تمثل الدعاية للأعمال الفنية التليفزيونية أو السينمائية جزءًا كبيرًا من تشكيل توقعات المتلقي، وبها يختار العمل جمهوره باختياره للمقتطفات التي سيعرضها وخطته الدعائية بصريًّا وسمعيًّا، فبالدعاية يمكن جذب جمهور بناء على الجنس أو السن أو نوع المحتوى الترفيهي نفسه حسب التفضيلات المختلفة.

في شهر رمضان 2020 انبثقت في الفواصل الإعلانية أغنية كاملة بصوت آمال ماهر، كخلفية لمجموعة من المشاهد تكون سردية شبه متكاملة، اعتبرها البعض أغنية مصورة من بطولة ممثلة شهيرة وهي أمينة خليل، وبدأت الآراء تنهمر عن الأغنية وعن التصور الأولي عن تلك القصة القصيرة، لكن اتضح أنها مقطع دعائي لمسلسل قادم يشي بمواضيعه وأجوائه في كلمات الأغنية وفي اللقطات المختارة، عروس هاربة راكضة في الشوارع، تنهدات الشعور بالحرية أخيرًا فيما تغني آمال ماهر (عافية ذوق)، يرتبط تلقي الأعمال الفنية في تلك المرحلة الزمنية من تاريخ الوسائط المرئية بشكل رئيسي بردود الفعل الآنية وصنع المحتوى الإلكتروني والتفاعل الجمعي معه، في حالة (ليه لأ) انهالت اتهامات الترويج للتحرر بأسلوب غير أخلاقي وفي المقابل انهالت الدفاعات عنه، حتى تم بالفعل عرض المسلسل، والذي اتضح أنه غير معني بشكل رئيسي بالقضايا النسوية بالسلب أو الإيجاب، فخفتت حدة الخلافات لأن محتوى المسلسل أخف من الهالة التي أحاطت بخطته الدعائية.

كيفية التعاطف

أمينة خليل ومحمد الشرنوبي من مسلسل ليه لأ
أمينة خليل ومحمد الشرنوبي من مسلسل ليه لأ

يؤسس مسلسل (ليه لأ) لنفسه كعمل معني بقضايا المرأة أو ما يمكن أن يطلق عليها البعض القضايا النسوية بداية من صناعه، فهو من كتابة ورشة تشرف عليها مريم نعوم ومن إخراج مريم أبو عوف وحتى أغنية التتر، يبدأ أحداثه بحفل عقد قران، وبهذا الحدث يصنع صورته الأيقونية (العروس الهاربة)، تصاب عليا (أمينة خليل) بتوتر شديد قبيل إعلانها امرأة متزوجة وتركض مسافات طويلة بحذائها ذي الكعب العالي وثوبها الأبيض الأنيق، تاركة وراءها زوجًا محتملًا يملك كل المواصفات التي تؤمن لها حياة ترضي أسرتها ومستواها الاجتماعي، لكنها تعرف في قرارة نفسها أن زواجها مجرد هروب من قبضة والدتها المسيطرة وشخصيتها المتلاعبة المبتزة التي تستغلها بالتعاطف حينًا وبالقسوة المطلقة حينًا.

مع الحلقة الأولى تبدأ التساؤلات الأولية في الظهور، هل من المنطقي أن تدرك عليا بشكل سحري ظهيرة حفل زفافها أن هذه ليست الحياة التي تريدها لنفسها؟ لا يهم، ما يهم حقًّا في عالم ذلك العمل هو صنع صور نمطية تخلق مساحة من الحوار وتجذب المشاهدين دون النظر لمنطقيتها أو محاولة التعمق في أسبابها وما يترتب عليها، عليا بطلة العمل من المفترض أن تكون الشخصية التي يهتف لها المشاهد، يسعد لتخطيها العقبات ويحزن حين تتعرقل، لكنها تفقد تلك القيمة كلما تعمقنا في حياتها، يتطور إدراك عليا من نقطة أن قرارها بالموافقة على الزواج كان خاطئًا إلى إدراك أن حياتها داخل منزل والدتها غير محتملة بالنسبة لها، لكن تلك الفكرة تعرض نفسها عليها بسهولة كخيار خارجي وليس اتجاهًا مبنيًا على تفكير في وضعها الحالي وإمكاناتها في المستقبل، يأتي التدخل الخارجي على هيئة مسابقة مشروطة متوجهة لنساء الشرق الأوسط جائزتها منحة تعليمية ومادية، إحدى شروطها هو الاستقلال أو العيش منفردًا لمدة عام ويتبع ذلك عدة شروط أخرى يصعب إثباتها أو تصديقها.

