القصة

يحكى أن رجلًا لقي امرأة فائقة الجمال في الطريق بين مكة والطائف، فتبعها يريد أن يعرف دارها فيخطبها من أهلها، فلما أحست به وقفت له وسألته ماذا يريد؟ فقال إنه يريد الزواج بها، قالت لماذا؟ قال لأني أحببتك مذ رأيتك، قالت له: ماذا أحببت في؟ قال: جمالك الأخاذ. قالت: أما علمت أن أختي أجمل مني؟ انظر إليها ها هي تقف خلفك. فالتفت الرجل ينظر فانصرفت الفتاة مسرعة مستغلة التفاتته، غير أنه لم يجد أحدًا خلفه كما ادعت الفتاة، فهرول خلفها قائلًا: لقد كذبت علي ولم أجد خلفي أحدًا حين التفتُ أنظر. قالت له: بل بدأت أنت بالكذب وقلت إنك تحبني، ولو أحببت حقًا ما التفت.

هكذا لخص أهل الله كثيرًا من حكم الحياة وقواعد السير إلى الإله العلي القدوس، سبحانه وتعالى، قالوا: «إن الملتفت»، أي المشغول بالدنيا وزخرفها وزينتها وشهواتها وملاهيها وملاعبها؛ لا يصل، أي لا يحصِّل الحكمة ولا تشرق في قلبه الأنوار ولا يصل إلى حضرة جلال كرامة الملك القهار، سبحانه عز وجل.

ثم قالوا: «إن المشكك لا يفلح»، أي أن الله، تعالى، لا يُجرب، فلا تُعامِل ربك، سبحانه، تعامل المرتاب بل بقدر ثقتك ويقينك وحسن ظنك وتمام توكلك يكون فلاحك ونجاحك ووصولك وقبول عملك.

وأخيرًا قالوا: «من لم يعرف من نفسه النقصان فكل أوقاته نقصان»، أي أن الناظر إلى نفسه بعين الكمال هالك بلا احتمال، فشر الخلق من رضي عن نفسه وأحسن الظن بها، فهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه كما أخبرنا ربنا في قرآنه[1]، لذلك كان أول العقل اتهام النفس وسوء الظن بها، إذ إنها أمارة بالسوء، من أطاعها أهلكته ومن عصاها وخالف هواها فلعله في أول طريق النجاة إن شاء الله.

دعونا نعود إلى أول العبارة مرة أخرى، «ملتفت لا يصل»، إنها كلمات قليلة، لكنها تحمل من أنوار وأسرار الحكمة الشيء الكثير، إذ أعظم آفات الدنيا أنها غرورة مشتتة ملهية صارفة بكثرة ملذاتها عن اتباع الحق والنور والهدى، ومانعة بزخارفها وبهرجها وأضوائها اللامعة من سلوك طريق الحكمة، حتى يظن المفتون بها أنها دار مستقر، وأنه باق فيها مخلد، والحق الذي لا مراء فيه أنها ليست إلا معبرًا وممرًا وطريقًا، وأنها سريعة الانقضاء والزوال، وأن العاقل من جعل عيشه فيها كفافًا وجعل الآخرة همه ومراده، كما قال الإمام الشافعي، رضي الله عنه:

إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنا طلَّقوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا

وقد وردت الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تلح على توضيح هذه الحقيقة، وتهتف في عباد الله أن أجيبوا داعي الله وآمنوا به، واجعلوا الهم همًّا واحدًا هو هم الآخرة، وتوجهوا بكليتكم إليها، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الشيطان الغرور[2]، ولكن شواغل الدنيا تأبى استمرار هذا التوجه، بل تحاول الدنيا بكل زخرفها وزينتها أن تغر السالك إلى ربه فيحبها ويركن إليها ويسعى للبقاء فيها، ولكن الحسرة كل الحسرة أنه بمجرد الإقبال عليها تزهد فيه وتحتقره وتذيقه ألوان العذاب ولا تستقر في يده، إذ إنها لعوب سريعة التحول، وما أصدق قول تميم البرغوثي إذ يقول في بردته:

ضَاقَتْ بِمَا وَسِعَتْ دُنْياكَ وَاْمْتَنَعَتْ ** عَنْ عَبْدِهَا وَسَعَتْ نَحوَ الذي زَهِدَا يا نَفْسُ كُونِي مِنَ الدُّنْيَا عَلَى حَذَرٍ ** فَقَدْ يَهُونُ عَلَى الكَذَّابِ أَنْ يَعِدَا وَلْتُقْدِمِي عِنْدَمَا تَدْعُوكِ أَنْ تَجِلِي ** فَالخَوْفُ أَعْظَمُ مِنْ أَسْبَابِهِ نَكَدَا ولْتَفْرَحِي عِنْدَمَا تَدْعُوكِ أَنْ تَجِدِي ** فِإنَّهَا لا تُسَاوِي المَرْءَ أَنْ يَجِدَا

نعم، هذا هو شأنها وشأن أهلها، أنها تقبل على الزاهد فيها، وتدبر عن الطالب لها، ولا تروي للمستكثر منها عطشًا، ولا تشبع له جوعًا، ولو كان لابن آدم وادٍ كامل من ذهبها وزخرفها لتمنى لو أن له واديان، غير أنه في النهاية لا يملأ فمه ويشبعه وينهي جوعه إلا التراب الذي يأكله في قبره[3].

ولله در القائل:

تأملت والدنيا بها العجب والعَجَب تَروح بلا عُذر وتأتي بلا سبب فلا ظلُّها دان ولو طال أمنُها وسَل عن هَواها كل من ودَها خَطَب ومن كانَ فيها ذا مقامٍ ودولة فخير له جمعُ الفضائل لا الذهب وأن يجعل المعروف والجود نهجه بذلك يسمو لا بجاه ولا رتب ومن عاش فيها يجعل الخير همه فما خاب من للخير قدم واكتسب

أهمية الروتين

ملتفت لا يصل، ومشكك لا يفلح، ومن لم يعرف من نفسه النقصان فكل أوقاته نقصان.

تحدثنا في وقفتنا السابقة عن تجربة المارشميلو: أو الفتى الذي قال لا، وقلنا إن من أهم مهارات الناجحين هي قدرتهم على قول لا للمشتتات والمغريات والشواغل والصوارف من حولهم، وكذلك من أهم أسلحة وأدوات السائرين إلى الله، تعالى، الراغبين في الفوز برضوانه وجنته هي قدرتهم على قول لا للدنيا ولذاتها وشهواتها، ومن أفضل الأمور التي تعين الإنسان الناجح في حياته والراغب في رضوان ربه على قول لا هو الروتين، أو بعبارة أخرى: الانتظام في فعل أمور محددة في أوقات محددة لفترة زمنية طويلة.

وقد قالوا في ذلك عبارة جليلة جميلة هي: «المشغول لا يشغل»، إذ نفسك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وآفة الخاسرين الكبرى هي الفراغ والعطلة، وعلاج ذلك بالروتين والعمل المنتظم المستمر، ولشرح هذه الفكرة أحتاج لمساحة أكبر من المتاحة لهذه الوقفة، فلنجعل ذلك موضوعًا لوقفتنا المقبلة وعنوانها: «عذرًا، هل أنت مشغول؟». فحتى نلتقي هناك على خير كونوا في أمان الله وحفظه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الهوامش:-[1]: قول الله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». سورة الجاثية، آية 23.وكذلك قول الله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا». سورة الفرقان، آية:43.[2]: هذا قول ربنا سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ» سورة فاطر، آية 5 و6.[3]: عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب». حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.