في التاسع من يونيو/ حزيران عام 1982 شهد التاريخ أكبر معركة جوية حتى الآن، بين القوات الجوية السورية وسلاح الجو الإسرائيلي. ساعتين فقط فقدت القوات السورية 90 طائرةً من أصل 170، ولم تفقد إسرائيل طائرةً واحدة، ساعتين فقط خسرت سوريا 15 بطارية دفاع جوي من أصل 19 بطارية هي كل ما تملك سوريا، دون أن تُخدش البطاريات الإسرائيلية. بعد تلك الحادثة تغيرت العقيدة السورية بشأن الدفاع الجوي للأبد.

أدركت سوريا حينها أنه من المستحيل مواكبة إسرائيل في امتلاك طائرات وأسلحة جوية بهذا التطور، لذا تخلت عن حلم الندّية أو توازن القوى إلى حلم ردع القوة الإسرائيلية. صارت سوريا مالكةً لأشد منظومات الدفاع الجوي كثافةً في الشرق الأوسط وكامل آسيا، ترابض آلياتها عند مدخل البحر المتوسط غربًا، وجهة إسرائيل جنوبًا، ثم أُعيد تمركزها لتكون في محيط حلب وحماة ودمشق، ومنطقة الساحل وجوار هضبة الجولان، وأخيرًا في قاعدة طياس الجوية.

قوات الدفاع الجوي كانت في البداية هيئةً مستقلة داخل القوات المسلحة السورية، لكن تم دمجها في القوات الجوية السورية لتنفصل عنها مرةً أخرى وتبقى كيانًا مستقلًا يوشك أن يكون جيشًا منفردًا.وصفها مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، في جلسة استماع للكونجرس في مارس/ آذار2012 بأنها أكثر تطورًا بخمس مرات مما امتلكته ليبيا عام 2011، وأقوى 10 مرات مما اختبره حلف شمال الأطلسي «الناتو» في صربيا.

سلاح الجو التابع للقوات المسلحة يبلغ قوامه 40 ألف عنصر، بينما قوات الدفاع الجوي تتألف من 60 ألف جندي عامل، بجانب 20 ألفًا في صفوف الاحتياط، يتوزعون على 25 لوءًا. تمتلك قوات الدفاع 150 بطارية صواريخ أرض- جو، تتباين بين صواريخ منخفضة الارتفاع وأخرى للارتفاعات المتوسطة والشاهقة. بالإضافة إلى أكثر من 2000 مدفع مضاد للطائرات، وما يربو عن 4000 صاروخ أرض- جو. لا تنسَ أن هذه الترسانة الهائلة تتواجد في دولة مساحتها 185 ألف كيلو متر فقط.


ما قبل الـ «إس 300»

القوات السورية على وشك تسلم منظومة الـ «إس 300» الروسية، ما يُعتبر نقلة نوعية للدفاع الجوي وللعلاقة المتينة بين الدولتين، لكن نقلات مشابهةً حدثت في الماضي أيضًا لا تجعل تسلم الـ «إس 300» أمرًا مفاجئًا. حصلت سوريا منذ سنوات على نظام «بوك- إم 2» لتضيفه إلى نسخته الأولية التي امتلكتها أيضًا وهي «بوك- إم 1».

منظومة بوك متوسطة المدى يمكن حملها على مركبات مختلفة، قادرة على الاشتباك مع الطائرات المقاتلة أو العادية، تواجه كذلك الصواريخ البالستية والعادية، كما يمكنها الاشتباك المباشر مع 24 هدفًا منفصلًا في نفس الوقت ضمن نطاق 54 كيلو مترًا، كذلك تملك سوريا منظومة الـ «إس 200»، وتمتلك منظومة بانتسير القادرة على مواجهة أي هدف على بعد 20 كيلو مترًا أو على قرب 200 متر، وتشتبك إذا كان ارتفاع الهدف 15 كيلو مترًا أو خمسة أمتار، إضافةً إلى ذلك فإن سوريا تمتلك ثمانِ منظومات صواريخ أرض- جو من طراز «إس-125».

أيضًا تملك سوريا قاذف ستريليتس القادر على تدمير أهداف جوية مختلفة على مدى 5 كيلو متر، لكن المميز فيه أنه قابل للحمل على سيارات الدفع الرباعي العادية أو سيارات الشحن الخفيفة. ستريليتس أثار استياءً إسرائيليًا شديدًا حين عرضته القوات السورية في أبريل/ نيسان 2018 ضمن أسلحتها.

والآن تتدخل الـ «إس 300» إلى المشهد؛ منظومة قادرة على مواجهة 36 هدفًا في آن واحد، على بعد 300 كيلو متر، وعلى ارتفاع يبدأ من عشرة أمتار وحتى 30 كيلو مترًا. لغير المتخصص يمكن القول إجمالًا إن قدراتها تفوق الـ «إس 200» بـ 6 أضعاف، وأن بإمكانها تغيير اتجاهها بعد إطلاق النار من جهة إلى جهة أخرى بسرعة كبيرة، ما يجعلها قادرة على حماية محيطها بشكل دائري فعال.