تقرر عليا بعد محاولات لإقناع والدتها أن تأخذ القرار الصعب بغض النظر عن رضا أسرتها الكامل وبعد نجاحها يواجهها شريف (هاني عادل) عريسها المهجور،  مطالبًا بتفسير لكنها لا تقدم له واحدًا، لا تحاول حتى أن تتواصل معه فيما بعد لتوضيح موقفها، وهو ما ينقص من قدرة الشخصية على خلق التعاطف اللازم تواجده لتفهم شخصية تتخطى الناس من أجل إدراكها المفاجئ عن ذاتها.

تستمر تلك السمات في لقاءاتها في حياتها الجديدة في وسط البلد، تلتقي حسين (محمد الشرنوبي) في مطعم إيطالي بعد فشلها في صنع أول مكرونة في حياتها وهي واحدة من العقبات الهزلية القليلة التي تقابلها في العيش وحيدة، منذ اللحظات الأولى تتوقع عليا أن يكون حسين فرصة علاقة محتملة، تتجهم حين ترى أنه ليس أعزب، وتصبح حياتها في المنطقة الجديدة بعد تركها لخطيبها هي أرض فتيان الأحلام الوسيمين الذين يمثل كل منهم فرصة للارتباط وإيجاد القصة السحرية fairy tale ففي ليلة واحدة تتوقع أن تجد الحرية والحب والسعادة.

موقف عليا تجاه خطيبها السابق وتجاه الشاب الغريب بالإضافة لسماتها الشخصية المهذبة الرقيقة والأنثوية يرسخ لها كشخص ذي نزعات انتهازية، وحينما لا يكون ذلك هو الوضع تتنزل عليها الحلول والمواهب السحرية لأنها تستحقها، فتكتشف موهبتها الفذة في التصوير الفوتوغرافي بعد تجربة العمل المضنية كسائقة في شركة توصيل، وتنهال عليها العروض من شركات الأزياء الكبرى، وهو ما يستحيل أن يكون بتلك السهولة بالنسبة لمصور مبتدئ، عانت عليا في حياتها كفتاة مقيدة لا تختار لنفسها، ويتم أخذ القرارات لها، لكن كتابة الشخصية تسلبها الحق أيضًا في أن تكون شخصية معقدة ومركبة تملك الجيد والسيئ بدلًا من تبرير كل تصرفاتها بصفة حسن النية.

تناقض وهمي

تدفع المسابقة بشروطها التي يبدو أنها مفصلة خصوصًا لتقهر مخاوفها الشخصية عليا لتغيير مكان معيشتها وطبيعة عملها، تقرر بمساندة بعض أصدقائها البحث عن شقة في منطقة وسط البلد، تأتي عليا من طبقة متوسطة عليا على الأرجح، محل سكنها في الزمالك وأصدقائها ليسوا ببعيدين عن مستواها الاجتماعي، لكنهم يملكون اهتمامات فنية ونزعات ثقافية ويجدون راحتهم وسكنهم في منطقة وسط البلد وهي المنطقة غير البعيدة عن منطقة الزمالك مكانيًّا أو اجتماعيًّا وثقافيًّا.

