حين بدأ المخرج الأمريكي Rob Reiner العمل على فيلمه «When Harry Met Sally»، كان قد قضى عقدًا من الزمن أعزب بعد انفصاله عن زوجته الأولى والتي قضى معها عقدًا آخر من الزمن. كان رينر في ذلك الوقت وعلى خلفية فوضى حياته العاطفية قد بدأ يتساءل على نحو يائس: كيف يلتقي رجل بامرأة، وكيف يقعان في الحب؟

كان رينر يرى أنه بالإمكان صناعة فيلم ينتمي للكوميديا الرومانسية اعتمادًا على خبراته الشخصية في العلاقات والمواعدات العاطفية، ذلك حين التقى منتصف الثمانينيات كاتبة السيناريو «Nora Ephron»، وهو الاسم الذي سيرتبط فيما بعد على نحو حصري بنوع الكوميديا الرومانسية عبر أعمالها ككاتبة ومخرجة باعتبارها صاحبة بصمة خاصة، وواحدة من القلائل اللذين ضخوا دماء جديدة في واحد من أكثر الأنواع الفيلمية رسوخًا واستمرارًا.

دارت مناقشات مطولة بين رينر وإيفرون حول الصداقة، الحب، والجنس، وعن نظرة الرجل والمرأة المختلفة للأشياء. حاولت إيفرون أن تأخذ هذه الأفكار التي ناقشتها مع رينر إلى مدى أوسع، وقامت بطرحها على كل من تقابله، الأصدقاء والمحيطين بها، التقت العديد من الأزواج الأكبر سنًا، استمعت إلى قصصهم العاطفية، كيف التقوا، وكيف وقعوا بالحب؟

عرض الفيلم للمرة الأولى عام 1989، وحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، ومديحًا نقديًا معقولًا. أثمر هذا التعاون الخلاق بين رينر وإيفرون واحدًا من أكثر الأفلام أيقونية في تاريخ الكوميديا الرومانسية وفي ذاكرة الثقافة الشعبية. هنا وبعد مرور ثلاثة عقود على العرض الأول للفيلم نعاود مطالعته للوقوف على ما منحه هذه المكانة.


محطة مهمة في تاريخ الكوميديا الرومانسية

برز فيلم الكوميديا الرومانسية كنوع فيلمي خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، وهو فيلم يعتمد بشكل رئيسي في سرده على قصص الحب التي تكلل في الغالب بالنجاح في النهاية. يلتقي فتى بفتاة، يقعان في الحب، ثم يفقدها نتيجة عائق ما كي يستعيدها في النهاية بعد زوال هذا العائق أو تغلب البطل عليه.

لكي نفهم نشأة أي نوع فيلمي ومراحل تطوره ينبغي الرجوع إلى سياقه التاريخي، فالكوميديا الرومانسية ظهرت في أعقاب الكساد الاقتصادي الكبير الذي ضرب أمريكا نهاية العشرينيات وكان جزءًا من أيديولوجية هذا النوع الفيلمي هو طمأنة الجمهور وبث نوع من الأمل بداخلهم، كان الأمر أقرب إلى الحكايات الخيالية التي تخبر من ينصت إليها أنه مهما كان العالم سيئًا فإن الخير سينتصر في النهاية، تمامًا مثلما يلتقي هذان العاشقان في النهاية رغم كل العوائق التي حالت بينهما في البداية.

مع نهاية الستينيات وخلال عقد السبعينيات ظهرت مجموعة من الأفلام التي حاولت أن تبدد الوهم البراق لانتصار الحب، أن تتمرد على البنية الكلاسيكية والتقاليد الفيلمية التي حكمت النوع منذ البداية. وصلت هذه المحاولات ذروتها مع فيلم وودي آلن الأيقوني «Annie Hall» الذي عرض للمرة الأولى عام 1977 وحقق نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا.

