حياة البطل منذ الطفولة إلى الشيخوخة، أو مفتتة كما في تلك الليلة، حيث الانتقال بين الماضي البعيد (20 عامًا) والقريب (ليلة اجتماع الأصدقاء في الشاليه)، بل محاولة صناعة فلاش فورورد أي زمن مستقبلي بصورة مربكة ودون داعٍ درامي أو فكري حقيقي متصل بموضوع العرض.


أسئلة الكوميديا والزمن والرسالة

لم يذهب كلا المخرجين –اللذين هما كاتبا النص- إلى ما هو أبعد من حدود الآمن والعادي والتقليدي، سواء على مستوى المحاولات الكوميدية في فرصة سعيدة، والتي من الصعب أن نطلق عليها مواقف مضحكة، أو على مستوى الشعارات المكررة في تلك الليلة عن الازدواجية المجتمعية بين صورة الشخص أو المنصب الذي يشغله أو المهنة التي يمتهنها، وبين حقيقته الداخلية المشوهة وشراسته الباطنية في الدفاع عن باطل أفكاره وأنانيته.

لم يحاول المخرج محمد جمعة في فرصة سعيدة أن يأخذ بطل العرض أحمد بدير إلى ما هو أبعد مما كان يقدمه بدير نفسه طوال سنوات على خشبات المسرح السياحي في الكثير من مسرحياته، خاصة تلك التي راح يعتمد فيها بشكل أساسي على الخروج عن النص، والإفهيات المكشوفة ذات المعنين، والسخرية المستمرة والمهينة من زملائه في العرض (ويكفي ما فعله بالممثل الكوميدي الجميل محمد الصاوي الذي يصل إلى درجة من سوء الوضع في هذا العرض بجعله مجرد دمية لرمي الإفهيات عليها بصورة مبتذلة) ناهينا بالطبع عن أسلوبه المعتاد في التعامل مع الممثلات الشابات من حوله في العرض، خاصة اللائي يرتدين ملابس تسمح بالتحرشات اللفظية والفعلية في إطار الهزل العام للعرض.

ثمة فارق شاسع بين استدعاء المشهد الشهير لأحمد بدير في دور الشاويش عبد العال وهو يفطر يوم صباحيته مع سهير البابلي في دور سكينة، ورفضه التام ومقاومته لخروج البابلي عن النص واتهامها له بالأكل المستمر دون أن يبادلها الديالوج الخاص بالمشهد «المخرج قال لقمتين واتكلم»، وبين مشاهدة بدير في فرصة سعيدة ومن قبلها غيبوبة، وقد أصبح الخروج عن النص هو أسلوبه الوحيد والأساسي، ولا نقول الارتجال لأن الارتجال فعل درامي يصب في مصلحة الشخصية والعرض، أما الخروج عن النص فهو يصب في مصلحة الحضور الخاص للممثل المعروف في لغة أهل المسرح «بالسوكسيه».

وكأنهما ممثلان مختلفان لا علاقة بينهما سوى الطول المفرط والصوت الطريف، وكأن بدير الحالي – صاحب نظرية الخروج عن كل شيء على الخشبة- يستغل الاسم الذي صنعه بدير السابق الأكثر التزامًا وطرافة وقدرة على الإضحاك دون افتعال أو ابتذال أو معاكسات لا تنتهي لكل أنثى على الخشبة أو في الصالة.

أكثر ما بدا مؤلمًا في تلقي فرصة سعيدة هو تلك المشاهد التي اعتبر فيها المخرج أن ظهور بدير وفتوح أحمد ومحمد الصاوي كأطفال في المدرسة سوف يفجر الضحكات، لكنه في الحقيقة كان مفجرًا لقدر هائل من ثقل الظل والسماجة والافتعال، والغريب أن عرض تلك الليلة لمحمد عبد الخالق حمل مشهدًا مماثلًا عندما عادت شخصيات العرض بالذاكرة إلى وقت شبابهم في الليلة التي أقدموا فيها على مواقعة إحدى العاهرات بالتناوب، حيث كان على مجموعة العرض أن تبدو أصغر سنًا ومرحًا وشبابًا، وهو أيضا ما حمل الكثير من الافتعال، لكنه بالطبع لم يكن بقدر ابتذال ودمامة مشاهد الطفولة المشوهة لبدير ومجموعته في فرصة سعيدة.


