أصنف نفسي من المضروبين تمامًا بـ«أحمد زكي»، في كل صوره الفنية حين يضحك حين يبكي حين يصرخ، حين يرقص وحين يغني، سواء غنى أغاني خفيفة تمثيلية كما الحال في «البيه البواب» و«كابوريا»، أو حتى حين تراه يدندن لحنًا طربيًا لـ«أم كلثوم» كـ«اسأل روحك»، دائمًا الرائحة مختلفة وجديدة.

وإن ما فضلش معاك غير قلبك إوعى تخاف.. مش هتموت.. هتعيش

كانت هذه الكلمات التي تغنى بها أحمد زكي في فيلم «هيستريا»، وظللتُ على ما أذكر شهورًا أسمعها بدوام لا ينقطع بصورة غريبة حتى على سماعي الملول، فتشت حول تلك الكلمات بعد ذلك ووجدتها بصوت ملحنها الذي شق لي البحر «وجيه عزيز».

هو وجيه عزيز الملحن والمغني الذي بدأت شهرته -التي ما زالت ضئيلة – مع أوائل التسعينات، وأكثر من يعرفونه بالكاد تعرفوا عليه من شراكته البديعة آنذاك مع «محمد منير»، تلك الشراكة التي أنتجت روائع الطول واللون والحرية مثل «عصفور» و«صغير السن»، ثم استمرت مع «ممكن»، «الفرح شاطر»، «حاضر»، «من أول لمسة» وغيرها، ينتج ألحانًا أخاذة بها روائح كلاسيكية يحاول إضافة بعض الحداثة الدائمة عليها باستخدام التوزيع، وتبقى الكلمة في أعماله دومًا هي البطل.

وجيه عزيز هو أحد أولئك الذين لا تملك عند التعرف عليهم سوى تشغيل حاسة النبش بكل قوة، تنبش عن أي لحن وتسمعه، أغنية بصوته أو بصوت مطرب آخر وتسمعها، لقاء تليفزيوني أو حتى جلسة خاصة، إحساس دائم بالظمأ ويزداد أكثر كلما استمعت إليه، هو بحر ترتوي منه لتظمأ من جديد.

إن كانت عناصر الأغنية الثلاثة هي اللحن والكلمة والغناء، فالموسيقى هي اللغة الأعم، ولا توجد نوت موسيقية مؤمنة ونوت كافرة، كلها موسيقى، والموسيقى إما جيدة أو لا، لا يوجد تصنيف آخر، لذلك فالموسيقى لن تتوقف، وكل عصر بإمكانه أن يخرج موسيقاه وموسيقييه الذين يأتون بما لم يأت به غيرهم من قبل، أما الأصوات فما أكثرها بل مع التطور التكنولوجي الواضح يمكن أن نخرج من الصوت الجيد جدًا صوتًا ممتازًا ومن الصوت الممتاز صوتًا مبهِرًا لتظل الأزمة الكبرى في الكلمة وانتقائها.

اختار وجيه عزيز الكلمة منذ بدايته، ووجّه نحوها جُل تقديره واجتهاده، صار مأخوذًا بـ«صلاح جاهين» و«فؤاد حداد»، وتحديدًا بالأخير، وزاد على تلحينه لأبياته الإيقاعية أن لحّن مسرحياته الشعرية. هو كفؤاد حداد تمامًا تشعر في كليهما بروح الفن المثالي، الفن الذي لا يعني كثيرًا بأي شيء سوى كونه فن.

صحيتني ليه يا شاويش يا شاويش أنا كنت سارح في الملكوت

هذا الاعتناء الدقيق بالكلمة ساق له في طريقه من يعرف قيمة هذا الاعتناء، فكانت ثنائيته مع الشاعر «علي سلامة»، علي سلامة شاعر مصري معاصر لا يمكن أن تراه ويخطر ببالك أنه شاعر، هو رجل له هيئة الموظف المصري الشقيان على قوت أولاده ولا تفارقه البسمة ما مر أو تكلم، كان علي سلامة هو المعادل الذي احتاجه وجيه عزيز ليصوب ألحانه بكلمات تخرج من روح العصر الحالي، إضافة إلى كلمات حداد أو جاهين، فأنتجا معًا عديد العلامات التي وإن لم تُقدَّر حاليًا فبالتأكيد هي حكايات ستُحكى لاحقًا وينصت إليها شغف الجميع.