تتسم مقابلة عليا مع وسط البلد بما يمكن أن نطلق عليه النظرة الغرائبية الذاتية self exoticism، يعني مصطلح exoticism  إيجاد ما هو سحري في الغريب عن العالم الذي يعتاد عليه الشخص، أو الانبهار بالغرابة، وهو ما يختبره بعض الغربيين تجاه بلدان العالم العربي أو الآسيوي خاصة البلدان الأفقر أو الأقل حظًّا، تتصرف عليا القادمة من الزمالك إلى وسط البلد كسائحة غريبة منبهرة ببديهيات أي شارع مصري في محاولة لصنع تناقضات بين بيئتها الأصلية وبيئتها الجديدة، فتصدر عنها ردود أفعال غير متسقة مع طبيعة أو تاريخ الشخصية، مثل الاستغراب الشديد من حالة الشوارع والحواري الضيقة أو طبيعة سكان المنطقة أو النظر بانبهار إلى عربات الكبدة كأنها شخص ذو خلفية أوروبية ينبهر بغرابة الشرق لأول مرة، في هذه الحالة يمكن اعتباره انبهار شخص غني بثقافة من هم أفقر، وهو ما لا ينطبق من الأساس على المنطقة التي انتقلت إليها.

في الواقع يمكن رؤية عربات الكبدة في الزمالك، كما أن طبيعة عملها في مصنع ضخم بالضرورة جعلها تتعامل مع مختلف الطبقات والخلفيات الاجتماعية، تمتد ثقافة الغرائبية في اختيارات عليا لديكورات تكليفات التصوير التي تحصل عليها، فتميل إلى جماليات النوستالجيا ومزج ما هو بازخ بما هو شعبي، فتختار الأسطح المهترئة القديمة وأجهزة الراديو أو بوابات المنازل الكلاسيكية لتصوير عارضات يرتدين ملابس تقدر بآلاف الجنيهات، وهي موجة منتشرة في تصوير الأزياء تبزغ كل فترة. ذلك التركيز على التناقض المكاني والصدمة الاجتماعية أغفل أي نوع من الصراع الداخلي تجاه خطوة كبيرة مثل الانتقال الى بيت جديد وتولي مسئوليته بالكامل، وتخطي صدمة التعلق الغريزي بالأهل والتحول من عيش دور الابنة إلى دور المرأة المستقلة.

الحرية والقلق

بعد ثمانية عشر عامًا تلمس رابونزيل الأرض لأول مرة تنتابها سعادة جنونية بتحررها من سجن وضعتها فيه أمها طيلة حياتها، لكن ينتابها في الوقت نفسه قلق عارم، تخاف أن تغضبها وتخاف من قدرتها على تحمل العالم الخارجي وحدها، تنتقل بين النشوة والهلع في دقائق وتعيش صراع داخلي يمكن لأي شخص أن يفهمه.

في ذلك المشهد القصير من فيلم الرسوم المتحركة tangled، يتم تصوير صراع رابونزيل الداخلي، الرغبة في التحرر بعد سنوات طويلة من انعدامها ليس بالشيء البسيط أو السهل، وتحمل المسئولية المفاجئة شيء مسبب للقلق على قدر ما هو مسبب للسعادة، في رحلة عليا من الخنوع إلى الاستقلال نادرًا ما نرى أي صراع داخلي، بل تلعب قصتها  أمامنا كمونتاج مطول من مواجهة العقبات وتخطيها في اللحظة التالية، وهو ما تم تفاديه في شخصية هالة (شيرين رضا)، التي تبدو ظاهريًّا شخصية نمطية للخالة المرحة fun aunt، تبدو حرة وخفيفة أكثر من أختها ومن عليا ابنة أختها، لا تعمل في شركة العائلة وتملك منصبًا عاليًا في شركة عقارات، تبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، وتعيش بين بيت والدتها وبيت أختها نظرًا لكونها عزباء، هالة تحب شابًّا يعمل معها في الشركة يصغرها بعدة أعوام، لكن حينما يفتح موضوع الزواج تنهار واجهة الشجاعة والقوة التي تتخفى وراءها، فأعوام من التسلط لن تسقط فجأة.

