العالم مكان قاس جدا، والبشر متوحشون، وألاعيب الكبار لا تليق بأطفال الأمس الذين تفاجئوا يوما أنهم صاروا كبارا هم أيضا، وعليهم أن يمضوا بحياتهم قدما لا يعيقهم شيء، كل شيء مشوش ومضطرب، العالم في الكتب وعلى السوشيال ميديا يختلف تماما وحرفيا عن العالم في الشوارع ومن شبابيك الميكروباصات.

أنت عندما تقرأ هذه السطور الآن وتهز رأسك في تفهم وتعاطف، ما إن تغلق الصفحة وتنظر يمينك أو يسارك فلن تجد من تشاركه الأفكار، سوف تغلق الصفحة وتتحدث في أشياء أكثر واقعية كالحوافز المتأخرة مثلا، أو كم أنفقت من راتبك ونحن لازلنا في الثامن من الشهر.

لهذا تحديدا لا يموت «رفعت إسماعيل»، لن أقوم بتعريفك إياه الآن، فأنت أتيت متأخرا 24 عاما بالتمام والكمال منذ ظهوره الأول في حيواتنا جميعا وحتى اليوم، نعم هو مات في 2014، بالأحرى هو لم يمت لأنه لم يوجد من الأساس وكان شخصية خيالية كتبها «د. أحمد خالد توفيق» ليكون بطلا لسلسلته الأشهر «ما وراء الطبيعة»، ولكنه كان – رغم أنه شخصية خيالية – أكثر حقيقية منا جميعا.


الحب أزرق والصداقة كفاح

«د. رفعت إسماعيل عبد الحفيظ»، يشبهنا جميعا، نحن من تربينا معه دون أن يربينا، نحبه لأنه رفض سلطة الكبار كما كنا نرفضها نحن في طفولتنا ومراهقتنا، رفضها دون الكثير من الهتافات والشعارات والمغامرات الصعبة، رفضها بأن كان نقيضا لكل شيء يطلبه منا المجتمع أن نكونه، ورغم ذلك يظل ناجحا ومحبوبا ومثقفا ويعرف شيئا عن كل شيء، ويعرف كيف يفتش عن الباقي الذي لا يعرفه.

لم يطلب منا أبدا أن نكون كالآخرين، كما لم يكن هو أيضا، لهذا لا نستطيع أن نعترف أنه مات، هو الوحيد الذي لم يطالب المراهق التعس ذا حب الشباب والشعر الأجعد أن يكون بطلا وسيما لتحبه الفتيات، ولم يطلب من المراهقة الخرقاء التي لا زال وجهها لم يحمل ملامح واضحة بعد، والتي تتعثر في كل شيء تفعله، أن تكون جميلة وبارعة حتى تجد لها مكانا على الأرض، هو فعل كل ما حلمنا جميعا بفعله وهو نحيل وأصلع ولا يفهم في الموضة ومريض بدرزينة من الأمراض المزمنة ويصف نفسه بالقبح، كان هو خلاصنا جميعا الذي لم يمنحنا إياه أحد غيره.

اقرأ أيضا:«ما وراء الطبيعة»: أن تكون برفقة رفعت إسماعيل

«رفعت» لا يردد الشعارات، بل يسخر منها، عندما يسأله أحدهم عن أي كليشيه فإنه يجيبه إجابة عبقرية كأن يقول إن رأيه في الحب هو أنه أزرق، وإن رأيه في الصداقة أنها كفاح، هكذا بمثل تلك البساطة وفي سطرين فقط يخبرنا أن الشعارات كاذبة دون أن يقولها، أنا كمراهق لست مطالبا بأن أردد هذه الشعارات حتى يحبني الآخرون، لم يخبرني أحد غيره بهذا.

ثم كان «رفعت» يعرف قيمة النقود، لا يمارس كرما أحمق، ويتحدث دوما عن خراب بيته الوشيك عندما يستغله أحدهم، مرة أخرى يخبرنا أنه لا بأس في أن أحافظ على أموالي، الكرم ليس بلاهة، ليست تلك هي الطريقة التي سوف يحبك بها الناس، وكمراهق أنت في أمس الحاجة لمن يخبرك بذلك، لمن يخبرك أنه لا بأس في أن تكون عاديا، لا يجب عليك أن تكون خارقا أبدا، ببساطة لأنك لا تستطيع.


