الوجود الشيعي في العراق يمتاز بصورة كبيرة عنه في باقية دول الوطن العربي وذلك يعود لكون الطائفة الشيعية تبلغ تقريبا نصف سكان الدولة.اختلف وضع الشيعة في العراق باختلاف الأنظمة الحاكمة، ويمكن التركيز هنا على نقطتين، الأولى: تولي محمد محمد صادق الصدر المرجعية الشيعية بالنجف، والتي تعد نقطة تحول في التواجد الشيعي بالعراق، فقد قاد صادق الصدر مشروعا إصلاحيا جمع في طياته بين الفكر الثوري للإمام الخميني والإنتاج الفكري لمحمد باقر الصدر، وبهذا خرجت تجربة عراقية خالصة لتجديد فقه الشيعة وربطه بالواقع المحيط به.والثانية تتعلق بالمستقبل السياسي للشيعة بالعراق عقب توليهم مقاليد الحكم نظرا لضخامة التحديات التي تواجههم.


الصدر والمرجعية الناطقة

«إن محمد وعلي بن ابي طالب من الحوزة الناطقة»

بهذه الكلمات أعلن صادق الصدر عن حربه على المرجعيات الدينية الموجودة في العراق وقتها، والتي وصفها بـ«الحوزة الصامتة» للإشارة إلى نهج عملها الذي يتميز بالهدوء والصبر في مواجهة نظام صدام حسين.

أبو القاسم الخوئي

واستغل دعم نظام البعث لوجود مرجعية عراقية بدلا من توالي رجال الدين الإيرانيين على كرسي المرجعية وآخرهم أبو القاسم الخوئي، وتجلى هذا الدعم في السماح للصدر بالسيطرة على إدارة المدارس الدينية ومنح إجازة دخول الحوزة العلمية والإقامة في العراق للطلبة غير العراقيين، والتوسع في طبع كتب وفتاوى الصدر، وامتد التأييد إلى الدعم المادي بتخصيص مليوني دينار دعما شهريا.ولتحقيق مرجعيته الناطقة سعى الصدر إلى نشر تعاليم الإسلام وتربية الأطفال تربية دينية تضمن التزامه في سلوكه الشخصي، كذلك التأكيد على أن الإسلام نظام متكامل لشتى جوانب الحياة.واهتم الصدر بضرورة التوسع في مجال البحث الإسلامي بما يساعد على توسيع قواعد التشريع بما يتوافق مع متطلبات العصر، كذلك فقد أرسل علماء إلى كافة أنحاء العراق لممارسة مهامهم التبليغية، وأنشأ المحاكم وفقا لمذهب الشيعي، كما أقام صلاة الجمعة وأَمّها بنفسه في مسجد الكوفة وأمر بتعميمها.في المقابل، سخر الصدر كل السبل لترسيخ وضعه ومكانته بما يمكنه من محاربة نظام صدام البعثي، وظهر ذلك في قيادته المظاهرات التي خرجت في شهر شعبان حين طلب صدام منع المسيرة الشعبانية نحو الإمام الحسين، لكن استطاعت قوات الجيش إخماد المظاهرات وتم القبض على الصدر.كذلك عندما رفض وكلاء الصدر تعليمات الحكومة العراقية بضرورة الدعوة لــ صدام حسين في صلاة الجمعة، ونتيجة لرفض هذا الطلب تم ضبط عدد من الوكلاء.كل ذلك خلق حالة من العداء مع المرجعيات الشيعية الموالية لإيران والتي أطلقت على الصدر «فقيه السلطة» وعمدت إلى تشويه صورته، كذلك مع النظام البعثي الذي رأى فيه تهديدا لوجوده واستقراره.وانعكست سياسة الصدر في لغز مقتله، حيث رأى البعض أن المخابرات الإيرانية وأعوانها وراء حادثة الاغتيال بسبب محاولة تعريب المرجعية مما يمثل خطرا حقيقيا على إيران ومخططاتها.بينما يرى فريق آخر أن النظام العراقي كان يقف وراء الاغتيال بعد استشعاره الخطر من قوة الصدر وانتشار اتباعه في كافة البلاد، ويستدل هذا الفريق على صحة نظريته بالتعامل العنيف الذي تلقاه أنصار الصدر عقب المظاهرات التي خرجت في كافة أنحاء العراق تنديدا باغتيال المرجع الشيعي.


الشيعة ونظام صدام

يري فريق من الشيعة أن نظام صدام لم يكن طائفيا لا يميز في معاملته بين السنة والشيعة، نظرا لانتشار وجود الشيعة داخل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، كما أنه استعان بالقبائل الشيعية لمجابهة تمرد 1991 في جنوب وشمال العراق.على جانب آخر، يتهم آخرون نظام صدام حسين بمعاداة الشيعة لتدعيم حكم حزب البعث، ونظرا للتقارب الكبير بين الشيعة وإيران، ويدفع هذا الفريق عن وجهة نظره بخلو المناصب الرئيسية في الحزب والدولة من العناصر الشيعية، وحرمان مناطق الوسط والجنوب من الخدمات، إلى جانب اتهام السلطة البعثية بالتخلص من رجال الدين الشيعة في العراق.وفي عام 2003 أضفى التدخل الأمريكي في العراق وإزاحة نظام صدام بعدا جديدا على وجود الشيعة وتحولهم من جبهة معارضة تسعى لنيل حقوقها إلى كيان يسيطر على الدولة العراقية، خاصة بعد أن إعلان الولايات المتحدة أن الشيعة هم الغالبية في العراق، وتم تشكيل مجلس الحكم العراقي على أساس المحاصصة الطائفية، وتم تخصيص 13 مقعدا للشيعة و5 مقاعدللعرب السنة ومثلهم للكرد ومقعد واحد للتركمان ومثله للأشوريين، وكان ذلك إعلانا عن بداية مرحلة جديدة لنظام حكم يعتمد الطائفية في توزيع المناصب.


