في شهر أغسطس/آب الماضي أعلنت قناة «BBC» الثقافية عن نتائج استفتاء قام به محرروها بين 177 ناقدًا حول العالم، لاختيار قائمة ب أفضل 100 فيلم في القرن الحادي والعشرين، وكانت المفجأة تصدُّر فيلم «Mulholland Drive» لهذه القائمة. الفيلم من إخراج «ديفيد لينش» وهو مخرج مثير للجدل دائما بأفلامه السريالية. بدأ فيلم «طريق مولوهلاند» كمشروع لفيلم تليفزوني لم يكتمل، ثم حوله لينش لفيلم روائي طويل، حيث قام بتصوير بعض اللقطات الإضافية لتكملة الفيلم. وكعادة أفلام لينش لم تحظَ بالنجاح الجماهيري المناسب عند عرضها في السينما، ولكن حظت بالتقدير النقدي، حيث حصل لينش على جائزة الإخراج في مهرجان «كان» السينمائي ورُشح للأوسكار عن نفس الفئة، ثم اشتهر الفيلم بين محبي الأفلام الـ «mind fuck»، وهو مصطلح يطلق من محبي السينما على الأفلام صعبة الفهم والمليئة بالغموض. ولكن كمفاجأة غير متوقعة تصدر الفيلم اختيارات 177 ناقد، وهنا أصبح للفيلم مكانه سينمائية مختلفة، ورسميا يستطيع من يريد وصفه كواحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما.


كيف تشاهد هذا الفيلم

الفيلم منفتح على الخيال والأحلام بصورة كبيرة، وكأغلب الأحلام فإن الفيلم يتحرك في طرق وهمية مصحوبة بالعديد من التقلبات والمنحنيات.
الناقد «روجر ايبرت»

إذًا الفيلم يطرح نفسه كحلم، والحلم تكون سرديته مختلفة عن سردية الحياة الطبيعية، ولكن هل سردية الحلم الغامضة الرمزية لا تعبر عن شيء؟ يميل الكثير من علماء النفس لاعتبار الأحلام فرصة لتعبير اللاوعي عن ذاته، وبالتالي قد يعتبر الحلم مفسرًا أكبر لشخصية الإنسان.كيف تشاهد الفيلم؟ فلنفترض أنك حلمت يومًا بفتاة لم ترها سوى مرة واحدة، تمر أمام مدخل منزل مظلم، فجأة يختطفها شيء في الداخل وتبدأ في الصراخ، ويخرج من داخل البيت المظلم كائن مشوه مليء بالدماء. فعلى الرغم من عدم تشابه أحداث هذا الحلم مع واقعك، ولكنه يظل ما يخبرك به لاوعيك، هذه هي الطرق الوهمية التي قال عنها «ايبرت»، وربما تمثل هذه الطرق تعبيرات سريالية عن ذاتك أو مشاعرك الدفينة أو رغباتك المكبوتة. على كل حال، هكذا يجب أن تشاهد هذا الفيلم، تماما كما شاهدت حلمك الغريب.

يمر الفيلم بثلاث مراحل، المرحلة الأولى تدور في الثلاث دقائق الأولى فقط، وفيها «ديان» التي تقوم بدورها «ناعومي واتس» في مرحلة أحلام اليقظة، تتخيل نفسها ممثلة ناجحة ويفخر بها جدها وجدتها، وتنتهي هذه المرحلة بنوم ديان وبداية الحلم، أو المرحلة الثانية وهي المرحلة الأطول والأكثر أهمية، وفيها نرى أحداث الحلم، وتمتلئ هذه المرحلة بالمشاهد العشوائية غير المترابطة، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة استيقاظ ديان من الحلم، وهذه المرحلة لا يتم فهمها سوى بفهم دلالات ورموز الحلم في المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي سنفسرها من خلال أحد المشاهد المركزية في حلم ديان، برغم عدم ظهور أي شخصية رئيسية فيه، وأحداثه تبدو وكأنها منفصلة عن قصة الحلم ذاتها، المنفصلة بدورها عن الأحداث الحقيقية في واقع ديان.


