دافعَ الكثير عن الأطروحة القائلة بـ«نهاية السلفيّة» أو «ما بعد السلفيّة» وهاجمها آخرون، وقد اقتنعتُ منذ الثورة أنّ الأدوار التقليديّة للسلفيّ معرفيّاً تَشظّت مع الثورة التي طرحت أسئلة من نوعٍ جديد على الساحة. إلّا أنّ التشظّي السّلفيّ بعيد عن أنّه كان موجوداً بالأساس قبل الثورة وما زال، كان مثله مثل «تشظيات» أخرى لتيّارات فكريّة، لا سيّما إسلاميّة، لم يكن أمامها سوى قول شيء جديد حتى ولو كان بائساً ومنفلتاً من زمام أيّ منطقٍ أو سياسة.

إنّ أحمد سالم وعمرو بسيوني في كتابهما المشترك الذي يحمل اسم «ما بعد السلفيّة: قراءة نقديّة في الخطاب السلفيّ المعاصر» على حقّ في إثباتهما أنّ التشظّي السلفيّ حادثٌ لا محالة، وهو الأمر الذي عارضه الكثيرون بالزّعم أنّ الأصول ثابتة، وما حدث ليس سوى هامشٍ يمكن تصحيحه وإرجاعه إلى جادّة الفكر السلفيّ. والحال أنّ مَن أخذوا الكتابَ على أنّه شهادة وفاة للسلفيّة، برأيي، لم يتدبّروا قليلاً أطروحة الكتاب المركزيّة، وأُغرقوا في تفاصيل كثيرة أعتقدُ أنّ الباحثيْن أيضاً ساهما في إحداث هذا الغرق بشكلٍ ما.

غير أنّي أودّ الأخذ بأطروحة سالم وبسيوني إلى نطاق آخر، يبعد قليلاً عن الاستجابة الإيجابيّة والسلبيّة التي قُوبلَ الكتابُ بها، لأقول إنّ الكتاب هو بمثابة حوار داخليّ واستشرافٍ لمآل البيت السلفيّ في مهبّ التيارات الجديدة التي أحدثتها ليست الثورات فحسب، وإنّما المناخ الفكريّ للخطابات الإسلاميّة الجديدة أيضاً والتي اجتذبت الكثير لعصرانيّة رؤاها وحداثتها، حتى وإنْ بدت مزعومة. إنّ «ما بعد السلفيّة» كتابٌ يخبرنا أنّ التقليد الخطابيّ السلفيّ شأنه شأن تقاليد أخرى يواجه زحزحات ومناوشات خارجيّة وداخليّة، وأنّ التيّار الأرثوذكسيّ في هذا التقليد الخطابيّ سيبقى، على عكس ما فهمَ كثيرون من الكتاب، حتى وإنْ ظلّ بمعزلٍ عن المجتمع.

يختلطُ التحليل التاريخيّ بالتحليل المعياريّ في كتاب ما بعد السلفيّة، بالإضافة إلى أنّه كتابٌ في تاريخ تقليد خطابيّ يُسمّى «السلفيّة»، فإنّه أيضاً ينطوي على أحكامٍ معياريّة لهذا التقليد في جزءٍ منه، ويحاكم خطاباتٍ معاصرة أخرى تدّعي انتهاج هذا التقليد واتّباعه. وبالتالي، لا يمكن بالنسبة إليّ فصل خطاب «ما بعد» الذي يطرحه سالم وبسيوني دون التفاتٍ إلى الـ«ما قبل» الذي استفاضا في تبيانه. ورغم التفاصيل التي يموجُ بها الكتاب، إلّا أنّ الطرح في أغلبه طرحٌ فكرانيّ يرتكز على تحليل أفكار هذا التقليد الخطابيّ الكبير للسلفيّة.

قد يكون من المستغرب أنّ كتاباً يبلغ السبعمائة صفحة يحمل عنوان «ما بعد السلفيّة» لا يحدّثنا عن هذا الـ«ما بعد» سوى في ثلاثين صفحةٍ، لكنّي لا أورد ذلك كمَذمّة كأغلب من انتقدوا الكتاب؛ إذ أرى أنّ الاستفاضة في تشريح هذا التقليد الخطابيّ الواسع والمتنوّع، من إصلاحيّ إلى قتاليّ وما بينهما، هي المنجز الحقيقيّ للكتاب، حتى ولو كان الكتابُ صامتاً صمتاً مطبقاً عن ضروبٍ أخرى للتحليل، خاصّة الاجتماعيّ والسياسيّ لما بعد الثورة لغلبة التحليل الفكريّ على الكتاب.

إنّ الاستشراف يعني أن نكون في موقع الإزاحة لنراقب التمفصلات والقولبات والتغيّرات في الأنظمة الخطابيّة المنبثقة، لا في «القطع» بما ستكون عليه.