الشيعة والانقسام الداخلي:

كانت سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي خير دليل على النعرة الطائفية والتحيز، فقد تعامل مع مطالب السنة وانتفاضتهم بالقمع والسجن والقتل والتعذيب، بتهمة الإرهاب والارتباط بتنظيمات إرهابية مثل تنظيم “القاعدة”، ذلك التعامل الذي فجر العديد من التظاهرات والاحتجاجات السلمية والمسلحة في عام 2013، وأدت في النهاية إلى ظهور تنظيم داعش الذي استطاع السيطرة على معظم الأراضي العراقية، كذلك فقد ساعد فشل حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي في تنفيذ إصلاحات حقيقة على تفاقم الأوضاع بين جميع الأطراف.والمتأمل هنا يرى أن الشيعة تواجه خطر الانقسام الداخلي بسبب الصراع على السلطة بين العبادي وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بسبب الخوف من خروج العبادي من عباءة حزب الدعوة، الذي تولى حكم العراق منذ عام 2005، وتشكيل تيار عراقي غير طائفي.ويظهر هذا الخلاف واضحا في العلاقة المحتدمة بين الحكومة والبرلمان ودعوات سحب التفويض البرلماني الممنوح للعبادي بشأن تنفيذ حزمة الإصلاحات التي وعد بها.لذلك يسعى أنصار المالكي إلى دفع البرلمان لسحب الثقة من العبادي، الأمر الذي يهدد بحدوث فراغ دستوري يسمح لقادة الفصائل العسكرية الشيعية من الموالين لإيران للسيطرة على مقاليد الامور، أو قد يحدث الأسوأ باقتتال «شيعي – شيعي» بين مؤيدي العبادي، وعلى رأسهم تغييب المرجع الأعلى السيد السيستاني، وبين مناصري المالكي.أزمة غير مسبوقة تشهدها الأحزاب الشيعية في العراق تنذر باقتراب نهاية ما يعرف بتجربة «الحكم الإسلامي» بعد أن فقدت تلك الأحزاب ثقة الشارع وأصبح قادتها رموزا للفشل والفساد، إلى جانب فشل مرجعية النجف إيران في وقف هذا الصراع وفي فرض الانضباط داخل “العائلة الموسّعة” لتلك الأحزاب.ولا يخفى على أحد أن الصراع مع «السنة» هو الخطر الأكبر الذي يهدد الوجود السياسي للشيعة، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي وانتشار العمليات المسلحة بين الجماعات السنية المليشيات شيعية، المتهمة بارتكاب عمليات قتل وتعذيب وتدمير ممتلكات في حق السنة خاصة في محافظة ديالي.


الوجود الشيعي وداعش:

أبو القاسم الخوئي
أبو القاسم الخوئي
مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية دفعت المرجعية الشيعية بالاتفاق مع الحكومة العراقية على تأسيس الحشد الشعبي، الذي تحول إلى مليشيات نظامية ترعاها الحكومة العراقية بل وتدافع عنها ضد الاتهامات المتواصلة بارتكاب جرائم حرب ضد السكان العرب السنة في المناطق التي تستولي عليها من تنظيم الدولة، في مقابل ذلك فشلط مبادرة إنشاء الحرس الوطني العراقي الذي يقوم على أساس قومي عراقي لا على أساس طائفي.كما اتجهت الشيعية العراقية للتصادم مع المجتمع الكردي، وهو حليف الولايات المتحدة الرئيس في الحرب ضد «الدولة الإسلامية»، خاصة بعد اتهام رئيس كردستان مسعود البرزاني، بالتنسيق مع أبرز البعثيين السابقين، وأصدرتا تحذيرات صارمة ضد أي تحركات كردية في كركوك.ومن المتوقع أن يأخذ الصراع تقسيما جديدا، فنجد «حشدا سنيا» مقابل «حشد شيعي»، و«الحشد الكردي» أمام «الحشد العربي».كما نجد أن هناك توجه أمريكي لدعم القبائل السنية بعد أن أدركت استحالة القضاء على داعش بدون مشاركة هذه القبائل، كذلك تخشى الولايات المتحدة من تصاعد النفوذ الإيراني خاصة مع انتشار المليشيات الشيعية التي وصلت إلى 50 كتيبة وتدين كلها بالولاء التام لطهران.وتسعى واشنطن في 2016 إلى إعداد مشروع الدولة السنية في مرحلة ما بعد داعش بدعم من دول عربية سنية في المنطقة.

إجمالا، الوجود الشيعي في الحياة السياسية يواجه أكبر تحدٍ له منذ سقوط نظام صدام، سواءً على صعيد خلافات حزب الدعوة الذي ينبأ باقتتال «شيعي – شيعي»، أو عدم تحقيق مصالحة بين السنة والشيعة بما ينبأ بتصاعد الخلاف بينهما والدخول في صراع مسلح، الأمر الذي سيدفع بعض دول الخليج للتدخل لمنع مذبحة ضد السنة، فيما تدعم إيران الحكومة الشيعية، ويصبح الحل الأمثل تقسيم العراق لدويلات “سنة وشيعة وأكراد»، ذلك التقسيم من شأنه القضاء على هيمنة الشيعة وحصرهم في مناطق الجنوب.