الغموض والإثارة على طريقة «هيتشكوك»

يدعو رجل – لا نعرف اسمه – محقق شرطة لوجبة طعام في مطعم صغير، يخبر المحقق أنه دعاه لأنه يراه في حلمه، يتعجب المحقق من حديث الرجل الذي بلا اسم، ومن هذا المطعم الصغير الذي دعاه إليه. يخبره الرجل بحلمه الغريب، ومحتواه أنه يجلس في هذا المطعم نفسه، خائفًا مرتعبًا، ويرى المحقق يقف في إحدى زوايا المطعم وهو خائف أيضا. وراء المطعم يجلس شخص ذو وجه غريب أقرب إلى المسخ، ويصف الرجل هذا المسخ بأنه هو المتحكم في كل شيء.بعد الانتهاء من وجبة الطعام يخرج الرجل مع المحقق ليريه المكان الذي يظهر فيه هذا المسخ، فيظهر فعلا ونرى خلقته المشوهة في مشهد مليء بالتوتر بل والرعب النفسي، يستخدم «لينش» في هذا المشهد تقنية الكاميرا المتحركة مكان الشخص راوي الأحداث، فأنت تشاهد الأحداث من منظور راوي الحلم وبالتالي زاوية رؤيتك لهذا المسخ كما يراها الرجل في الفيلم، هذا بالإضافة لاستخدام الموسيقى الغامضة الموترة كأنها قادمة من أعماق الجحيم. مشهد نفسي متقن الصنع من لينش يضاهي مشاهد هيتشكوك العظيمة. ولكن يبقى السؤال ما دلالة وجود هذا المسخ؟


سردية اللاوعي

في النصف ساعة الأخيرة من أحداث الفيلم ينتهي الحلم وتبدأ الأحداث الحقيقة وعندها نستطيع فهم دلالات الحلم، ما المعبر عن عقد الإنسان وتعقيداته وأعماق نفسه ولا وعيه؟ هنا تكمن عبقرية الفيلم، لم يسرد لينش تعقيدات «ديان» من خلال الأسلوب التقليدي المعتاد الذي يعتمد على الجمل الحوارية أو الأحداث، أو وصف المشاعر أو العرض الفلسفي، بل اتخذ لينش الطريق الأسهل والأوضح، ربما يعتبر البعض أن من السخرية قول أن لينش استخدم الطريقة الأسهل لوصف بطلته، خصوصًا مع كمية الحيرة وعدم الفهم بل وربما النفور التي ستصيب المشاهد حين يشاهد الفيلم للمرة الأولى، ولكن هذه هي الحقيقة في أبسط صورها، الطريق الأسهل لفهم تعقيدات شخص هي رؤية لا وعيه. هذه هي عبقرية الفيلم، وهذا هو الرهان الذي جعل الفيلم يأخذ هذه المكانة، ثورة سردية قام بها لينش في كتابة السيناريو بكل تأكيد، فأفلام نادرة هي التي حاولت الخروج عن البناء المتعارف عليه لسيناريو الفيلم. اللا وعي هو الجانب الأصدق والأكثر معرفة وتعبيرًا عن الشخص، برغم المسارات الوهمية والتقلبات والمنحيات – كما قال «ايبرت» – التي يتبعها اللا وعي.نعود للمشهد المركزي مرة أخرى، في الأحداث الحقيقة هذا المطعم هو نفس المكان الذي اتفقت فيه ديان مع أحد القتلة المأجورين لقتل «كاميلا» صديقتها، وقد تم استبدال ديان والقاتل المحترف بهذين الشخصين، كأحد المسارات الوهمية التي يتبعها الحلم في أسلوب سرده.