السرد بين المعالجة السينمائية والمسرحية

الارتجال فعل درامي يصب في مصلحة الشخصية والعرض، أما الخروج عن النص فهو يصب في مصلحة الحضور الخاص للممثل المعروف «بالسوكسيه».

نتوقف قليلًا أمام اختيارات صناع العرض لطبيعة الشكل السردي لكلا العرضين وارتباطه بالتيمة الأساسية والفكرة العامة للعرض، لقد وقع اختيار كلا المخرجين على أفكار تبدو أكثر اتساقًا مع المعالجة السينمائية منها للمعالجة المسرحية التي يلزم فيها المخرج نفسه بفريق عمل واحد لا يتبدل مهما اختلفت الشرائح العمرية للشخصية أو الشخصيات الدرامية.

فمجموعة تلك الليلة هي مجموعة يتم استدعاؤها عبر ذاكرة الثري صاحب الشاليه الذي يتذكر بدون مناسبة تلك الليلة التي قتل فيها أصدقاؤه المرأة التي عادت بعد عشرين عامًا لكي تطلب منهم أن يعترف أحدهم بأبوته للطفلة التي كانت ثمرة ليلة أخرى – قبل العشرين عامًا- أي أننا أمام ثلاث ليال؛ الأولى هي ليلة التذكر، والثانية هي ليلة القتل، والثالثة هي ليلة التناوب على العاهرة وقت أن كانوا شبابًا، وكل ليلة من تلك الليالي تستدعي مرحلة عمرية والفارق الزمني عشرون عامًا تقريبًا، وإذا تجاوزنا عن الليلة الأولى التي يظهر فيها الثري العجوز بمفرده، فإننا من الصعب أن نتجاوز الليلة الأساسية وقت أن كانت المجموعة شابة تستعد لممارسة فحولتها على عاهرة تم شراؤها لهذا الغرض.

هذه معالجة كانت تستلزم من أجل تحقيق الإيهام والإقناع والإتقان أن تبدو المجموعة شابة بالفعل لا ممثلين في سن الكهولة يدعون أنهم شباب؛ لأن في هذا ثقل ظل وحضور وافتعال بين.

ويمكن بنفس القياس طرح ذات الرأي فيما يخص فرصة سعيدة، وهو ما أشرنا إليه في الفصل الخاص بطفولة الشخصية الرئيسية ومجموعة الأصدقاء في المدرسة، وهذا الكم من السخافة الذي انهال علينا بسبب تمثيلهم لأدوار أطفال.

هذه المعالجات والأفكار والتيمات المختارة التي يلعب فيها الانتقال الزمني دورًا واضحًا تعكس عدم فهم حقيقي لطبيعة المسرح أو تساهلًا مع الشكل المسرحي والصورة المسرحية واستخفافًا واضحًا بوعي وعقول الجمهور الذين لم يعد حضور الكبار في ملابس الصغار يقنعهم أو يضحكهم أو يستهويهم من الأساس، لقد تغير الجمهور وتغيرت ذائقته ولكن خشبة هؤلاء الفنانين غير مدركة لهذا التغيير أو معترفة به.

فالوطن من كثرة تشبيهه بالنساء والعاهرات المغتصبات والمعتدى عليهن – من وقت حركة يوليو ونكسة 67- أصبح نموذجا للتمييز العنصري في الدراما

كل من فرصة سعيدة وتلك الليلة عرضان يبدوان وكأنهما يقدمان قبل ثلاثين عامًا على الأقل، فلا طزاجة في الكوميديا، ولا معاصرة في طرح الرسالة الاجتماعية، في تلك الليلة نحن أمام أمثولة تقليدية جدًّا تكاد من فرط كونها مكررة أن تبدو بلا معنى، فمجموعة الأشخاص التي تلتقي بناء على دعوة من أحدهم ليمثل كل منهم تيارًا أو نموذجًا أو كيانًا اعتباريًّا (رجل دين، ورجل قانون، ورجل شرطة، وفنان، بالإضافة إلى المضيف الثري الذي يمثل رجل مال) ثم تسقط الأقنعة عنهم عندما يواجهون بخطأ ارتكبوه في الماضي، فيقررون قتل المرأة التي أخطئوا جميعًا معها، هي رسالة لم تعد ذات تأثير تطهيري يمس المتلقي.

