في مشهد سينمائي مثير، انقضت طائرة هليكوبتر تابعة لجماعة الحوثي اليمنية على السفينة «جالاكسي ليدر» جنوب البحر الأحمر بعد ظهر الأحد 19 نوفمبر، لينزل منها مقاتلون ملثمون سيطروا على السفينة بقوة السلاح، بطريقة تشبه عمليات اختطاف الحرس الثوري الإيراني للسفن الأجنبية عند مضيق هرمز.

وانتشر المسلحون الذين يرتدون زيًا عسكريًا في أنحاء السفينة وهم يهتفون لفلسطين، واقتادوها بطاقمها إلى مرسى الصليف قرب ميناء الحديدة على الساحل الغربي لليمن بعد رفع علمي اليمن وفلسطين فوقها، وفقًا لما ظهر في مقطع فيديو بثّته قناة المسيرة الفضائية، من الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله اللبناني.

وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات ووسوم (هاشتاجات) تمجد قائد الميليشيات الموالية لإيران مثل «الحوثي_ سيد_العرب» و«الحوثي_ فخر_الأمة».

ما حقيقة السفينة؟

أعلن الإعلام الحربي للحوثيين أن السفينة إسرائيلية، لكن مكتب بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، نفى وجود أي إسرائيليين على متن السفينة، موضحًا أن إسرائيل لا تشارك في ملكيتها أو تشغيلها.

وكشفت وكالة رويترز أن ملكية السفينة تعود إلى شركة راي شيبينج المسجلة في تل أبيب، ويملكها رجل الأعمال الإسرائيلي، رامي إبراهام أنغر، ونقل موقع أكسيوس عن مصدر إسرائيلي أن السفينة مملوكة جزئيًا لشركة بالكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي أكده لاحقًا موقع والا الإسرائيلي.

وتدير السفينة شركة يابانية، وأدانت طوكيو عملية الاختطاف مشيرة إلى مساعيها للإفراج عن طاقم السفينة الذي لا يضم أي مواطنين يابانيين، وذكرت وزارة الشؤون الخارجية الفلبينية، الأربعاء، أن 17 بحارًا فلبينيًا كانوا من بين 25 رهينة على السفينة المخطوفة، وتمت الإشارة إلى جنسيات الباقين باعتبارهم بلغاريين وفلبينيين ومكسيكيين.

كانت السفينة تبحر متّجهة من تركيا إلى الهند تحت علم دولة الباهاما، إذ تسجل بعض الشركات سفنها ضمن الأسطول التجاري الباهامي للاستفادة من تخفيضات الرسوم التي يتمتع بها.

وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لسفينة أمامها سيارات كهربائيّة كثيرة، على اعتبار أن السفينة كانت تحمل ألفي سيارة إسرائيلية استولى عليها الحوثي، لكن الصورة المتداولة ترجع إلى ميناء لايم شابانج في تايلاند.

الدعم الحوثي لغزة

منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، طلبت حركة حماس من جماعة الحوثي وبقية المحور الإيراني الالتحام بالمعركة، لكن عبد الملك الحوثي، زعيم الجماعة، قال إن موقع اليمن الجغرافي يمنعه من الانضمام إلى المعركة، وتعهد بدعم النضال الفلسطيني بكل السبل الممكنة.

ونظمت الميليشيات، التي تسيطر على معظم شمال اليمن والعاصمة صنعاء، مظاهرات تأييد لدعم طوفان الأقصى، وقررت جمع أموال من المواطنين بشكل إجباري تحت شعار نصرة فلسطين، ونفذ مسلحوها أحيانًا اعتداءات جسدية على من رفض دفع الإتاوات المقررة.

ومع التأثر الشعبي البالغ في اليمن بأحداث غزة، انتشرت الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي لحكم الحوثي ومتاجرته بقضية غزة دون أي فعل، مصحوبة بمقارنته بإسرائيل لأن مسلحيه يمارسون نفس الممارسات مع الشعب اليمني من مجازر وتعذيب وحشي وتهجير وقصف منازل على رؤوس أهلها وتفجير مساجد منذ سنوات، ونشر المعارضون في الخارج صور ضحايا الميليشيات مع تعليق «من يقتل أطفالنا في اليمن، لن ينقذ أطفال إخواننا في غزة».

ومع تطور الأحداث في غزة غير الحوثي موقفه، وأعلن الإعلام الحربي التابع له قصف جنوب إسرائيل بصواريخ وطائرات مُسيرة عدة مرات، لكن دون أن تنجح أيًا منها في إصابة أهدافها؛ وذلك بسبب انتشار الدفاعات الجوية والشبكات الرادارية في البحر الأحمر بما يمنع مرور صاروخ أو مُسيرة إلى جنوب إسرائيل دون اعتراض من هذه الدفاعات.

ولم يتبع الحوثي أسلوب شن عدد هائل من الهجمات في وقت واحد مثلًا لتشتيت الدفاعات واختراق مجالها، لذا ظلت هجماته ذات تأثير معنوي غالبًا، وصاحبها احتفاء إعلامي كبير.