ويمكن الاستدلال سوسيولوجيّاً وأنثربولوجيّاً على ما بعد السلفيّة، وإنّ الكتاب لمحقّ في ذلك. لقد سميتُ هذه الظاهرة في مقال بعام ٢٠١٤ «السلفيّ الأخير؟»، لكنّني لا أعرفُ ما هو ما بعد الأخير تحديداً، لأنّني أؤمن أنّ ما يحصل في الممارسة يشكّل كثيراً مما يحصل في الفكر، ولذا فالممارسة ستنبئنا عن تشكّلات جديدة للسلفيّ (لا أقصد الشخص، بل المقولة)، ربّما يكون الكتاب قد ذكرها في الأخير استشرافاً لا تحقّقاً. بيد أنّ الأفول حصلَ للسلفيّة التقليديّة، ومَن يعارض ذلك بأنّها قولبت نفسها في أشكالٍ جديدة يناقض نفسه؛ وذلك ببساطة لأنّنا نرى «القولبة» هي عينُ الـ«ما بعد» بالضبط، والتي ستتمخّض عنها أنواع جديدة ربّما لا تكون سلفيّة بالضرورة.

لقد عرفنا منذ أمدٍ أنّ التقاليد الحيّة هي التقاليد المتّسمة بالحجاج والجدال، ولا يُثرى التقليد إلّا بمثل ذلك؛ لأنّه ليس شيئاً ثابتاً بمقدار ما أنّه يُكيّف ثباته في السياقات التي يحيا بها. وإنّ الاستشراف يعني أن نكون في موقع الإزاحة لنراقب التمفصلات والقولبات والتغيّرات في الأنظمة الخطابيّة المنبثقة، لا في «القطع» بما ستكون عليه. وهذه أهميّة الكتاب برأيي.

يخبرنا أحمد سالم وعمرو بسيوني أنّ السلفيّة لم تختفِ منذ القِدم، حتى في وقت ازدهار المعتزلة (تجربة المأمون)، والأشعريّة في الحقبة الوسيطة، ومع التيارات الإصلاحيّة سواء أكانت إسلاميّة أو علمانيّة في القرن التاسع عشر والعشرين. ويحاجج سالم وبسيوني بأنّ السلفيّة لن تختفي، ويبدو الحجاج كأنّه حتميّ للوهلة الأولى، مرتكزيْن إلى أصالة السلفيّة في المنتج التراثيّ الإسلاميّ كتقليد خطابيّ واسع يجد مساحة كبيرة داخل التراث حتى وقتنا الحالي، وأيضاً لاجتذابه الحديث والمعاصر وتنوّعه عبر العالم الإسلاميّ. ويدرس الكتاب ما سيحلّ «بعد» السلفيّة، ولكن ثمّة نقطة لم يلتفت لها قرّاء الكتاب تقريباً، رغم جلائها، وهي أنّ ما سيحلّ ما بعد السلفيّة قد يكون سلفيّاً أيضاً، وذلك لـما سأسمّيه وأشتغل عليه في هذا المقال بـ«موقف التشظّي» الذي أرى أنّه بحاجة إلى مزيد بيان وتحليل، لأنّ الكتاب غلبَ عليه تصنيف المقولات والتيارات أكثر، برأيي، من الاستفاضة في هذا الموقف الذي أحاول مستعيناً بآليات الكتاب أن أوضّحه، واضعاً إيّاه في سياقٍ أوسع للفكر والنّظريّة.

إنّني أتعامل مع السلفيّة هنا على الكتاب باعتبارها «تقليداً خطابيّاً»، وهذا سيتيح لي القول: إنّ لكلّ تقليد خطابيّ نواته المركزيّة التي يدور حولها، وهي تلك النواة التي لا نفترض أنّه يحاول التماسّ معها، بقدر ما يحاول تفعيلها في الواقع عبر أنظمة للخطاب والحقيقة داخل التاريخ. لا أقول إنّ نواة السلفيّة غير تاريخيّة، حتى لا أُفهَم خطأً، ولكنّي أقول إنّ النواة المركزيّة التي تدور عليها هي ممارسات ونصوص (منها الوحي وغيره) ومقولات عَقديّة بُنيت في العقود الأولى تفتقد، عكس التيارات الفكريّة الأخرى، للانتظاميّة والنسقيّة، وإنّما هي أفكار حول العقيدة والإيمان في أغلبها بسيطة، يمكن استيعابها لكلّ المسلمين. وهذا مَكسب للسلفيّة، كتقليدٍ، لا عليها كما سأحاول البيان.