مرحلة الحلم تأتي بعد علمها بمقتل «كاميلا»، علاقة ديان بـ«كاميلا» ظهرت بشكل جلي في الحلم، فديان تحب كاميلا، وتراها أهم شيء في حياتها. أحداث الحلم تدور حول مساعدة ديان لكاميلا بعد تعرضها لحادثة على «طريق مولوهلاند»، وفقدها – كاميلا – للذاكرة، وتلجأ لمنزل ديان، حيث تقدم لها المساعدة على تذكر ماضيها قبل الحادثة، فتزداد علاقتهما ألفة، إلى أن تصلا لمرحلة الحب والعلاقة الجنسية.وفي الحلم أيضا نشاهد تلك الشخصية الغامضة الخطرة المريضة جسديًا التي تبدو متحكمة بمقاليد هوليود، وترغم مخرجًا شابًا على اختيار ممثلة دون الأخرى، بل يصل الأمر لمطاردة المخرج بسبب رفضه، وإيقاف أرصدته البنكية لإجبار المخرج الشاب على تنفيذ ما يريده هذا الشخص الغامض، في إشارة من لينش إلى سطوة كبار المنتجين على السينما وفرض معاييرهم، وترميزهم بذلك الشكل الذي يدمج المرض والقسوة في آن واحد، اعتبرت «bbc» أن هذه الرمزيات لحال السينما هي السر وراء تعظيم النقاد للفيلم، كما حدث في القرن الماضي مع «المواطن كين».المرحلة الثالثة تعرض مراحل متفرقة من علاقة ديان وكاميلا. ديان ممثلة مغمورة تظهر في بعض الأدوار الثانوية في أفلام من بطولة عشيقتها «كاميلا»، الممثلة المشهورة التي تم تفضيلها من قبل المخرجين على ديان. تخبرها كاميلا في يوم، أن علاقتهما العاطفية انتهت، وقد ارتبطت بمخرج عملها الجديد، فتشعر ديان بالصدمة والخيانة.تدعوها كاميلا بعد ذلك لحضور حفل تنظمه هي والمخرج ليعلنا ارتباطهما، وتنصحها بالمرور من طريق «مولهولاند» كطريق مختصر، وفي الحفل تشعر ديان مدفوعة بالغيرة والحرمان الجنسي الذي عبر عنه لينش في بعض المشاهد بفقدان كل شيء تقريبا، فهي ممثلة مغمورة فقدت الحب وخانتها حبيبتها، مشاعر مظلمة جدًا تدفع ديان للاتفاق مع أحد القتلة المأجورين لقتل كاميلا.

لم تتحمل ديان فكرة قتلها لصديقتها، تتخيلها قادمة لمصالحتها، وتعيش في كوابيس كثيرة، وتتخيل أن المسخ الذي يقف وراء كل شيء، يرسل جدها وجدتها للصراخ الدائم في وجهها، المسخ يبدو أنه هو ضميرها ومشاعرها المظلمة وعقدها متجمعة في كيان واحد، هو سبب حبها لكاميلا وسبب دفعها لقتلها، وهو من جعلها تشعر بالندم لقتلها. لم تتحمل ديان كل هذه الصراعات النفسية التي تستحضرها في صورة هذا المسخ، وفي سبيل التخلص من هذا المسخ الذي يسبب في كل هذه المتاعب، تنتحر ديان مطلقة الرصاص على رأسها.المشهد الأخير في الفيلم كأنه رثاء لديان ولجميع المغمورين والمقهورين في هوليود، لقطة تمزج بين صورة لهوليود وصورة لديان وهي تبتسم وتضحك، ربما تمثل هذه اللقطة أملا في مستقبل أفضل لديان، أو مسار آخر غير الذي حدث في الفيلم، ينتهي الفيلم بالكلمة التي تعبر عن كل شيء ينتهي، كل حياة وكل أمل، وكل دافع، وكل كره، وكل حب وهي كلمة «الصمت».