وعلى عكس الحال في الجبهتين اللبنانية والسورية، تجاهل الكيان الصهيوني الرد على مصدر القصف الحوثي، وبرر المتحدث باسم جيش الاحتلال، دانيال هاجاري، ذلك بحجة أن المنطقة التي تأتي منها الصواريخ في اليمن تعيش في فوضى وليست دولة ذات سيادة ليتم الرد عليها، وليس لها علاقة بالحكومة اليمنية.

لكن بغض النظر عن هذا التصريح الرسمي فإن التأثير الميداني المعدوم لصواريخ الحوثي لا يستدعي الرد في حد ذاته، بخاصة وأن البُعد الجغرافي يمنع الميليشيا اليمنية من أن تمثل خطرًا حقيقيًا على الكيان الصهيوني، كما أن الأخير لا يراها جهة مستقلة بل ذراعًا تابعة لإيران، والرد على إيران يأخذ أشكالًا كثيرة أبرزها القصف المتكرر لميليشياتها في سوريا.

كما أن توجيه ضربة صاروخية مثلًا للحوثي لن تضره كثيرًا، فمناطق سيطرته تتعرض للقصف الجوي العنيف منذ عام 2015، واستطاع التكيف مع هذا الوضع، بل إن هذه الضربة المفترضة ستنفخ الحياة في الصورة النضالية التي رسمها لنفسه على مدار سنوات طويلة والتي لم تكتسب مصداقية لدى غالبية الناس حتى اليوم.

فليس من مصلحة إسرائيل المباشرة فتح جبهة جديدة على بعد أكثر من 2000 كيلومتر، وإضفاء هالة البطولة على ميليشيا في جنوب الجزيرة العربية لا يعرفها معظم العالم الإسلامي، لكنها ستتحول بهذه الضربة إلى رمز عالمي للمقاومة ضد الصهيونية والإمبريالية بدرجة ما.

ومع سقوط أجزاء من المُسيرات الحوثية التي تم اعتراضها في شرق صحراء شبه جزيرة سيناء وغرب الأردن، وظهور صعوبة إصابتها لأهدافها مع عدم تسجيل أي تأثير ميداني للضربات، وعدم رد إسرائيل، ظلت الأبواق الإعلامية للحوثيين تتحدث عن تكتم العدو على خسائره، وتزعم أن الصواريخ أصابت أهدافها في عمق الكيان الصهيوني، وتم تزييف فيديوهات للضربات ونشرها على شبكة الإنترنت، اتضح أنها تعود لفيديوهات سابقة لقصف أراضي المملكة العربية السعودية.

وقررت الميليشيات تغيير طريقة عملها، فبجانب استمرار توجيه الصواريخ والمُسيرات باتجاه الأراضي المحتلة، تم الإعلان في 22 تشرين الأوّل/أكتوبر، عن نية لضرب السفن الإسرائيلية للضرب في البحر الأحمر إن استمر العدوان الصهيوني على قطاع غزة.

وصرح عبد الملك الحوثي «في البحر الأحمر وبالذات في باب المندب وما يحاذي المياه الإقليمية اليمنية، عيوننا مفتوحة للرصد الدائم والبحث عن أي سفينة»، وقال: «في الوقت الذي يرفع فيه العدو الأعلام الإسرائيلية في سفاراته في دول عربية لا يجرؤ على رفع علمه على سفن يمر بها في البحر الأحمر».

وهدد المتحدث العسكري، يحيى سريع، الأحد، عبر قناته على تيليجرام، باستهداف السفن التي تملكها أو تديرها شركات من إسرائيل أو ترفع علمها، ودعا دول العالم إلى سحب مواطنيها العاملين من هذه السفن وتجنب التعامل معها.

وأعلن قائد قوات البحرية اليمنية اللواء محمد فضل عبد النبي، أن «القوات البحرية مستمرة في تنفيذ عملياتها العسكرية ضد سفن ومصالح إسرائيل حتى يتوقف استهداف غزة».

ونفذ الحوثيون عملية اختطاف السفينة، الأحد، وبعدها بثلاثة أيام أعلن يحيى سريع، المتحدث العسكري باسم الميليشيات، الأربعاء، توجيه رشقة صاروخية إلى إيلات جنوب إسرائيل.

ومع ذلك، استمرت الانتقادات للحوثي بأنه غير جاد في مساعيه لأنه تجاهل استهداف الهدف الأقرب الذي يقع على متناول صواريخه، والمتمثل في القاعدة العسكرية الإسرائيلية في أرخبيل دهلك جنوب البحر الأحمر في مواجهة مناطق سيطرة الحوثي غرب اليمن.

وبالمناسبة فإن الإيرانيين يسيطرون أيضًا على قاعدة عسكرية على الساحل الإريتري استعملها الحوثيون في التدريب وجلب الأسلحة خلال حربهم مع الحكومة اليمنية المدعومة من الرياض.

كما يعج البحر الأحمر بالسفن الأمريكية التي لا يتعرض لها أحد، مثل السفينة يو إس إس توماس هودنر التي أسقطت، صباح الخميس 23 نوفمبر، عدة طائرات مُسيرات حوثية، وذلك بينما كانت السفينة الأمريكية تنفذ دورية جنوب البحر الأحمر قرب اليمن.

