فقير لا تجد قوت يومك، يجافيك العالم بأسره، لا يذكرونك في محافلهم إلا بالحروب الأهلية، لا ينظرون إليك إلا باعتبارك معرقلًا لتقدمهم. إذا كنت هكذا، فإذن كل قادم هو خير مما أنت فيه. ولا ملامة أن توالي كل من يخاطبك باعتبارك بلدًا لا متسولًا. كذلك لا غضاضة في محاولات الاستفادة من صراع الدول على شرائك.

هكذا الحال في إفريقيا. القارة السمراء ذات الأرض الحُبلى بالغاز والنفط والذهب والفوسفات والمنجنيز. حتى إن وجدت مناطق لا تحتوي كنوزًا داخلها، فسطحها الصحرواي الشاسع يعطي الطاقة النظيفة عبر الرياح والشمس. رغم هذه الثروات افتقرت الدول الإفريقية إلى اليد الماهرة التي تستطيع أن تحول هذه الثروات إلى أموال ترفع مستوى المعيشة وتنقذ مواطنيها من الفقر.

من هذا الباب دخلت إيران، وحين أدركت المملكة أن وجود إيران في تلك المنطقة يضرها دخلت هي الأخرى. فبدأت معركة لم تنتهِ بين الغريمين. جولات متعددة تتراوح نتائجها بين هذا وذاك.هدف إيران منها بسيطٌ جدًا وواضح للغاية، تصدير الثورة والمذهب الشيعي كغطاء للسيطرة على تلك البلاد والاستفادة من إمكاناتها لتقليل تأثير العقوبات الدولية حال فرضها. احتمال يُدعمه قدرة إيران في الثلاثين عامًا الماضية على تحويل 7 ملايين مسلم إفريقي من المذهب السني المالكي إلى المذهب الشيعي الإثنى عشري.

أما الهدف السعودي فكان في البداية محاربة التصوف المنتشر في إفريقيا عبر نشر السلفية السنية. لكن حين استطاعت إيران في غفلة من السعودية أن تبسط نفوذها بصورة أعمق، صار الهدف السعودي هو طرد النفوذ الإيراني أولًا، ثم تأتي أي أهداف أو نوايا أخرى فيما بعد.


من جدّ وجد

التوغل الإيراني على حساب النفوذ السعودي كان نتيجة منطقيةً لعمل منظم مدروس الخطوات، على النقيض من السعودية التي اعتمدت سياسةً مفتوحةً تقوم على إرسال الدعاة وبناء المساجد والنقد الصريح للمذاهب والعادات المنتشرة في إفريقيا. اعتمدت خطة إيران على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى 1989-1995

حصر النشاط في غرب إفريقيا على العمل الخيري فقط، الاهتمام بالتعليم والصحة دون غيرهما، 68 منشأة صحية من الوحدات الأولية إلى المستشفيات الكبرى، 92 مؤسسة تعليمية من المدارس الابتدائية حتى الجامعات.

المرحلة الثانية 1995-2000

الدخول إلى العمل الاقتصادي بهدوء عبر الأفراد والأعمال الخاصة، تم دعم 8673 مشروعًا تجاريًا بقروض ميسرة للغاية، 130 ألف شخص استفادوا من هذه المشاريع، تحول 87 ألفًا منهم إلى المذهب الشيعي بعد فترة قصيرة.

المرحلة الثالثة 2000-حتى الآن

الدخول في شراكات عملاقة مع الحكومات والقطاع العام. اصطفت إيران لقربها 5 دول إفريقية؛ هم نيجيريا والسنغال في المرتبة الأولى، تأتي بعدهما غانا وبنين والنيجر، أهمية الثلاث دول الأخيرة لإيران ليست بشريةً، إنما اقتصادية نووية. إذ تحتوي تلك الدول الثلاث على احتياطيات ضخمة من اليورانيوم، المعشوق الإيراني للأبد.