والذهاب في تأويل الجريمة إلى أن هؤلاء قتلوا الوطن بفسادهم أو زيفهم أو أنانيتهم –على اعتبار أن الوطن هو عاهرة جاءت بأجر إلى ليلتهم الاحتفالية قبل سنوات- هو مزايدة في التكرار والنمطية والسذاجة الفكرية، فالوطن من كثرة تشبيهه بالنساء والعاهرات المغتصبات والمعتدى عليهن –من وقت حركة يوليو ونكسة 67- أصبح نموذجًا للتمييز العنصري في الدراما، بل إن القول بأن الوطن هو العاهرة/الراقصة المتناوب عليها في تلك الليلة هو حط من شأن الوطن نفسه، وليس من شأن الشخصيات التي تناوبت ممارسة الرذيلة معها بالأجر، ثم عاد الوطن ليطالبهم بتسديد الثمن بأن يتبرع أحدهم للفتاة التي قد يكون أباها من أجل إنقاذ حياتها.

معادلة مؤدلجة تحمل قدرًا كبيرًا من لي عنق الأفكار والمراهقة السياسية، خاصة عندما يتكرر فعل القتل الذي هو بالفعل غير الهين، ليس فقط مع السيدة صاحبة الفضيحة المنتظرة، بل مع سائق التاكسي – الذي يوصل أحدهم- والذي يقوده سوء حظه نتيجة لإمانته إلى العودة للشاليه مرة أخرى، لكي يقوم بإرجاع موبايل الضابط – ببراءة وسذاجة درامية تفيد الإشارة إلى أنهم لم يرحموا أمانته ولا براءته – لتقوم المجموعة بقتله، حتى يزداد الرمز تأكيدًا والرسالة رشقًا في عقل المتلقي، فهم لم يقتلوا العاهرة رمز الوطن فقط، ولكن سائق التاكسي رمز المواطن الغلبان، صاحب الأسرة التي يجب أن يكون أحد من أفرادها يعاني من مرض ما، أو في حاجة ماسة للمال، كعادة كل رموز المواطنين المطحونين، منذ أن ظهرت بثور الميلودراما الاجتماعية على وجه الفن المصري.

وربما كان أبرز ما خرج به العرض عن السياق التقليدي هو أنه بقصد أو دون قصد أعفى رجل المال من الأزمة الأخلاقية وجريمة القتل، بل جعله أول المدافعين عن العاهرة وأول من ذهب لكي يحاول اكتشاف أبوته للفتاة، وهو الوحيد الذي بقي لكي يتذكر ما حدث في تلك الليلة، وعادة ما تضع هذه النصوص المال ضمن سياقات الفساد الاجتماعي إلى جانب مدعي الدين وأصحاب السلطة والنفوذ والمشاهير، ولكن هنا خرج المال من سياق الفساد، وأصبح هو المدافع عن الأخلاق والفضائل الاجتماعية الغائبة.

لم يعد من المنصف أن نطلق على العروض التي تشبه فرصة سعيدة أنها عروض كوميدية، أو أن نتعامل مع عرض مثل تلك الليلة على اعتبار أنه يطرح قضية وطن أكله مدعو الشرف وممثلو العدالة والثقافة والدين، فالأفكار لا تتخذ قيمتها في الفن من ذاتها، ولكن من طزاجة معالجتها وقوة الشكل وتماسك المضمون واستجابته لفرضية أن الجمهور يتطور ويزداد وعيًا وتطلبًا على مستوى الإيهام العام والإقناع الخاص، وكل من فرصة سعيدة وتلك الليلة نموذجان للعديد من العروض التي تقدم خلال المواسم المسرحية المختلفة على مدى العام، فهما ليسا بالحالات الخاصة أو الاستثنائية، ولكنهما يمثلان توجهًا عامًّا لدى الكثير من صناع المسرح في مصر.