إنّ أغلبَ الذين يدرسون التقاليد الخطابيّة للإسلام (بما فيها السلفيّة والاعتزاليّة والأشعريّة والشيعيّة، إلخ) يمجّدون الفكرَ الانتظاميّ النّسقيّ العقلانيّ على غيره، ومن هنا كان ولعُ المستشرقين ومتّبعيهم المسلمين الحداثيين بالاعتزال كنسق اعتقاديّ فلسفيّ. بيد أنّني أحاول أن أسحبَ حجّة سالم وبسيوني عن تماسك السلفيّة واستمرارها عبر التاريخ لحجّة حديثة نسبيّاً لم يدرسها الكتاب ولم يعرّج عليها، ألا وهي: الاعتقاد والممارسة. إنّنا نظنّ أنّ استمرار السلفيّة كان، فكريّاً، لأنّها لم تكن مدرسة فكريّة وفلسفيّة تفهم الدين كـ«اعتقاد» متعالٍ، وإنّما كممارسة حيّة. وفقاً للسلفيّة، لا تهمّ المقولات، وإنّما النوايا والأفعال السليمة التي تتّسق مع أفعال الرسول – عليه الصلاة والسلام – وصحابته والتابعين. وبالتالي، فإنّ المقولات الكلاميّة غير حاسمة بالنسبة إليها، بل كان الرفض لها هو من باب أنّها «أفكار» لا غير، ولا تغني في مسألة تجميع المسلمين على كلمة سواء والحضّ على الفعل والممارسة.

إنّ أغلبَ الذين يدرسون التقاليد الخطابيّة للإسلام يمجّدون الفكرَ النّسقيّ العقلانيّ على غيره، ومن هنا كان ولعُ المستشرقين ومتّبعيهم المسلمين الحداثيين بالاعتزال كنسق اعتقاديّ فلسفيّ.

صحيحٌ أنّ الفصل بين الاعتقاد والممارسة فصل حديث، لكنّه فصل مهمّ وضروريّ؛ حيث إنّ التقاليد الدينيّة الكبرى عموماً لا تنطبق عليها صيغة واحدة من صيغ فهم الدين، بل إنّ هذا الفصل نفسه تمخّض عن البروتستانتيّة الحديثة ورؤيتها للتقاليد الدينيّة الأخرى، سواء أكانت مسيحيّة أو غير مسيحيّة. فإيلاء الضمير والاعتقاد المنزلة الأعلى، بله التفضيل، على الممارسة هو تصوّر حديث له جينالوجيا بروتستانتيّة لا تنسجمُ وتقاليد دينيّة أخرى لا تفصل الممارسيّ عن الاعتقاديّ، وهذه نقطة بحاجة إلى توسعة في مجال آخر.

أرتكزُ إلى طلال أسد في هذه الفكرة بشكلٍ كبير، لأنّه وفّر لنا فهماً عميقاً لمسألة الاعتقاد كفعلٍ نظريّ وبين الممارسة كشيء ملازم لأيّ تقليدٍ خطابيّ. وعليه، لا يهمّنا ما نبنيه نحن عن «السلفيّة» بقدر ما نودّ فهم كيف اشتغلت ومارست ووجّهت وضبطت ذوات وممارساتٍ وأفعالاً. وبالطبع، هذا لا يعني أنّ السلفيّة لم تنطوِ على تأسيسات كلاميّة نظريّة، ولكنّها ارتكزت بالأساس على التوجيه الأخلاقيّ والممارسيّ للذوات. ولا يمكن فهم المحاولات التيميّة بتجميع هذه النواة المركزيّة إلّا في ضوء ذلك، كمحاولة نظريّة أخيرة تجاه خصوم السلفيّة الذي لطالما احتجّوا عليها بشتاتها ولا نظريّتها.

إذا عدنا إلى السياق المعاصر، وإلى نصّ سالم وبسيوني، يمكننا القول إنّ النواة التي يدّعيان أنّها سـتتشظّى ما هو إلّا أمر يحصل لكلّ تقليدٍ خطابيّ يُمفصل نفسه في خطاباتٍ اجتماعيّة وسياسيّة وعقيديّة عبر التاريخ. بمعنى آخر، إنّ ما بعد السلفيّة ستكون لا محالة، كما تنبّأ الباحثان، محاولة لأخذٍ شيءٍ من هذه النواة وتوفيقها مع خطابات أخرى يُظَنّ فيها الاقتراب من النواة الأصليّة. وهنا صلب حجاج الكتاب. فالتقاليد الخطابيّة لا تتكرّر كما هي، وهنا محطّ نقدنا للسلفيّة التقليديّة، بل تُسيِّق نفسها في شروط جديدة للخطاب، هذا الخطاب نفسه محكوم عليها سلفاً بأفق تاريخيّ واجتماعيّ وسياسيّ ودينيّ معيّن. ومن هنا، لا تغدو التقاليد نقيّة، ولا هي ملوّثة حتى لا يفهم خطأ أصحاب التفكير الثنائيّ. أنّها جداليّة وسياقيّة بالأساس.

