الدين هو ثقافة إيمان، والعلم هو ثقافة شك.
ريتشارد فاينمن

حسنًا، تبدأ المشكلة من تساؤل بسيط: تقول إن العلم قادر على تصور عجائب كـ «الكون الهولوجرامي» و«نظرية الأوتار» و«تعدد الأكوان»، هذا الذي يخترع فانتازيا جديدة تحت عناوين منمقة كـ «تمدد زمني» و«انكماش طولي» و«تراكب كمّي» و«مادة مظلمة» و«قطط حية و ميتة في نفس الوقت»، ثم يفسر نشأة الكون بمئة نظرية تقترب من الخيال أكثر من الواقع. ألا يمكن له، ولو لمرة، مرة واحدة فقط، أن يقول إن تفسير وجود الكون هو –ببساطة– وجود إله؟، هل ذلك صعب لتلك الدرجة على العلماء؟

تتطور تلك التساؤلات فيما بعد إلى استنتاجات أكثر تطرفًا ذات علاقة بوجود مؤامرة، هذا العلم الشرير إذن يريد أن يقتل الدين خاصتنا ويجب أن نقف له. يمكن القول إن ما سبق هو مختصر تاريخ فكرة الكثيرين عن العلم، لذلك، دعنا -معًا- نبدأ رحلة قصيرة.


ما العلم؟

لا أجد تعريفًا محددًا في الحقيقة، فلسفات العلم كثيرة وكل منها يذهب في اتجاه، لكن دعني أبدأ باقتباس شهير قرأته في رواية «علامة الأربعة» لـ آرثر كونان دويل، يقول شيرلوك هولمز في الفصل السادس:

كم مرة يجب أن أقول لك أنه حينما تستبعد كل المستحيلات، فإن ما تبقى لك -مهما كان غير محتمل– هو الحقيقة؟

كانت تلك هي طريقة شيرلوك هولمز في التقصي، ربما فلسفته في الحياة، وهو يكررها كثيرًا في أكثر من موضع. لنفترض الآن أن العلم هو محقق جرائم يود أن يتعرف إلى الطبيعة بنفس الطريقة، كيف يمكن له أن يتصرف؟.

قبل النسبية توقف المجتمع العلمي حائرًا، فتجربة مايكلسون ومورلي، بعد معاودة التجربة عدة مرات، أثبتت أن الضوء يتخذ سرعات ثابتة في كل الاتجاهات والأطر المرجعية. هنا كان على أحدهم البحث حول ما إذا كان ما نفهمه عن ثبات بعض القيم كالمسافة والزمن والكتلة بالنسبة لراصدين في أطر مرجعية مختلفة هو أمر حتمي. وقتها قرر أينشتين الاستغناء عن كل ما هو مستحيل بناءً على فكرة «ثبات سرعة الضوء» واللجوء للشيء الوحيد الذي بدا ممكننًا؛ وهو فيزياء جديدة تمامًا تختلف بشكل جذري عما عهده المجتمع العلمي طوال 200 سنة.

هل ظهرت ميكانيكا الكم لأن أحدهم استيقظ من النوم فجأة ليقول إن زائرًا في الحلم أخبره أن التعامل مع شعاع الضوء ككمات هو شيء جميل؟

هل ظهرت ميكانيكا الكم لأن أحدهم استيقظ من النوم فجأة ليقول إن زائرًا في الحلم أخبره أن التعامل مع شعاع الضوء ككمات هو شيء جميل؟، بالطبع لا، ظهرت فقط حينما واجه الفيزيائيون ما سمي وقتها بـ «الكارثة فوق البنفسجية Ultra violet catastrophe»، وحينما حاول ماكس بلانك أن يفسر التناقض بين معادلة رالي-جينز، التي تتنبأ بأن الجسم الأسود يصدر أشعة بكثافة لانهائية، والمشاهدات التجريبية التي لا يحدث ذلك خلالها، وتوصل إلى أن إشعاع الجسم الأسود يتكون من كمّات ذات تردد محدد. هنا اتفقت نتائج معادلة رالي-جينز مع النتائج، فقط حينما استبعد بلانك كل ما يمكن أن يكون مستحيلاً ولجأ إلى اتباع ما تؤدي له النتائج مهما كان غير محتمل. وفي الحقيقة اعتقد بلانك -بسبب فكرة التكميم تلك- أن نتائجه غير مقنعة، رغم نجاحها، إلى أن جاء أنشتيين و أكد أن الموجات الضوئية مكونة بالفعل من كمّات، هنا ولدت ميكانيكا الكم.