يملك ذلك الخط من القصة مقومات تسمح لنا بالتعاطف مع الشخصية حتى إذا كون البعض آراء مخالفة لها، فهي شخصية ذات أبعاد حقيقية كما أن آراء من يعارضونها تملك وجاهة ما، وفي أكثر من لحظة يصبح ذلك الخط أجدر بالاهتمام من الحكاية الرئيسية للعمل.

الملكة والوصيفة

اختار صناع العمل تترًا كاشفًا ومفصلًا لا يترك مجالًا للخيال، يملك وجهة نظر محددة ويرشد المتلقي إلى ما يجب أن يتوقعه، يملك سمات عنيفة متحدية، لكن في واقع الأمر لا ينطبع عنف الأغنية على العمل بأي شكل، ففي لحظة انتهاء الغناء وبداية الأحداث لا يثير العمل أي جدل حقيقي، حتى عندما يحاول بأقصى جهده، هو عمل أليف لا يتطرق إلى أي من قضاياه بعمق ولا يطلب منه ذلك.

كان الأمر يتطلب دعاية مختلفة ليس إلا، هو عمل يتعامل مع كل شيء كرحلة يتم تخطي عقباتها بخفة، ويدرك كما ندرك نحن كمتلقين أنها ستنتهي بشكل جيد، فعلى عكس مقدمته وحلقته الأولى هو عمل يستدعي شعورًا جيدًا، ويجب أن يعامل نفسه كواحد، تنتقع الحلقة الأولى في الميلودراما العائلية التي تشي بصراعات محتدمة قادمة، صراخ وبكائيات ومشكلات يصعب حلها، وبحلول الحلقة الثانية يهدأ الجميع وتحل الصراعات بشكل أسهل، لا تختفي لكنها تصبح مغطاة بموسيقى الأكورديون اللطيفة، فتنتفي عنها أي نزعة تراجيدية وكأن صناعه لا يملكون تصورًا معينًا لمزاج المسلسل العام، لا يتوقف اختلاف طبيعة التتر عن المسلسل في الأجواء العامة فقط بل في المعاني والرسائل التي يحتويها، يقول أحد المقاطع (اللي عاشت ملكة مش هتعيش وصيفة) وهي جملة يفترض أن المقصود بها هو الحث على قوة وتمكين المرأة بشكل عام، وتلك المرأة التي تُحكى قصتها، يوحي ذك المقطع الغنائي بترتيب طبقي ما ويستدعي دلالات مرتبطة بالمستوى المادي والاجتماعي، فهو يستنكر أن تنزل الملكة من عرشها لتعيش وصيفة، وهو بالضبط ما تسعى عليا إليه عن طريق عملها في وظائف متنوعة ترفضها عائلتها التي تقدس المظاهر، وتريدها أن تعيش (ملكة)، ربما يكون ذلك في الواقع أحد التطورات الجيدة في الشخصية، فأصبحت تتقبل الصور المتنوعة للعمل، وخاصة عمل المرأة الذي تحتقره بعض الطبقات مثل العمل كنادلة.

طبيعة (ليه لأ) الحقيقية هي أقرب لمسلسل رومانسي كوميدي romantic comedy  وحكايته أقرب لقصة عن كيف تخلص بطلا المسلسل من شريكيهما غير الملائمين ووجدا بعضهما البعض أكثر منها قصة عن الاستقلال والحرية، وعند مشاهدة أي حلقة كاملة من العمل سوف يتكون نمط متكرر يوحي بشكل مباشر بأن أحد المقاطع تم زرعه فقط لكي يتم اقتطاعه من سياقه واستخدامه في مواقع التواصل الاجتماعي، فيصبح جاذبًا لمشاهدات أكثر، فمعظم المشاهد بين شخصيتي عليا وحسين متكررة ولا تضيف أي جديد لكل حلقة، لكنها تعمل كمحتوى جيد على الإنترنت، وتؤكد أن اهتمام العمل الرئيسي هو صنع قصة حب لطيفة، بطلاها جميلا المظهر على حساب مناقشة ما هو أهم.