اقرأ أيضا: «وودي آلن»: خمسون عامًا من السينما

أعاد «وودى آلن» اكتشاف نوع الكوميديا الرومانسية بتحفته «Annie Hall». جلب آلن الكثير من الواقعية وشيئًا من القتامة في رؤيته للعلاقات العاطفية لنوع فيلمي اعتاد على تقديم رؤى مضللة وهروبية إزاء نفس الموضوع. هذا بالإضافة للعديد من الابتكارات السردية والأسلوبية التي ضمنها فيلمه مثلما لم يحدث من قبل في فيلم ينتمي لهذا النوع.

هذه الأفلام الراديكالية التي أتت بقيم مضادة للقيم المؤسسة للنوع الفيلمي وأبدت اهتمامًا واسعًا بالجنس خلال الحوار أو التيمات، كانت تحمل صدى الثورة الجنسية للستينيات وظهور الحركات النسوية التي غيرت الكثير من القيم السائدة في المجتمع الأمريكي.

ثم أتت الثمانينيات، ومع انتشار الإيدز والهلع الذي بثه في النفوس، ومع صعود اليمين المحافظ في السياسة الأمريكية، كان هناك إلحاح على العودة للقيم المحافظة للمجتمع الأمريكي، وهو ما ترك أثره أيضًا على فيلم الكوميديا الرومانسية حيث العودة الثانية للتقاليد الراسخة والمؤسسة.

شكل «When Harry Met Sally» بوابة العبور المثالية بين راديكالية السبعينيات وتقليدية التسعينيات التي تعتبر عقدًا ذهبيًا للكوميديا الرومانسية التقليدية. استعاد الفيلم البنية الكلاسيكية لفيلم الكوميديا الرومانسية مع بعض التلاعب بتقاليد النوع ومسحة من راديكالية السبعينيات تتجلى عبر سعيه نحو الواقعية وانشغاله بالجنس عبر الحوار والتيمات، وهو ما سيختفي تمامًا من أفلام التسعينيات. لا يمكننا تخيل أكثر مشاهد الفيلم أيقونية، حيث تؤدي سالي على نحو زائف وصولها للشبق الجنسي بأحد مطاعم نيويورك دون أن ندرك الأثر الذي تركته سينما السبعينيات الراديكالية على هذا النوع.


البحث عن الأصالة

يكتب روبرت مكي في كتابه «القصة»:

لا تعوق التقاليد الراسخة لفيلم الأنواع العملية الإبداعية بل تلهمها، حيث يكمن التحدي هنا في المحافظة على تقاليد النوع مع تفادي الكليشيه.

لا يزال الفيلم، رغم مرور ثلاثة عقود علي عرضه الأول، يمتلك من الأصالة ما يجعله مستحقا للمكانة التي احتلها في تاريخ أفلام الكوميديا الرومانسية وفي ذاكرة عشاقه. تكمن الأصالة -مثلما يقول «مكي» خلال كتابه المشار إليه سابقًا – في النضال من أجل المصداقية، وهو ما حققته إيفرون على نحو مثالي في نصها.

تتناول إيفرون العلاقة بين «هاري/بيلي كريستال»، و«سالي/ميج ريان» من خلال إطار زمني يمتد 12 عامًا. يلتقيان معًا بداية الفيلم فنكتشف أنه لا أحد منهما يطيق الآخر، ينفصلان ثم يلتقيان بعد خمسة أعوام أخرى، يتعزز لدينا نفس الانطباع الأول. ينفصلان ثانية ليلتقيا بعد خمسة أعوام أخرى لنكتشف أن كليهما انفصل عن شريكه السابق ويعانيان على نحو مختلف من تبعات هذا الانفصال وهي نقطة مثالية لتحقيق تقارب بينهما بعد أن قضى كل منهما عقدًا من الزمن بعيدًا عن الآخر، خلق هذا الزمن المنقضي بداخلهما نوعًا من المرونة في رؤية وتقبل الأشياء. يستغرق ذلك نصف ساعة من زمن الفيلم، بعدها نرى بوادر صداقة تنمو بينهما. هذا التمهل الاستثنائي لتأسيس العلاقة بينهما يمنح الفيلم مصداقية كبيرة.