دعنا الآن ننطلق إلى الأفكار الأكثر فانتازية،الكون الهولوجرامي مثلاً هو الفرضية القائلة إن الكون كما نعرفه ما هو إلا انعكاس ثلاثي البعد لكيان ثنائي البعد ملتصق على أفق ما، كأن تكون كل معلومات الكون، أنا وأنت والكواكب والنجوم، موجودة على قرص مدمج يدور الآن في مشغل عجائبي ما، لنظهر نحن في الواقع كما يظهر الفيلم على الشاشة. للوهلة الأولى تبدو تلك الأفكار كقصائد شعر أو أحد تجليات إبداع أديب خيال علمي مشهور، لكن تلك الفرضية هي ما وصلنا إليه حينما حاول جاكوب بيكنشتاين، الفيزيائي الأمريكي، أن يجيب على تساؤل عن أنتروبيا الثقوب السوداء، فتوصل إلى أن المعادلات تعطي قيمة يكون فيها التناسب بين الأشياء الساقطة في الثقب الأسود ومساحة سطح أفقه وليس حجمه.

يشبه الأمر أن تلقي بنقطة ماء في حوض الزجاجي، فتزداد مساحة سطح جدار الحوض نفسه. إذا ألقيت بفوتون أو إلكترون أو جزيء كامل أو كرسي أو ثلاجة أو فنجان قهوة، أي شيء تلقي به في ثقب أسود يزداد في مقابل معلوماته مساحة سطح أفق هذا الثقب وليس حجمه؛ كأن تغطي سطح كرة قدم بتوقيعات لاعبين مشاهير، هنا -انطلاقًا من تلك الفكرة الخاصة بتحول معلومات ما هو ثلاثي البعد إلى كيان ثنائي البعد- ظهرت فرضية الكون الهولوجرامي ونظرية الأوتار.

وراء كل فرضية أو نظرية علمية ظروف ابتدائية ساعدت في تكوين تلك الأفكار كحلول لها. حينما تفترض الطريقة العلمية إذن أن الوجود يتكون من 11 بُعدًا فإن ذلك لا يظهر فجأة، ولكن لأن هناك بنية متتالية كالتي تابعناها منذ قليل تصطف لتصنعه، بحيث نضطر -مثلاً- في معادلاتنا الرياضية إلى إضافة درجة أكبر من الحرية لمتجاهاتنا في فضاءات أعلى؛ أي أننا نسمح لتلك الحلول الجديدة والمختلفة بالمرور مهما بدت غير محتملة.

ينقلنا ذلك لموضوعنا.


هل يمكن اعتبار الله ضرورة علمية؟

إذا كنت تود ذلك فلا مشكلة لدي، إذا كنت تريد أن تجعل من الإله إمكانية علمية كالكون الهولوجرامي أو الأوتار، عليك أولاً أن تصوغ وجوده في شكل معادلات رياضية بحتة وفيزياء رصينة تصل بك لنتيجة علمية. لكن هناك مشكلة، وهي أن الإله –في معتقدات عدة- يعرّف نفسه على أنه «ليس كمثله شيء». كيف إذن نتمكن من ترجمة ما ليس كمثله شيء «لشيء» نعرفه؟، وهناك تظهر مشكلة أخرى؛ هي أن ما تحاول صياغته يظل افتراضًا حتى نتأكد منه تجريبيًا، من وجهة نظر العلم، وهي نفس المشكلة التي تواجه فرضيات كالكون الهولوجرامي والأوتار.

دعنا نستمع لرأي آخر.

لنتخيل أن هناك نظارة لا يمكن عبرها أن نرى إلا الأشياء ذات اللون الأحمر، لا يمكن لها أن ترى أي لون آخر، وحينما ترتديها سوف يبدو العالم أحمر فقط. حينما ترتدي نظارة أخرى لا ترى إلا الأشياء الزرقاء فإن العالم بالنسبة لها هو الأزرق فقط. هكذا يمكن لنا النظر لكل من الدين والعلم، فكلاهما هو طريقة للتعرف على العالم بطريقة مختلفة في التقصي، تلك الطريقة التي تمثل جوهر كل منهم بحيث لا يمكن لهما رؤية بعضهما البعض، يشبه الأمر أن تتحدث بالعربية مع شخص يتحدث الإيطالية مثلا، لن تفهمه ولن يفهمك.