الردع أم القمع؟

لم تستفد سوريا من تلك المنظومات المتقدمة كما كانت ترجو، المواجهات البشرية بلا طائرات تجعل منظومات الدفاع الجوي بلا فائدة. بل على النقيض، عانت تلك المنظومات أعطابًا فنية كثيرة بسبب استهدافها بمدافع المعارضة أو إصابتها عرضيًا بسبب حدوث اشتباكات في محيطها. لكن هل تنفع تلك المنظومات إذا افترضنا أن الهدف منها ليس قمع الداخل بل ردع الخارج؟ بمعنى أن سوريا لا تبادر لهذه المنظومات من أجل تدمير المعارضة المسلحة بل من أجل منع أي تدخل خارجي جوي ما يعطيها الفرصة للقضاء على المعارضة الداخلية بالبراميل المتفجرة.

للإجابة على هذا الافتراض يمكن تبني ثلاث وجهات نظر مختلفة؛ الأولى أن هذا الدفاع الجوي الكثيف والمتشابك يمثل ضمانةً ضد أي هجوم جوي، كما أن اتساع رقعة الدفاع الجوي تجعل استهداف منشأة معينة مسألةً انتحارية لن تقدم عليها الدول الأخرى، إضافةً إلى أن السيطرة الجوية ستكون مستحيلةً، فلا يمكن للدول الغربية أن تتحدث عن ضربة جوية تستمر لعدة أيام.

وجهة النظر الثانية تقول بأن الغرب لا يخشى الترسانة الجوية السورية، وأن الأمر مجرد فزاعة إعلامية، وأن الرادع الحقيقي هو الصواريخ البالستية التي طورتها سوريا على مدار عقود، إذ إن بإمكانها الرد على من يعتدي عليها.

أما الثالثة فترى أن الدول الغربية لن تتدخل بشكل مباشر في سوريا، ولن توجه إليها قصفًا جويًا عنيفًا أو مستمرًا. لكن ليس السبب هو دفاعها الجوي أو صواريخها البالستية، السبب هو الخشية من خروج الأمور عن السيطرة ونشوب حرب إقليمية لا تحب الدول الأجنبية مواجهة آثارها.

إذا اعتبرنا العام الماضي والجاري هما ذروة قوة الدفاع الجوي السوري، فإن تتبع المهام التي قام بها في العامين تخبرنا أن القدرة الجوية قد تطورت بشدة لكنها ليست وقائيةً تمامًا كما يُسوق النظام السوري. في 7 أبريل/ نيسان 2017 أطلقت الولايات المتحدة 59 صاروخ توماهوك، أسقطت منه الدفاعات الجوية 32 صاروخًا وأصابت البقية أهدافها.

وفي 10 فبرابر/ شباط 2018 أسقطت الدفاعات الجوية طائرة إسرائيلة من طراز إف-16. وفي 4 أبريل/ نيسان 2018 أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا 103 صاروخ من طراز كروز وتوماهوك،أسقطت منهم الدفاعات السورية 71 صاروخًا؛ ما يعني تطورًا ملحوظًا في قدرة الردع الجوية، لكنه يثبت أيضًا أن الضربات الغربية المُكثفة يمكنها إحداث ضرر جسيم في الدفاع السوري إن هي أرادت.


إسرائيل

في العام 2013 جمدت روسيا تسليم «إس 300» لسوريا بناءً على طلب إسرائيل، ثم أحيت روسيا الصفقة مرةً أخرى بعد قولها إن إسرائيل هي المسئولة عن سقوط الطائرة الروسية الأخيرة بأسلحة الدفاع السورية. روسيا تقول إن إسرائيل استخدمت طائرتها كوسيلة للاختبار من الردارات السورية ما اضطر الطرف السوري إلى التعامل مع الأمر الواقع.

اقرأ أيضًا:بلادنا كمختبرٍ للأسلحة: متى يمكن أن نحلم بعالم سعيد؟

مهما يكن الدافع وراء انتقال المنظومة الأكثر تطورًا إلى جوار إسرائيل، فإن روسيا قد أصيبت بالحرج الشديد حين تواترت الأنباء أن القوات الإسرائيلية استطاعت بالفعل التوصل إلى طرقٍ تمكنها من تجنب الإصابة بصواريخ المنظومة الروسية، المحاولات الإسرائيلية بدأت منذ أن باعت روسيا منظومتها إلى قبرص.

لذا فالواقع يخبرنا أن الشرق الأوسط، مختبر الأسلحة البائس، على وشك أن يكون حلبة مصارعة لرد الاعتبار بين تقنيات عسكرية شديدة التطور؛ مقاتلات الهجوم الإسرائيلية ومنظومات الدفاع الروسية.