تعاون وجيه عزيز مع علي سلامة في ألبومي «زعلان شوية»، و«ناقص حتة» من غناء وجيه عزيز نفسه، وأضمن لك أن كل أغنية لهما هي عمل فني متعوب فيه لم يخرج بسهولة، فهذا الشقاء الذي رآه وجيه عزيز في كلمات علي سلامة ضمن له صدق الإحساس ضمانًا كاملًا قبل الشروع في أي لحن، ولعل أغنية مثل «لو تروح» تمثل تعبيرًا تامًا عن هذا الصدق، وهي أغنية تتناول فكرة تم تناولها كثيرًا كفكرة الاغتراب، وفي الوقت الذي تعج فيه أغاني الاغتراب بحب مصر والحنين إلى الأصحاب، ترى كلمة علي سلامة بروح موسيقى وجيه تعرض مشكلة الاغتراب الحقيقية بكل بساطة وصراحة:

لو تروح وتقول مسافر.. مين يسأل علينا؟

هي روح الكلام المتسلسلة التي لا يمكن إدراكها بأي حرفية، من عاش تجربة الاغتراب بحق يدرك أن أغنية «لو تروح» هي أقسى أغاني الاغتراب في المطلق.

خدت حسك من بيوتنا * مين يقول إنك تفوتنا قولنا لما انبح صوتنا * مين يسأل علينا؟!

وجيه عزيز المغني مبهر كذلك كما الحال مع وجيه الملحن، يمكنك أن تتبين ذلك إذا استمتعت له يغني لحنًا له غنّاه مطرب آخر، هو ليس بالمطرب الغول الذي يملك جوابات جبارة وتنقلات عبقرية، لكنه مغنٍ فاهم موسيقى ويملك روحًا على الكلام لها سطوة لا تنفلت، يشبه في ذلك «رياض السنباطي» حين يغني بصوته ألحانه لأم كلثوم. روح مَن خلق الموسيقى تكون هي الأجدر على التعبير دائمًا.

وجيه عزيز يعرف مقدار نفسه جيدًا، ويدرك قيمة ما يمكنه إنتاجه لذلك استمر في طريقه لا يتهافت على أي مطرب ليقبل منه لحنًا، بل لديه أعماله التي يعرضها في جلسات أو حفلات صغيرة، وعلى من يرغب بقبول لحن أن يستأذن أولًا.

أن يذهب إليه بإرادته ثم ينقر عليه في حجرته التي يسكنها في هذا العالم الخاص، فهو ليس ممن يعرضون أنفسهم ليل نهار، لا يتعامل وجيه عزيز مع المستمع على أنه زبون لذلك لم يقبل أن يتم التعامل معه على أنه سلعة، قد ترى في وجيه عزيز أحيانًا صورة الفنان المغرور المتعالي باسم الفن، على أي حال حتى لو كان كذلك فهو أفضل بكثير من المتعالي باسم اللافن.

دائمًا هذه الصورة المثالية للفنان الذي يقدم كل ما لديه تكون مثيرة وتحمل ملامح شهيد الفن، والواقع أنه لا يوجد فنان كذلك، اضطر وجيه عزيز في التسعينات أن (يقرص على نفسه شوية) ليخرج أعمالًا توافق الذوق السائد، فأهدى لـ«سيمون» أيقونة التسعينات أغنيتي «اسهر بقى لوحدك» و«مش نظرة وابتسامة»، وحين فعل ذلك (كسّر الدنيا)، الغريب في ذلك أن هذا النجاح لم يغره، فعاد بعده وجيه الذي يرضى هو عنه لا الذي يرضى الناس منه.

يبدي وجيه عزيز دائمًا قدرًا لا بأس به من اللامبالاة تجاه تقدير الإعلام والجمهور له، وهو ليس ما يخفيه بالضبط، لا يوجد فنان يسعده شيء أكثر من نظرات الانبساط والرضا التي يراها في أعين المتلقين، لذا أرجو أن يقرأ وجيه عزيز هذا الكلام ويعرف أن هناك الكثير يقدرونه، وأنه حكاية ستُروَى عاجلًا أم آجلًا، وأنه عندي هو الوجيه الذي أعزه ما دام السمع والشجن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.