استراتيجية الحوثي

يمكن قراءة التصعيد الحوثي ضمن سياق محور المقاومة بقيادة إيران التي عملت على منع اشتعال حرب مفتوحة على جبهتي لبنان وسوريا لأنهما تمتلكان حدودًا مباشرة مع الأراضي المحتلة، بينما صعدت الميليشيات الموالية لطهران في العراق واليمن البعيدتين جغرافياً، ففي حالة الحوثي فإن التصعيد مع إسرائيل مضبوط تلقائيًا فلا هو يشكل تهديدًا جديًا لتل أبيب ولا تصعيده -مهما بلغ- يصل إلى درجة الدخول في حرب، بعكس حالة لبنان التي تقع على حدود فلسطين.

وتعمد الحوثي الذهاب إلى أقصى المدى في التصعيد الإعلامي والسياسي دون أن يتسبب في مقتل إسرائيلي واحد، تمامًا مثل الأذرع الإيرانية في سوريا والعراق التي تطلق عشرات الصواريخ دون أن تقتل أي شخص، لكن الدوي الإعلامي كان كبيرًا، فقد سببت واقعة الاختطاف قلقًا حول العالم بشأن أمن الممر الملاحي، وحولت سفينتان تجاريتان مسارهما في البحر الأحمر وخليج عدن لأنهما مرتبطتان بنفس الشركة التي تملك السفينة جالاكسي ليدر.

أي إن الآثار المعنوية تسببت بالفعل في بعض الخسائر المادية للإسرائيليين، وسوف تعتبر شركات التأمين البحري أن إبحار السفن الإسرائيلية أو التي لها علاقة بالاحتلال جنوب البحر الأحمر أصبح محفوفًا بالخطر، وقد تلجأ هذه الشركات لرفع الأسعار أو حتى إلغاء التأمين.

ومع ارتفاع أسعار النقل البحري بسبب ارتفاع كلفة التأمين، أو إلغاء بعض الرحلات إلى إسرائيل، فهذا قد يؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات المستوردة عن طريق البحر في إسرائيل.

وأعلنت المقاومة الفلسطينية تقديرها الشديد لهذه التحركات التضامنية من الأذرع الإيرانية في ظل مشاعر الخذلان التي تنتابها نتيجة تخلي العالم عن نجدة غزة في محنتها؛ فقال أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحماس، في كلمة مصورة له في 23 نوفمبر/تشرين الثاني: «نحيي قوى أمتنا التي هبت لمساندة شعبنا بالفعل الميداني المباشر والمؤلم للعدو ومن جبهات متعددة، ونخص إخواننا في اليمن، يمن العروبة والإسلام الذين حركتهم صرخات أهلنا فنهضوا بنخوتهم العربية المعهودة وكسروا قيود الجغرافيا ونصروا وينصرون غزة بكل عنفوان وإصرار»، في إشارة للحوثيين من دون ذكر اسمهم.

الهجمات البيضاء

حتى اليوم لم يتم تسجيل قتيل واحد من هجمات الحوثي، مما يشير إلى أن تصعيد الجماعة الموالية لطهران ما زال مضبوطًا بشكل مقصود، بخلاف عملياتها العسكرية الأخرى ضد خصومها اليمنيين والسعوديين.

ويبدو أن الجماعة بدأت تشن هجمات على السفن دون أن تعلن مسؤوليتها عنها صراحةً؛ فقد نشر المتحدث العسكري الحوثي، السبت، كلمة ZIM فقط دون شرح على قناته على تيليجرام، وفي تغريدة عبر صفحته الرسمية على تويتر، تعليقًا على تغريدة أخرى تقول: «تم حرق السفينة… ZIM… والقادم أعظم»، ليتضح أن الكلمة التي تعني بالعبرية «أسطول» تشير إلى اسم شركة إسرائيلية للشحن البحري، تم استهداف سفينة تابعة لها.

ونقلًا عن وكالة أسوشييتدبرس الأمريكية، فقد انفجرت طائرة مسيرة في السفينة وألحقت أضرارًا بها دون إصابة أي من أفرادها.

وفي اليوم التالي تم الإعلان عن خطف سفينة تدعى «سنترال بارك» تابعة لشركة زودياك البحرية، المملوكة للمليادير الإسرائيلي إيال عوفر، وقال مسؤول أمريكي إنه يبدو أن «عددًا غير معروف من الأفراد المسلحين المجهولين» استولوا على السفينة.

ويتكون طاقمها من 22 فردًا من الروس والفيتناميين والبلغاريين والهنود والجورجيين والفلبينيين ويقودها تركي، بحسب شركة زودياك التي سبق أن اتُهمت إيران بتنفيذ هجوم بطائرة مُسيرة على ناقلة نفط تابعة لها قبالة ساحل عمان عام 2021.

وأشارت تقارير إعلامية إلى أن العملية الأخيرة نفذها الحوثيون من دون أن يصدر عن الجماعة اليمنية أي تأكيد.