يجبرنا الحظ دائمًا على لعبة الكراسي الموسيقية، يجمعنا بشتى طوائفنا في ساحة واحدة كبيرة، ومن ثم يتقرر بدء اللعبة لكن بقوانين خاصة ومتشددة للغاية. يتنافس البشر جميعًا على كرسيين فقط لا ثالث لهما، مهما كانت الاحتمالات. تبدأ الأحداث، وعند نقطة معينة من الزمن تتوقف.

في تلك اللحظة، تملك خيارين؛ الأول أن تكون في الموضع الذي يؤكد أن الحظ جزء أصيل لا يمكن قطعه من المشهد وأن تأثيره أقوى حتى من محاولة نكرانه، والثاني أن تختار الموضع الآخر الذي لن تتوقف فيه عن إطلاق اللعنات على الحظ والمدافعين عنه. يكمن التشدد في القوانين هنا في أن الموسيقى لا تتوقف كثيرًا.

لن تملك الوقت الكافي لبناء وجهة نظر حقيقية عن سبب اختيارك أحد الكرسيين، بل إنك لن تندهش حتى إن دارت الموسيقى/الأحداث مرة أخرى، ووجدت نفسك في الموضع المُعاكس. أنت لا تتحكم في شيء هنا إلا في مجهودك!

لا يوجد قائد ناجح غير محظوظ.

مقولة «نابليون» الخالدة تلك تشرح المغزى بوضوح. «زيدان» و«جوارديولا» و«فيرجسون» كلهم ناجحون أو محظوظون. ويسير «أولي جونار سولشاير» على نفس النهج، لا يمكن أن تصفه بالفاشل، لكن الأكيد أنك ستصفه بالمحظوظ، وبالتالي فهو ناجح.


«الإرث الكروي» الـمُلهم

قدم فريق ليفربول قبلة الحياة لإدارة مانشستر يونايتد. تمكنوا من إلحاقهم بهزيمة أجبرتهم على إقالة المدير الفني البرتغالي «جوزيه مورينيو»، أو بعبارة أكثر لطفًا سهلت من قرار الإقالة وجعلت عملية دفع الشرط الجزائي ليست مؤرقة بالقدر الضخم. امتلك «سبيشال وان» خلال فترته داخل «أولد ترافورد»فرصة لتحقيق حلمه بأن يعيد مسيرة فيرجسون للحياة، لكنها ككل الفرص الذهبية جاءت متأخرة.

لا يمكن الإفراط في وصف العمل الذي قام به مورينيو مع عناصر الشياطين الحمر. الأمر لا يحتاج حتى إلى تحليل لأنه كان بديهيًا للغاية، ولذلك تجد أن المتعمقين ترفعوا عن الخوض فيه لأن أي مشاهد عادي يمكنه تحديد بدقة ما قدمه مانشستر يونايتد تحت قيادته.

لكن وبعد رحيله، أو وقت أن كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، عاد المتعمقون ثانية للحديث عنه مؤكدين أنها فرصة جديدة للبرتغالي ليعود إلى بورتو كي يُلملم ما تبقى من إرثه هو الكروي للحفاظ على جزء من حاضره.

أقول للجماهير: بأن الجماهير ستظل هي الجماهير، لها الحق أن تكوّن آراءً وردود أفعال على كل حدث، ولكن هناك شيء اعتدت أن أسميه «الإرث الكروي».

المدير الفني السابق لمانشستر يونايتد «جوزيه مورينيو» بعد الخروج من دوري أبطال أوروبا

تملك فرق بقيمة برشلونة ومانشستر يونايتد وريال مدريد وبايرن ميونخ..إلخ إرثًا من تاريخها الماضي، لكن ما كان يقصده مورينيو كان تبعات الأخطاء الإدارية وليس إرث البطولات والألقاب. وبقدر ما كان ذلك التصريح مهينًا، لكنه ربما كان ملهمًا للإدارة لاختيار بديل يعرف فعلًا ماهية الإرث الحقيقي لمانشستر يونايتد وكيفية استغلاله.


خطة صحيحة من مدرب خاطئ

جاء اختيار «سولشاير» بناءً على شيئين؛ أولهما هو أساس إرث مانشستر الذي انتقده مورينيو وألهم به الإدارة، وثانيهما هو الآلية الجديدة لاختيار المدربين المؤقتين في أوروبا: شخص يعرف قيمة النادي، ولن يحتاج الكثير ليكسب قلوب الجماهير.

اقرأ أيضًا:زين الدين زيدان: دليلك كي تنجح كمدرب مؤقت لفريقك

نجح سولشاير بالفعل في الدفعة النفسية الأولى وتحققت 6 انتصارات متتالية لأول مرة منذ السير «مات بيسبي»،وبات أول مدرب ينجح في الفوز بأول 5 ماتشات بفارق هدفين أو أكثر منذ عام 1888. لا نحتاج لتأكيد أن كل ذلك تم وصفه بالحظ، لأن هذه اللقاءات لم تشهد مواجهة أمام الستة الكبار بإنجلترا، لكن بعد ذلك مباشرة جاءت مباراته أمام توتنهام لتدع حدًا فاصلًا للنقاش.