نيجريا: النسخة الإفريقية من إيران

زكزكي, نيجيريا, الشيعة, إفريقيا
«إبراهيم زكزكي» مؤسس الحركة الإسلامية الشيعية في نيجيريا

نيجيريا وحدها تحتوي على 5 ملايين شيعي من أصل 7 مليون شيعي في إفريقيا كلها. بدأت إيران الدخول إلى نيجيريا مبكرًا، ربما منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1978. قبل هذا التاريخ بعام أسس «إبراهيم زكزكي» الحركة الإسلامية في نيجريا. ثم توالت السنوات التي شهدت توطدًا للعلاقة بين زكزكي وإيران، حتى صار اسم حركته «الحركة الإسلامية الشيعية» عام 1996.

زكزكي وحركته يمثلان الطالب المثالي الذي ترغبه إيران. الرجل مولع بطهران وعاشق للخميني وراغب في نسخ خطوات إيران بمنتهى الدقة. كان يترجم الأفلام الوثائقية عن زعماء الشيعة إلى اللغة المحلية. كما أصدر مجلة «ميزان» ليخاطب بها السكان المحليين. وصرح أنه يدرب بعض أتباعه ليكونوا حراسًا على غرار الحرس الثوري الإيراني.

دخول إيران المبكر لنيجيريا جعل محاولات المملكة السعودية لتحجيم انتشار التشيع والنفوذ الإيراني صعبًا للغاية.

اتخذت الأمور منحنى عنيفًا عام 2015. احتفالات للحركة بيوم القدس العالمي، ثم فجأة اشتباكات مسلحة مع الجيش النيجيري. 300 قتيل من صفوف الحركة، منهم أبناء زكزكي الثلاثة ونائبه، ثم القبض على زكزكي ليقبع في السجن حتى الآن. بعدها يصدر بيان من الجيش يقول إن التظاهرة كانت محاولة لاغتيال قائد أركان الجيش «توكور يوسف بورتاي».

حينها تدخلت إيران باتهامات صريحة للسعودية بالوقوف وراء الحادث، وطالبت بتعويضات للضحايا الشيعة. لم تلق السلطات النيجيرية بالًا لإيران وقامت بحظر الحركة ثم بعد ذلك بعامين صنفتها كإرهابية. لكن ذلك لم يعق انتشار المذهب الشيعي حتى قالنائب زعيم المسلمين في نيجيريا الشيخ «إسماعيل شعب» إن نحو 20 مليون نيجيري اعتنقوا مذهب أهل البيت نتيجة جهود الشيخ إبراهيم الزكزكي.

اقرأ أيضًا: ماذا لو وقعت الحرب المباشرة بين السعودية وإيران؟

من وجهة نظرٍ سعودية

أبو بكر جومي، ممثل نيجريا في رابطة العالم الإسلامي، يعود إلى بلاده معلنًا تأسيس حركة «إقامة السنة وإزالة البدعة»، وأهم من إقامةِ السنة إزالةُ البدعة، لذا تعرف الحركة اختصارًا باسم «إزالة». الحركة تلقت دعمًا من المملكة السعودية. صاحب «إزالة» كان منفتحًا على المشاركة النسائية في العملية السياسية، ومتمسكًا بالمذهب المالكي دون غيره؛ ما يعني أنه ليس الشخص المثالي للمملكة.

دعمت المملكة بعده جعفر محمود آدم. بعد آدم توالت التغيرات السريعة في الصراع السني الشيعي. 2007 تم اغتيال آدم، بالطبع ألقيت التهمة على الشيعة، وبدأت الحركتان في التلاسن والتحرش. في 2011 بعد هبوب رياح الربيع العربي في الشرق الأوسط خطت حركة زكزكي خطوةً أخرى على طريق التحول إلى إيران، الحركة أصبحت عسكرية. وفي 2013 عثر على مستودع أسلحة يتبع لحزب الله في مقر الحركة.

الفرصة مثالية لنزع الصبغة الدينية عن الحركة. تدخلت السعودية لتدعم نيجيريا في توجهها إلى القضاء على الحركات الشيعية، ما يعني أن الطريق قد خلا لحركة إزالة وزعيمها الجديد عبد الله بالالو. تلك الفصول من صراع الدولتين في نيجريا ليست الأخيرة ولن تكون، إنما معركة دائرة، جولة لإيران وأخرى للسعودية، لكن المؤكد أن دولةً منهما لم تحكم سيطرتها دون الأخرى على نيجيريا.


