هذه الموسيقى حزينة جداً، إنها تجعلني سعيدًا!

كنت أعتقد لوقت قريب أن تقدير الحزن بشكل مبالغ فيه هو من آثار الحياة في بلاد المشرق التي تقدر المآتم أكثر من الأفراح، ولكن ملاحظتي لنفس الظاهرة غربيا كانت كفيلة بإثارة السؤال من جديد، لماذا يستمتع البشر عموما بالموسيقى والأفلام الحزينة؟ هل يمكن لجرعة زائدة من الفن الحزين أن تصيبنا بالسعادة؟

قد تكون في حالة يرثى لها، نفسيا وجسديا، قد تمر بيوم سيئ اعتيادي آخر في مصر، ولكنك، وبدلا من البحث عن حلقات سيت كوم، فيلم رسوم متحركة كوميدي، ستتوقف عند فيلم مليئ بالموسيقى الحزينة، أوصاك به صديق بكر بنفس الحالة، سينتهي الفيلم وأنت في حالة خدر من موسيقى البلوز أو الروك البديلة، كلمات الأغاني الحزينة، الإيقاع هادئاً وشجياً، ولكنك في النهاية أفضل حالا، لقد أصبحت سعيداً بشكل ما!

ما هو التفسير الفني/ النفسي لكل هذا؟


الانغماس في اللحظة

يبدو بشكل ما أننا نقدر الحكايات والمشاعر الحزينة لدى صناع الفنون بشكل أكبر، يمكنك القول إننا نعتبرها صادقة وحقيقية، يؤدي هذا للانغماس بشكل أكبر في اللحظة، للتركيز بشكل أكبر على المنتج الفني الذي تتلقاه، سواء كان موسيقيا، سينمائيا، روائيا، أو حتى لوحة فنية.

يتفق د. بول تاجراد أستاذ علم النفس الإدراكي مع هذا التفسير حيث يرى أن تقدير الفنون الحزينة يرجع بالأساس لكونها قادرة على إخراجنا من مسار حياتنا اليومية وتوفير لحظة صادقة من الانغماس مع ما يقدمه المنتج الفني.

يمكنني الآن فهم السبب وراء زيادة تقديري وآخرين لفيلم La La Land بشكل لحظي أثناء مشاهدتنا له في دار السينما بمجرد وصولنا لمشهد تتابع النهاية الحزينة، صمت تام، الجميع انغمس في لحظة الحزن، لمسته أكثر من مشاهد الاستعراضات الغنائية المبهجة والمبهرة، أثرت لحظات الحزن بشكل كبير على تقييمنا للفيلم، يبدو أننا نقيم الحزن الصادق كصورة تعبير فني صاحبة مستوى جمالي مرتفع.


تنفيسة

مشاهدة الحكايات الحزينة في عمل فني يؤدي للتنفيس عن المشاعر السلبية لدى المشاهدين، هذا ما اقترحه أرسطو قديماً، وهذا ما قد يكون سببا أيضا لاستمتاعنا بالأغاني والأفلام الحزينة حتى الآن.

يقدم علم النفس الاجتماعي تفسيرا مشابها من خلال نظرية المقارنة الاجتماعية، وهي تلك النظرية التى تعنى أن البشر يميلون لتقييم مشاعرهم وإحساسهم بذواتهم من خلال المقارنة مع المحيطين بهم، وعندما يشعر الإنسان بالحزن يميل للمقارنة مع حزانى أكثر منه، وهكذا يشعر في النهاية بالرضا عن نفسه.

التكنيك النفسي الآخر يكمن في قدرتنا على ربط ما نشاهده ونستمع له بحياتنا الشخصية، فندرك أننا لسنا بمفردنا فيما نواجهه.

«من يرى بلاء غيره، يهون عليه بلاؤه»، مثل يبدو معبراً للغاية من خلال وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، لذلك ستشعر بالسعادة بعد استماعك للشيخ إمام وهو يشدو «وإن كان أمل العشاق القرب، أنا أملي في حبك هو الحب»، كل شئ بخير فهناك من هو أشد منك بؤسا على أى حال.


هرمونات انتهازية

نعرف مقدما أن الاستماع للموسيقى يطلق مستويات عالية من هرمون الدوبامين، وهو الهرمون المرتبط بمكافأة العقل للجسد عن قيامه بأدوار حيوية مرتبطة بالحصول على الطعام، القيام بالوظائف الجنسية، تناول بعض المخدرات، الشعور بالرضا والسعادة. هكذا إذا يطلق استماعك للموسيقى إشارات السعادة والرضا تلقائيا.

الإضافة التي تقدمها الموسيقى الحزينة هى ما يمكننا تسميته بالهرمونات غير المباشرة أو ما أسميها «الهرمونات الانتهازية»، وهي هرمونات تُطلق نتيجة سماعك أو مشاهدتك لمحتوى حزين، يطلق عقلك هرومانات تهيئ جسدك لاستقبال صدمة أو موقف سلبي، ولكن هذا لا يحدث لأن المحتوى الذى تشاهده أو تستمع له لا يحدث لك وإنما يحدث لشخصيات خيالية فنية، وأنت تدرك هذا، هكذا إذا يصبح لديك فائض من الهرمونات التى تواسيك وتسكن آلامك حتى ولو لم تكن أنت من يحتاجها.

يمكنك إذن الاستماع لفيروز وهي تكرر «ضجرت مني الحيطان»، ستتأثر بكلمات وموسيقى «زياد رحباني» التي تبدو كترتيلة شخص يوشك على الانتحار، ستشعر بحزن لحظي، ستزداد مستويات الدوبامين والبرولاكتن في جسدك، وستشعر في النهاية بالرضا والسعادة وربما ببعض الخدر.


احذر، الموسيقى الحزينة ليست آمنة بشكل كامل

أسوأ ما يمكن أن يفعله هذا التقرير هو أن يخرج القارئ معه مقتنعاً أن الموسيقى والأفلام الحزينة هي العلاج المناسب لمن يعانون من الاكتئاب المرضي، هذا ما لم أقصده أبداً.

الموسيقى الحزينة يمكنها أن تجعل بعض البشر سعداء، وهذا ما حاولنا تحليله، أما من يعانون من الاكتئاب أو فى عُرضة له، فيمكن أن يتعرضوا لتأثير عكسي تماما، بمعنى أن الاستماع للموسيقى الحزينة يمكن أن يزيد من حالتهم سوءاً. وهذا ما يختبره البعض أيضا عند استماعهم لمقطوعات موسيقية ترتبط لديهم بذكريات سيئة، وفي حقيقة الأمر يبدو أن الاستماع لموسيقى مبهجة وسعيدة قد يكون أفضل كثيرا بالنسبة لهم. وهذا طبقا لدراسة أجرتها د.ساندرا جاريتو.

الشيء الملهم حول الموسيقى، السينما، الفنون بشكل عام هي أنها تجعلنا قادرين على الإحساس بمشاعرنا وتقديرها بشكل أفضل، مشاعر قد نكون غير مدركين لتواجدها أصلا. وهكذا نعيد اكتشاف أنفسنا كما نعيد اكتشاف العالم من حولنا.