لا يرى العلم الله، لا يعرفه ولا يعرف كيف يرصده، لا يراه كنظرية ولا يراه كبرنامج بحث، فلا يمكن للعلم أن يبت في قضية كتلك. العلم ببساطة هو محاولة لا أدرية متشككة للبحث ما وراء الأشياء تستمر حتى لانهاية، حيث نبدأ من مشكلة ما، ثم –عبر المحاولة و الخطأ– نبدأ في حلها. نفترض حدوسًا ثم نفندها، وتظهر بعض النظريات أقدر من الأخرى على تحمل التمحيص العقلاني، هنا تظهر مشكلات جديدة من وراء تلك المعارف الجديدة، وتستمر العملية. يضرب لنا فاينمن مثالاً عن لعبة شطرنج سماوية.

لنفترض أن الآلهة بالأعلى تلعب لعبة ما تشبه الشطرنج، هنا على الأرض لا يمكن لنا إلا أن نرى تحركات القطع. نحن لا نعرف ما هي تلك اللعبة ولا نعرف قوانينها، لكننا فقط -من حين لآخر- نرى أن هناك قطعة ما -الفيل- تتحرك في اللون الأسود، وأخرى تتحرك في الأبيض مثلاً. وظيفتنا هي مراقبة تحركات تلك القطع وتكوين صورة في شكل قوانين. في بعض الأحيان تحدث أشياء مفاجئة كعملية «التبييت» مثلاً، فنغير من أسئلتنا وطريقة رؤيتنا للأمور لنسأل: كيف يمكن للملك أن يتحرك خطوتين أو ثلاثة؟، أليس ذلك مخالفًا لما تعلمناه؟، كيف تجاوزت «القلعة» الملك؟، …وهكذا. هنا، لا حاجة للعلم في أن يبحث وراء تلك الآلهة بالأعلى ولكنه فقط يختص بفهم حركات قطع الشطرنج، أو ما ندعوه «الطبيعة».


لغتان مختلفتان

إذا كنت تريد أن تجعل من الإله إمكانية علمية، عليك أولاً أن تصوغ وجوده في شكل معادلات رياضية بحتة وفيزياء رصينة تصل بك لنتيجة علمية.

ينقلنا ذلك للحديث الهام عن الفرق بين لغتي العلم والدين، فلغة العلم صارمة محددة، تستخدم أقل عدد ممكن من الكلمات واضحة المعالم لوصف ظاهرة ما، وتستخدم البنيات الرياضياتية كصورة أكثر تجريدًا. في المقابل نجد أن النص الديني له لغة أقرب ما تكون لكونها «أدبية»، واسعة المعنى، فضفاضة بشكل ما، وتقبل نفس الجملة بأكثر من تأويل في اتجاهات عدة وربما في سياقات تاريخية مختلفة. رغم ذلك، يحاول البعض أن يربط بين نوعينا المختلفين من النصوص. دعنا نرى ما الذي يجب أن نتحمله من مسؤوليات حينما ننطلق من ذلك الادعاء.

لنفترض أن أحدهم يدعي أن الانفجار العظيم كان مذكورًا في كتابه المقدس، وعنده من الآيات ما يؤكد ذلك. لكن هناك نقطة أساسية قد قام بتضمينها في ادعائه دون أن يذكرها، وهي أنه يؤكد أيضًا على وجود أرض مشتركة بين العلم والدين، نقطة يمكن من خلالها للعلم أن يرى الدين والعكس، ويعني ذلك أنه يمكن إخضاع كل منهما لقواعد الآخر، وهنا تحدث المشكلة:

  • بناءً على ذلك، سوف أسأل: هل يمكن للنص الديني -أيًا كان- أن يقوم بوضع تنبؤات مستقبلية؟، أنت تقول أن له أرضًا علمية، ونجاح الافتراضات العلمية مبني في الأساس على قدرتها الواضحة على وضع توقعات مستقبلية محفوفة بالمخاطر.
  • أريد كذلك أن ألقي بسؤال إضافي لطاولة النقاش: كيف سوف يكون الأمر إذا اكتشفنا -يومًا ما- أن الانفجار العظيم لم يكن منشأ الكون؟، هل ستتراجع؟، هل بإمكانك أن تنكر ما قمت منذ قليل باستخدامه كدلائل على صحة القول بوجود الانفجار العظيم في النص الديني، أم سوف تضطر لتعديل قراءتك للنص بحيث تتفق مع النتائج الجديدة؟. في الحالتين نقع في مفارقة، فأنت هنا أمام اختيارين؛ إما أن النص أخطأ، أو سوف تندفع إلى القول بأن النص قابل لأكثر من تأويل، وهو ما يعني أنه لا يمكن استخدامه أصلاً لتدليل العلمي.
  • ربما أيضًا سأضطر أن أُخضع باقي النص للمقاربة والمساءلة مع رفيقه العلمي، فإذا اتفقنا على أن الانفجار العظيم موجود في القرآن، يجب إذن أن نتفقد كل درجات التشابه والاختلاف بين كل كلمة في النص والعلم طالما أن هناك أرضية مشتركة.
  • وقد يحيلنا ذلك إلى أن نعترف بأنه طالما كتب/فلسفات أخرى قد تمكنت من رصد ظواهر علمية قبل مجيء العلم، و قبل مجيء كتابك المقدس نفسه، قد تكون مقدسة؛ كأن نناقش قدرة فلسفة ديمقريطس قبل ألفي وخمسمائة سنة على توقع أن كل شيء يتكون من وحدات صغيرة تختلف في طبيعتها عما تكونه وسميت ذرة Atom.