لا ريبَ في أنّ التّماس مع فكرة أوليفي روا حول «ما بعد الإسلامويّة» مفيد ههنا، وهو ما ناقشه الباحثان على عجلٍ في الكتاب، ولم يستوفيا، برأيي، نقداً كافياً للفكرة، بل أجدُ أنّ نقدَ الكتاب للفكرة ناقص بجلاء. وذلك لأنّ روا وغيره يفترضُ أنّ الإسلامويّة التقليديّة شيءٌ ضدّ العلمنة، وضدّ الحداثة والديمقراطيّة. صحيحٌ أنّ هناك خطاباتٍ تؤيّد ما ذهبَ إليه، لكن لا يمكن فصل الإسلامويّة منذ نشأتها عن العلمنة بحالٍ من الأحوال، وهو ما آخذُه على سالم وبسيوني حينما لم يتطرّقا إلى هذه النّقطة، كأنّهما سلّما بكلام روا. فليست العلمنة ضدّاً للدين، أو هكذا ظهرت عربيّاً وإسلاميّاً. والحال أنّ مقولات الإسلامويّة الأساسيّة وتصوّرها للدين إنّما هو نفسه نتاج للعلمنة التي وفدت في القرن التاسع عشر، بل إنّ مقولات مثل «تطبيق الشريعة» لا يمكن فهمها إلّا في ضوء هذا السياق العلمانيّ الذي يقنّن الدينَ، ويفهمه كنسقٍ، وكشيفرات يمكن تقنينها في قوانين لتطبّق عبر نظامٍ حديث يُدعى القانون.

تكادُ تجمع الإسلامويّة على صيغة التقنين مع اعترافها باجتماعيّة الإسلام وذيوعه عبر قنوات الاجتماعيّ والسياسيّ، لكن ما يهمّنا هو بالأخير الصياغة الفعليّة المنجزة لتصوّرهم عن الدين. لقد عارض وائل حلاق فهم الدين باعتباره «قانوناً»، بل يمضي حلّاق في «ما هي الشريعة؟» ليقول إنّ هذا الفهم هو نتاج لاستشراق سُلَّم بها وتمّ استبداهه والعمل وفقاً له دون مساءلة. وعندما ندرس فهم الإسلام حديثاً نفهم كيف تتعالقُ المقولات ضمن السياق العلمانيّ الذي لا تنفصل المقولات بعضها عن بعض بهذا الشكل الذي يظهره لنا روا ويمضي على إثره آخرون.

إنّ ما أُطلِقَ عليها إسلامويّاً بإصلاح الدين لم يكن سوى العلمنة في أتمّ صورتها، والعلمنة إسلاميّاً هي إصلاح الإسلام عن طريق التمايز؛ أي تمايز الاجتماعيّ (البرّانيّ) عن الفرديّ (الجوّانيّ). صحيحٌ أنّ الإسلامويّة ادّعت كثيراً أنّ الإسلام يشمل الحياة بأكملها، ولكنّ ذلك سيكون عبر «نظام»، وهذا النّظام حديث يفهم الدين، إبستمولوجيّاً، بصورة معيّنة. وعلى ذلك، فلا يمكن فهم الإسلامويّة التقليديّة بعيداً عن ذلك. وهذا إنْ رجعَ إلى شيء، فإنّما يرجع إلى التحليل الثنائيّ للمقولات لدى روا وغيره ممن يفهمون المقولات بصورة ثنائيّة: تقليد/ حداثة، إسلامويّة/ علمانيّة… إلخ.

عوداً إلى «موقف التشظيّ»، أرى أنّ الكتاب على حقّ في إثبات هذا التشظي، مثله مثل التشظيات الأخرى التي دخلت فيها التيارات الأخرى. ربّما هو موقف يَشرط حياتنا المعاصرة، خاصّة بعد ٢٠١١. لكن لماذا حصلَ هذا التشظي، ولماذا أفلتَ منه تيار داخليّ تقليديّ ولم تفلت منه تيارات أخرى؟ إنّ ما بعد السلفيّة يقول لنا ما سيحلّ بعد هذا التشظّي (تيارات سياسيّة، وإصلاحيّة، وتنويريّة، إلخ)، لكنّه يصمت صمتاً مطبقاً عن أسباب حصول التشظي، إنّه يفترض التشظي كواقعة، كموقف، كشيء تمّ دون بيان أسبابه. والحال أنّ الاجتماعيّ والمُشاهد يؤيّده، لكنّ التحليل الفكريّ، الذي غلبَ على الكتاب، صمتَ عنه، في حين أجاد بتهيئة المناخ لما بعد السلفيّة جيّداً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.