ما رأيك أن أحكي لك حكاية شاب ولنفترض اسمه «استيفن»، شاب فقير أو -اختار فقره بيديه- أحب فتاة غنية أو -أغنى منه- لندعوها «ماجدولين»، تنشأ بينهما قصة حب يقطع أواصرها الفقر، حيث إن والد ماجدولين يطمح لها في زوج غني يضمن انتشالها الأبدي من حفرة الفقر، ومن أجل اكتمال الدراما لنجعل هذا الزوج صديق عزيز لـ«استيفن»، فخيانة القريب قبل الغريب معروفة منذ قديم الأزل، وقد خلّدها شكسبير على لسان يوليوس قيصر حين قال «حتى أنت يا بروتس!». وأتوقع أنك استنتجت النهاية بتبدل الأحوال، وانتصار الظلم وكل تلك الأمور التي لا تحدث سوى في الروايات.

هذه باختصار، ومن دون إغفال أحداث محورية، رواية «ماجدولين». رواية عادية، تقليدية إلى أقصى الدرجات، مكررة أو يمكن القول في زماننا هذا أصبحت مكررة، حتى إنك ربما شعرت بالضجر من مقدمة صغيرة تتحدث عنها.

إذاً، لماذا تكلف نفسك وتقرأ «ماجدولين»؟

«ماجدولين» هي نسخة معربة من الرواية الأصلية «تحت ظلال الزيزفون»، خطّها لنا «مصطفى لطفي المنفلوطي». هذا الرجل عريض المنكبين، الذي تختفي الشمس وراء ظهره عند وقوفه، وترتج الأرض تحت قدميه عند جلوسه، ذو شنب عريض أسود كسواد آخر ليال الشهور القمرية، اسمه يدل على أنه من «منفلوط»، أي أنه رجل مصري من الصعيد تجرع الخشونة والصلابة منذ نعومة أظافره، ولكن اختلاف هيئته عن جوهره كاختلاف الشمس في منظرها وفي حقيقتها.

حيث إن هذا الرجل كان حساساً، بليغاً، مُعبِّراً عن المشاعر الإنسانية لدرجة قد تدفعك للاختناق من كثرة تدفق مشاعرك جملة واحدة، ولهذا تحتاج إلى أن تكون كُفؤاً، وعلى استعداد لما أنت مقبل عليه، فحين تقرأ «ماجدولين». ستظن المنفلوطي فناناً أوروبياً عاش حياته في رواية رومانتيكية حالمة، أو تظنه شاباً رقيقاً هادئ الملامح تتلخص حياته في قصص حب فقط لا غير، وهذه هي أولى الأسباب التي تفرض نفسها عليك لتقرأ «ماجدولين»: شاعريته ونقاء إحساسه.

من الصعب التعرف على حالة «المنفلوطي» العاطفية الحقيقية أثناء كتابته للرواية، فحين يكتب عن الحب يخيل لك أنه شاب يتذوق الحب لأول مرة، ويغازل حبيبته بكتاباته. ولكن ما إن تبتعد عنه، تراك تشتاق لها أكثر مما يشتاق هو لها، وتشتاق لحبيبتك حتى وإن كانت بجانبك. وإن كنت وحيداً لأحسست بأن لك حبيبة بعيدة عنك تشتاق لها. وما أن تتحول الراوية للحزن، فلا مسرّة في حياتك إلى أن تفرغ من قراءتها، فما الذي يسر في تلك الحياة وبطل الرواية يكابد ما يكابد، ما الذي يدعو للتمسك بحياة بها كل هذا حزن؟

لن تشرق الشمس مرة أخرى إلا مع طي آخر صفحات الرواية، ووضعها بين بقية الكتب والروايات، فتبدأ من بعدها الشمس تشرق تدريجياً، لكنها لن تشرق مرة أخرى كسابقها.

وفي وجهة نظري هذا أجمل ما يُميِّز الرواية، لأن بإمكانك دائماً الرجوع لها في أي حالة عاطفية كنت، فتجد منْ يعبِّر عنك ويشاركك مشاعرك، يزيد من مشاعر حبك، ويُهوِّن عليك شوقك، يتقاسم معك حزنك أو «يضاعفه».