مالي وأخواتها

مالي تضم ثلاث عشرة مؤسسة ثقافية شيعية تديرها إيران. أهمهم مدارس «المصطفى الدولية»، تختار 180 طالبًا فقط كل عام. تتبع المدارس جامعة قم بشكل مباشر ومعروف، ومن يتفوق من الطلبة يكمل دراسته في إيران، وأثناء الدراسة يدرس الفارسية كلغة أساسية. السعودية لم تصمت، وأنشأت المساجد والمدارس.

اقرأ أيضًا: الأذرع الطويلة لإيران في أفريقيا: مالي تخبرك عنها

أما السنغال فتعتبرها إيران واجهتها على إفريقيا الغربية. ذات أكبر نسبة حاملي شهادات عليا في إفريقيا، وأكثر دولها استقرارًا. استطاعت إيران تحويل نصف مليون سني فيها إلى المذهب الشيعي. أعملت فيها إيران سلاحها الأشد فتًكا، مدارس المصطفى الدولية. تقبل الجامعة 150 طالبًا فقط في السنغال. تمنحهم الإقامة الكاملة ثم الأموال الكافية لزيارة قم بعد انتهاء الدراسة.

وناجزتها السعودية بجمعية «الدعوة للشبيبة الإسلامية»، وأكثر من 200 مسجد في جميع أنحاء السنغال. ربما أتى الجهد السعودي ثماره إذ أرسلت السنغال 2000 جندي إلى المملكة السعودية فور بدء حرب اليمن لأجل حماية مقدسات المملكة.

الأمر في موريتانيا مختلف. إذ انتشر نفوذ إيران بسبب سوء تخطيط المملكة. الصوفية واجهت الاستعمار وتمتلك ملايين الأتباع فيها، لكن المملكة أصرت على نشر المذهب السلفي السني. مساجد ومدارس تُدرس كلامًا يُعرّض بالصوفية، فلفظ السكان تلك المؤسسات.

التربة الخصبة تنادي إيران. كلانا يحب آل البيت، إذن فنحن أصدقاء. استغلت إيران الصوفية في نشر التشيع بصورة خفية، ونجحت في ذلك. في سبتمبر/أيلول 2011 الرئيس الموريتاني «محمد ولد عبد العزيز» يصرح أن لإيران الحق في امتلاك سلاح نووي كبقية الدول، ويجيبه أحمدي نجاد بأن إيران تنوي التعاون مع موريتانيا، ليس مجرد استغلال مواردها كما يفعل الغرب.


جنوب إفريقيا: ذكاء أم حيرة؟

خرجنا من الغرب إلى الجنوب حيث إيران أوضح أثرًا. شركة «إم تي إن» الجنوب إفريقية للاتصالات تمتلك 49% من الشركة الإيرانية «إيران سل». الود بين البلدين قديم ومتبادل. إيران تمد البلاد بالنفط الذي تحتاجه، وتشتري منها اليورانيوم بقيمة 700 مليون دولار، وتمتلك 18% من مصفاة «نتريف»، وأصلحت للبلاد مدمرتين.

جنوب إفريقيا استطاعت أن تمسك العصا من المنتصف، لكن لا السعودية ولا إيران ستقبل بذلك طويلًا.

في حين قامت الحكومة النيجيرية، المدعومة سعوديًا، بتغريم شركة «إم تي إن» ما يقارب 6 مليارات دولار. كانت إيران تستورد من جنوب إفريقيا ما يتجاوز الـ 4 مليارات دولار. وصارت جنوب إفريقيا هي متنفس إيران من ضيق العقوبات الغربية عبر تسهيل حصولها على النفط، كما وقفت بجوارها في رفض مزيد من العقوبات في مجلس الأمن.

إما أن تكون جنوب إفريقيا دولة محتارة توالي من يدفع أكثر، أو أن تكون ذات استقلالية وذكاء تحاول بهما كسب الطرفين في آن. عادل الجبير يزور جنوب إفريقيا مع بدايات 2016. تصريحات تبشر بعصر جديد للعلاقة بين البلدين. واتفاقات تُوقع لمحاربة الإرهاب. اليمن يشهد على هذه النقلة التاريخية، إذ استخدمت المملكة في حربها أسلحة صُنعت في جنوب إفريقيا.