فلتزأر العاصفة

كان «رفعت» حماية لنا من العالم الخارجي الذي يطالبنا فيه الجميع أن نكون خارقين كي يتقبلونا، لهذا لم نقبل موته، لهذا لم يكن بمقدورنا أن نتخلى عن حائط الصد الذي يحمينا من تهكم الآخرين، نحن لسنا غريبي الأطوار، نحن فقط عشنا في عالم رومانسي يمكن لجميعنا فيه أن نكون أذكياء فعالين محبوبين دون أن نكون نجوم سينما.

ثم حدثت زلازل متتابعة في حيواتنا، كبرنا وشاركنا في أحلام الثورة الرومانسية بدورها، ثم أفقنا على واقع غريب لم نعتده، واقع لا يمكننا فيه أن نحقق ما نحلم به، ولا يكفي أن نكون طيبين لنفوز، ثم يموت «رفعت»؟ هذا جنون، لا يمكن أن يموت الآن، «رفعت» هو الوحيد الذي يخبرنا أننا مرئيون، لا يمكن أن نتركه يموت.

لهذا لا يموت «رفعت إسماعيل»، لأنه هو الذي تكتمل عنده دائرة أيادينا التي نتشبث بها سويا ولتزأر العاصفة، نحن معا نفكر ونتحدث ونلقي النكات بالطريقة نفسها، العالم يتغير ولكننا معاً، نحن لسنا غرباء ولسنا وحدنا.

نحن نعرف عن الأساطير الرومانية والإغريقية ونعرف أشياء عن الثقافات الشعبية في المجر وأسكتلندا، نحن نعرف عن القدرات الفائقة للحس ونعرف عن المسوخ والجاثوم وأمراض الدم، نعرف عن الحروب العالمية ونعرف عن العوالم الموازية، نحن نعرف عن تاريخ العادات البشرية الغريبة ونعرف طريقة كريليان للتصوير وماذا تعني الهالات الحيوية.

نحن نعرف عن سحرة العالم ونعرف عن كتب السحر ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى، نحن نعرف عن الديانات الغريبة ونعرف طقوسها وأين مارسوها قديما وكيف، نحن نعرف أشياء كثيرة جدا لا يعرفها أحد سوانا، ولن يفهمها أحد من الأساس، ولكنها هي ما صنعتنا، لا يمكن أن نتخلى عنها، ولا يمكن أن نترك «رفعت» ليموت.


لأنه رجل طيب ولا أحد ينكر ذلك

«رفعت إسماعيل» الذي ابتكره «د. أحمد خالد توفيق» سيطر على عقول قرائه لدرجة أنه في التسعينيات وبدايات الألفينيات لم نكن نفرق تماما بين الشخصين، وكثيرا ما اختلط علينا الأمر في البدايات من هو الحقيقي فيهما ومن هو الشخصية الخيالية، وبعد انتشار الميديا وبعد أن كبرنا وفهمنا من هو من بالضبط أحببناه أكثر، ما ساهم في هذا أن كاتبه لم يخذلنا يوما، خاصة في السنوات الأخيرة، ظل يفكر معنا ويدعمنا ولا يخالف ضميره.

كل المقالات التي كتبها في كل مكان تقريبا كانت تخبرنا أننا لم نخطئ، وأنه لازال هناك رجل لم يبع القضية ولم يستسهل اتهامنا بكل التقصير والخيانة، لازال إلى اليوم يحبنا ويتعامل معنا من مكاننا نفسه لا ينظر إلينا من عل، هو طيب كتب رفعت الطيب فعلمنا كيف نكون طيبين.

في الثامن من أغسطس/آب من كل عام منذ ثلاث سنوات تقام مناسبات التأبين لرفعت إسماعيل على الفيس بوك، نودع الغريب الذي كانت إقامته بيننا قصيرة، ولكنها كانت رائعة، وندعو له أن يجد الجنة التي فتش عنها كثيرا، ونعاهده أننا سنظل نحبه للأبد.. وحتى تحترق النجوم.