انتهت المباراة بالفوز بهدفٍ دون رد، لكنه ليس نظيفًا بالكامل فلقد كان ملطخًا بادعاءات الحظ واللا شيء تكتيكيًا. ذلك لأن الحارس الإسباني «دي خيا» قد قام بدوره المعتاد، وتمكن من تحقيق رقم قياسي خلال موسم 2018/2019 بـ 11 تصديًا. لم يقدم حارس مانشستر يونايتد أداءً أفضل من ذلك إلا في مباراة فريقه ضد أرسنال والتي تمكن فيها من الحفاظ على فوز بـ 3-1 بعد أن قدم 14 تصديًا.

الربط بين هذين اللقاءين لم يقتصر على كونهما كانا أمام فريقين من لندن، ولا لأن دي خيا هو بطلهما الأوحد، لكن لأن أداء الفريق فيهما كان عاديًا، بل يقع تحت مستوى العادي في عدة دقائق.

قرر «بارني روناي» من صحيفة جارديان أن يصف ما تم خلال الـ60 دقيقة الأولى من لقاء توتنهام باسم «كرة أولي-Ole ball» وهو ما لم يكن ليحدث أثناء وجود مورينيو. فالفريق يقدم كرة قدم عادية جدًا ليس بها أي شيء من التعقيد أو التركيب، وإذا قُبل وصف هذه الطريقة بالعادية، فلا يمكن أن يقدمها «سبيشال وان» كما يحب أن يطلق على نفسه.

خطأ مورينيو لم يكن في اتباع ذلك المنهج العادي في قيادة مانشستر يونايتد حين تعقدت عليه الأمور، فلقد أخطأ في اعتقاده بأنه يستطيع أن يقدم ذلك العادي وهو متكئ على كرسيه ينهر في لاعبيه ولا يتوانى في إخراج أسوأ ما فيهم. ظن أن الأحلام تتحقق في مسرح «أولد ترافورد» وحدها، مهما قدم من مساوئ، وما ساعده على ذلك هو سماح الإدارة له بأن ينتقدهم أو ينتقد أحد اللاعبين علانية.

وتناسى أن تلك السياسة العادية تقدم في حالتين؛ الحالة الأولى: إما في فريق كبير، بالحفاظ على الصورة والكاريزما الخاصة بالمدرب لدى لاعبيه مثلما فعل زيدان، وربما يبدو أن سولشاير يقدم نفس الصورة. أما الحالة الثانية: تكون في أحد الفرق الصغيرة بالاعتماد على اسم المدرب وحده وصغر قيمة اللاعبين أنفسهم مقارنة بقيمة المدرب، كبورتو مثلًا.


سولشاير، اخلع القناع

بعد 3 أشهر من ولاية سولشاير، وهي الفترة التي يتركها رجال الأعمال قبل النظر في مدى نجاح أي مشروع أو حتى قابليته للنجاح، فلا يمكن أبدًا أن يوصف كل ما قدمه سولشاير إلا بالعمل الناجح حتى الآن. علمًا بأنه بدأ من الصفر الذي ترك مورينيو الفريق به. حتى وإن كان ما يقدمه الفريق تكتيكيًا يعد مشابهًا فعلًا للبرتغالي بلا تغييرات تقريبًا، فلقد سبق الإشارة إلى أن هذا الشكل يعتبر هو الأكثر توازنًا مقارنة بما يملكه الفريق من عناصر.

ففي ظل فريق يشارك بخط دفاع لا يمتلك عنصرًا واحدًا من الفئة الأولى «Class A»، ناهيك عن عدم وجود ظهير أصلًا في قوام الفريق بالكامل، اللهم إلا طفرات بسيطة لـ«لوك شو» بدأت في الظهور فقط من نهاية عام 2018 تقريبًا، وبداية ظهور بعض البشائر للصغير «دالوت».

لكن ما دون ذلك، بما في ذلك الحالة النفسية السيئة لعناصر وسط الملعب والهجوم، فإن من الطبيعي أن يحصل الجميع على أدوار دفاعية وأن يكون التأمين وعدم استقبال هدف والاعتماد أكثر على قدرات دي خيا في ذلك -ما يمكن اختصاره بإرث مورينيو التكتيكي- هو الشيء الأميز والأوضح في السياسية التكتيكية لهذا الفريق حتى إشعار آخر، خاصة في ظروف كالتي دخل فيها لقاء باريس سان جيرمان العودة والتي نجح فيها في اقتناص أفضل النتائج وهو الصعود لدور ربع النهائي.

إذا تمت مقارنة الإرث الذي تركه فيرجسون فيما يخص الانتصارات والنجاحات والنتائج، فإن سولشاير ومورينيو ومن قبلهما «مويس» و«فان خال» وربما كل المدربين سيبدون فاشلين. فلا يمكن خلال فترة وجيزة، كعامين مثلًا، أن تتم مضاهاة عمل تم بناؤه في أكثر من 20 عامًا، لكن الحقيقة أن ذلك الإرث بدأ في فقدان قيمته شيئًا فشيئًا حتى وصل لنقطة التشهير به داخل المنابر الصحفية وعلى يد أحد مدربي الفريق.

وجود سولشاير الآن يُعد التركيبة الأمثل لاستمرار إرث مورينيو تكتيكيًا، والحفاظ على ما تبقى من إرث فيرجسون واليونايتد التاريخي بخصوص الفوز مهما كانت العناصر والسعي دائمًا نحو البطولة مهما كان أداؤك في نسختها الأخيرة. لكن هل يستمر ذلك مستقبلًا؟ ذلك ما يمكن معرفته بالضبط بعد تحديد ماهية إرث سولشاير في ختام موسم 2018/2019.