ثم في بدايات 2017 وقّعت جنوب إفريقيا اتفاقية تبادل عسكري مع إيران، لترسل الدولة رسالةً واضحة أنها تحاول اللعب لصالحها أيضًا. كما تظهر للغريمين أنها ليست كما الدول الفقيرة التي تقنع بالمال دون المعاملة الندية.


السودان: البداية والنهاية

عمر البشير, السعودية, أمراء السعودية
استقبال الرئيس السوداني «عمر البشير» أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية

لا يختلف كثيرًا عن جنوب إفريقيا في حيرته بين الطرفين، لكنه يتفوق عليها في جرأته. البشير يصل إلى الحكم بانقلاب عسكري،إيران تدعمه بالمال والسلاح ليوطد حكمه. تبادل للزيارات، البشير يزور إيران ومراكز التشيع تزور السودان. من صفر شيعي إلى نصف مليون شيعي.

عام 1991 تحط طائرة رفسنجاني في أرض السودان. يقابل بحفاوة شديدة من شعب سنيّ بالكامل. شعب بسيط رأى في إيران جمهورية إسلامية فحسب، لم يرَ فيها تصنيفًا آخر. بينما رأت إيران براءةً يجب استغلالها، فسارعت إلى إرسال مؤسساتها الثقافية لنشر الثقافة ظاهرًا والتشيع حقيقةً. عام 1996 عاد رفسنجاني إلى السودان ومعهكينيا وأوغندا وتنزانيا، وزيمبابوي.

كان الهدف الحاضر في أذهان الإيرانيين آنذاك هو كسب تلك الدول باعتبارها كتلة تصويتيةً قد تساعد إيران في حال المعارضة الدولية لبرنامجها النووي، لكن ذلك لم يفلح.

فجأة يغير السودان دفته، في فبراير/شباط 2014 يغلق السودان المركز الرئيسي الإيراني في الخرطوم ويطالب موظفيه بالمغادرة. التغير المفاجئ للدفة جاء بعد أن طمأنت السعودية السودان أنها ستوفر له مياهًا آمنة يُبحر فيها، 4 مشاريع ضخمة لإنقاذ الاقتصاد السوداني. بعد هذه الخطوة بالغ السودان في الارتماء في الحضن السعودي، فشارك في التحالف المهاجم لليمن. ثم تفوق السودان على نفسه فقطع كامل علاقاته مع إيران عام 2016 عقب إعدام المملكة لـلرمز الشيعي «نمر النمر».


القرن الإفريقي المتأرجح

إريتريا هي الدولة الأغرب بين الدول الإفريقية، هي الممر الأساسي للأسلحة الإيرانية المتجهة للحوثيين، بجانب وجود الحرس الإيراني بصورة متكررة على أراضيها. كما حصلت في 2008 على 25 مليون يورو كقرض من إيران. في الوقت ذاته وقعت اتفاقات تجارية واقتصادية مع العدو الآخر المملكة السعودية. بجانب النقيضين تستضيف القاعدة الإماراتية في ميناء «عصب».

أما في دولة جيبوتي فيمكنك رؤية العديد من الأعلام ترفرف في سمائها؛ السعودية بقاعدتها العسكرية، كذلك أمريكا وفرنسا واليابان والصين. لكن لا يبدو العلم الإيراني من بينهم. وفي حالة الصومال تلعب إيران بصورة بدائية قليلًا. إذ تدفع تكاليف الزواج والأجهزة المنزلية للعروسين، شرطها الوحيد أن يكون العروسان شيعيين أو اعتنقا المذهب الشيعي قبل الزواج.

مع كل دولة يتغير شكل الحرب الإيرانية السعودية مع ثبات الهدف والمضمون. ولا يمكن وضع خوارزمية ما للتنبؤ بنتائجها. بين لحظة وأخرى تتبدل المواقف، يُباع ولاءٌ ويُشترى آخر. ما يُخبر أن هذه الحرب لن تكون ذات نهاية أبدًا، فهي باقية ببقاء طرفيها وثروات المُتنازع عليهم.