قبل 1000 سنة قال أبو الريحان البيروني إن القرآن «لا يتدخل في شأن العلم ولا يُخالطه». ورغم ذلك تطورت يومًا بعد يوم دعاوى البعض بالقول إن هناك «إعجاز» علمي ما، إعجاز كوني، كيميائي، جيولوجي، بيولوجي، عددي، تواصلي، طبي، لغوي، حسابي، صيدلاني، …إلخ، آلاف الإعجازات خرجت إلينا في الأعوام -قُل- الأربعين الماضية. لن أحتاج هنا للخوض في كم الكوارث والإهانة المعرفية للنصوص الدينية التي تسبب فيها ذلك كله، لكن ما يجب أن نتأمله فعلاً هو أنه على مدى زمني واسع لم تستطع تلك الادعاءات الواهية أن تضيف أي شيء للعالم، للعلم، للنص، أو للمؤمنين ذاتهم، غير جدل لغوي عقيم أخرج النصوص عن أهدافها، وصب في مصلحة الدجل.

العلم هو قراءة مختلفة للكون؛ لذلك، حينما يحاول عالم ما في ورقة علمية/محاضرة علمية/ مرجع علمي أن يتحدث عن أسباب نشأة الكون، فسوف يستخدم اصطلاحات كــ «مفردة الانفجار العظيم» ولن يستخدم اصطلاحات كـ «الخالق»، ببساطة لأن وجود خالق لا علاقة له بالاصطلاح العلمي الذي يتخذ الطريقة أعلاه كمنهج بقدر ما له علاقة بشخوصنا وقناعة كل منا الخاصة، وهو ما يمكن لنا التعبير عنه بحرية، وتلك نقطة مهمة. فمن حقك أن تكتب عن علاقة وجود إله بالعلم عبر التصميم الدقيق، أو عبر الوعي، أو أي شيء. ومن حق ستيفن هوكينج أن يستخدم العلم للحديث عن عدم وجود إله، ومن حق كراوس أن يعتقد في ذلك أو في عدمه، ولكل منكم الحق في النشر وزيارة البرامج الصباحية للحديث عن «وهم الإله» أو «وهم الإلحاد». لكنك -والجميع- حينما تفعل ذلك، فلقد خرجت بالفعل من باب العلم لباب التفلسف والدلالات مفتوحة الأفق، والجدل الممتد -ربما- إلى لانهاية.

2% ممن حصلوا على نوبل في الفيزياء ما بين عامي 1900 و 2000 هم من الهندوس، ونفس النسبة من الملحدين، ونفس النسبة من البوذيين، جميع الطوائف المسيحية تقريبًا حصل أفراد منها على جوائز نوبل في الفيزياء، حصل يهود ومسلمون على نوبل في الفيزياء، محمد عبد السلام -مسلمًا- حصل عليها مع ستيفن واينبرج –ملحدًا- 1979. لو كانت هناك لمعتقد محدد علاقة واضحة بالعلم لانتهت المشكلة، لكن الإنسان كائن متنوع، يمكن له دائمًا أن يتقبل أمورًا عدة وينحاز لأشياء تبدو لاعقلانية مهما بلغت قدراته العقلية. يعطينا ذلك قدرًا من الحرية، من الرغبة في الابتعاد عن الموضوعي إلى الذاتي، إلى تجربتنا الخاصة في هذا الكون الكبير، تلك التي تضفي على كل منّا قناعة خاصة به لا يمكن -ربما- فهمها، لكنها تظل تجربتك. ليس العالم يا صديقي درجات سلم نصعد عليها جميعًا، لكنه شجرة تتفرع فيها المذاهب والرؤى.