اقرأ أيضا: «ميج رايان»: حكاية موهوبة راوغتها أنوثتها

تنمو الصداقة بينهما مع وجود شيء ما كأنه الحب يعلن عن نفسه ويتم كبته باستمرار وصولًا لنقطة اللاعودة حين يمارسان الجنس سويًا، وهناك يكتشفان أنه أحيانًا قد تكون الصداقة هي أفضل الطرق للوقوع في الحب. هذه البنية في مجملها هي تنويع جديد على البنية الكلاسيكية للكوميديا الرومانسية.

أحد العناصر الهامة المتضمنة في بنية فيلم الكوميديا الرومانسية هو العائق، القوة المعارضة للحب، وقد شهد تطور النوع تغيرًا في هذه القوة. في كلاسيكيات هذا النوع غالبًا ما كانت قوة خارجية، العداء بين عائلتين، الطبقية، سوء الفهم بين بطلي الحكاية. ثم مع أفلام الستينيات والسبعينيات بدأت هذه القوة تأتي من داخل الشخصيات مستضيئين بنظريات فرويد في التحليل النفسي في فهم الدواخل النفسية للشخصيات وأثرها على العلاقات.

يستمر فيلم «When Harry Met Sally» على نفس المنوال، فما يعوق الحب هنا كامن في طبيعة الشخصيتين وفي نظرتهما المختلفة كرجل وامرأة للصداقة والحب والجنس، أو ربما مثلما يشير «روبرت مكي» في كتابه« القصة» بأنه الاعتقاد بأن الصداقة والحب متعارضان، بينما بإمكان الصداقة أن تصير مدخلًا عظيمًا للحب.

تميل أفلام الكوميديا الرومانسية في الغالب لتنميط وتسطيح شخصياتها على عكس بطلي إيفرون اللذين نجحت في رسم أعماقهما وكشفت ببراعة وذكاء هذه الأعماق عبر الحوار والفعل الدرامي. أسقطت إيفرون أيضًا بعضًا من خصالها الشخصية على سالي ومن خصال رينر علي هاري وهو ما منح الفيلم أيضًا قدرًا من المصداقية والحميمية.

ما يميز النهاية السعيدة لفيلم «رينر- ايفرون» أنها ليست مجرد النهاية التقليدية لفيلم الكوميديا الرومانسية بل تم التأسيس لها جيدًا منذ البداية عبر صورة مفتاحية تتكرر طيلة الفيلم وهي صور تجمع كل معنى وعاطفة الفيلم. هذه الصورة هي اللقاءات المتعددة للأزواج الذين يحكون قصص حبهم، كل زوج منهم يحكي كيف بدأت القصة ويخبرنا أنها مستمرة حتى الآن، يفتتح الفيلم بواحد من هذه اللقاءات وكأنه يهمس بنهايته السعيدة منذ البداية. يمنحنا الفيلم العاطفة التي وعدنا بها سلفا.

مهد النجاح الكبير الذي حققه الفيلم نهاية الثمانينيات لنهضة الكوميديا الرومانسية خلال عقد التسعينيات ودفع بموهبة مثل إيفرون لصدارة المشهد، حيث تحولت من الكتابة للإخراج محققة عملين هما من أبرز أفلام الكوميديا الرومانسية خلال عقد التسعينيات «Sleepless In Seattle»، و«You’ve Got Mail». ولا يزال الفيلم بعد مرور ثلاثة عقود على عرضه الأول جديرًا بالمشاهدة والتأمل باعتباره علامة فارقة في مسار تطور فيلم الكوميديا الرومانسية وشاهدًا على السياق الذي قاد إلى هذا التطور.