نجح كاتبنا في تحقيق واحدة من أصعب المعادلات في عالم الأدب، وهي الموازنة بين الشاعرية المفرطة التي قد تصيبك بالغثيان، والتعبير المعتدل الواصف البعيد كل البعد عمّا قد يمس الوجدان.

قد يعلو إحساس الكاتب للسماء السابعة، ولكن يخذله فقره اللغوي فيهبط به للأرض السابعة، تجده مُكرر فرغت جعبته من الألفاظ مبكراً، فلا يُحسن وصف إحساسه. أو قد يكون مُلم بكل الألفاظ والكلمات التي وردت في كل المعاجم ولكن لا يدرك كيف يوظفهم، كيف يعبر بهم عن خلجات النفس البشرية وعواطفها، فأخبرني ما فائدتهم الآن؟

ولكن لا تقلق ضيفي القارئ، صاحبنا له من علم الألفاظ والبيان، ومن الإحساس وحسن التعبير، ما يسعفه ليُحلِّق بك فوق سابع سماء، ومن هنا تتجلى لنا ثاني الأسباب.

وإن أوحى لك كلامي أنك أمام رواية عاطفية تُداعب مشاعر المراهقين وأخيلتهم، فقد ظننت بي خطأً يا ضيفي، لأن ما أقدمه لك هو تجربة عاطفية كاملة لها أبعادها النفسية المُتحكمة في كل الأحداث، فتدرك من خلال قصتنا كيف يرى الناس الحياة بصور مختلفة، وكيف يؤثر هذا على قراراتهم، ويوضح لك وجوب النظر إلى حياتك بعينيك، لأنك منْ ستحياها، وهذه هي ثالث الأسباب.

رابع الأسباب، «النظرات» و«العبرات» هما أشهر ما كتب المنفلوطي، ولهما شهرة واسعة، لما بهما من حكمة بالغة عذبة، فلا تتوقع أن يخلع صاحبنا رداء الحكمة فقط لأنه يكتب رواية عاطفية، بل انظر كيف نسج العاطفة بالحكمة، فلم يكن العاشق الهائم أو الحكيم العالم، انظر كيف ينقل لك خبراته دون أن يُصرِّح بأنه ينقل لك خبراته، وسأتركك معه وهو يوضح لك كيف يكون الحب من وجهة نظر الرجل والمرأة، فيقول:

ينظر الرجل إلى المرأة في حبه إياها بعينٍ غير العين التي تنظر بها إليه في حبها إياه، فهو يراها أداته الخاصة به التي لا حق لإنسان غيره في التمتع بها بوجهٍ من الوجوه، ويرى أن حقّاً عليها أن تختصه بجميع مزاياها وصفاتها، فلا تقع على حسنها عينٌ غير عينه، ولا تسمع رنة صوتها أذنٌ غير أذنه، ولا يشعر بروعة جمالها قلبٌ غير قلبه، فيغار عليها من النظرة واللفتة، وكلمة الاستحسان، وبسمة الإعجاب. أمّا المرأة فتنظر إلى الرجل الذي تحبه نظرها إلى حُليّتها التي تلبسها وتعتز بها، وتدل بمكانها على أترابها ونظائرها، فلا أوقع في نفسها ولا أشهى إلى قلبها من أن تسمع الرجال يقولون عنه إنه رجل عظيم، والنساء يقلن عنه إنه فتى جميل، فهي تحبه لخيلائها وكبريائها أكثر مما تحبه للذّاتها وشهواتها، وترى في إعجاب المعجبين به وافتنان المفتتنات بحسنه وجماله اعترافاً منهم بحسن حظها وسطوع نجمها، واكتمال أسباب سعادتها وهنائها، وهذا كل ما يعنيها من شئون حياتها.

خامس الأسباب وآخرها، الذي أتشكّك إن كان يصلح أن يكون سبباً أم لا. حيث إن كل ما سبق ذكره يمكن أن يُقال عن أي كاتب وعن أي رواية مع تغييرات بسيطة، فلم يكن الحديث به شيء من الخصوصية للرواية ذاتها، ولكن صدّقني «ماجدولين» ليست كغيرها من الروايات، والمنفلوطي ليس كغيره من الرواة، ولا أعلم ما يعوزك إلى أن تصدقني وتثق في، لهذا عليك أن تطلع عليها بنفسك وحينها ستعلم لماذا عليك قراءة «ماجدولين».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.