عرض في عام 1983 المسلسل التليفزيوني البريطاني «Widows»، للكاتبة ليندا لا بلانت، محققًا رواجًا كبيرًا في ذلك الوقت. يحكي المسلسل حكاية ثلاث نساء لا شيء يجمع بينهن سوى الديون التي تركها الأزواج المنخرطون في أنشطة إجرامية بعد عملية سطو مسلح أدت إلى مصرعهم. كان عمر المخرج البريطاني ستيف ماكوين آنذاك 13 عامًا. توحد ماكوين تمامًا مع نساء «لا بلانت»، واللاتي ينظر إليهن دائمًا من قبل الجميع على أنهن عاجزات وقليلات الحيلة، لكنهن يبدين شجاعة نادرة أمام الخطر الذي يواجه حياتهن.

حمل ماكوين بداخله حكاية هؤلاء النساء لأكثر من ثلاثة عقود، حتى استطاع في النهاية أن يحقق فيلمه، والذي يحمل أيضًا نفس اسم المسلسل التليفزيوني الذي افتتن به طويلًا، ناقلًا أحداثه من لندن الثمانينيات زمن «مارجريت تاتشر»، إلى شيكاجو اللحظة الراهنة، ملقيًا بشخصياته وسط واقع أكثر تداعيًا واضطرابًا من ذلك الوارد بالعمل الأصلي.


ماكوين ومخاطرة سينما النوع

يبدو أحدث أفلام ماكوين للوهلة الأولى غريبًا عن بقية أفلامه السابقة، خاصة مع اختياره للمرة الأولى أن يحكي حكايته عبر فيلم ينتمي لسينما الأنواع (genres). ينتمي فيلمه إلى نوع أفلام السطو والجريمة. تكمن مخاطرة فيلم الأنواع بالنسبة لمخرج مثل ماكوين، لا يأتي إليه خاوي الوفاض، بل يأتي إليه محملًا بأفكاره وهواجسه، هو أن لهذه الأفلام أعرافًا وتقاليد تأسست عبر الزمن، ويتوقع المشاهد أن يراها متحققة في الفيلم الذي يشاهده. مثلًا في فيلم كفيلمنا نتوقع أن نشاهد مشاهد حركة، مطاردات، عنف مع التواءات سردية على صعيد الحبكة.

ويبقى الحكم على المحاولة معلقًا على قدرة المخرج على أن يعبر من خلال فيلم الأنواع عما يتجاوز تقاليد هذا النوع، فهذه الأنواع في النهاية ليست صارمة، بل مرنة تسمح بمثل هذا التجاوز لمن يمتلك القدرة، وهو ما نراه متحققًا على نحو بعيد في فيلم ماكوين، وهو ما سنحاول أن ندلل عليه فيما يلي عبر بعض الخيارات الأسلوبية للمخرج.

يفتتح ماكوين فيلمه بلقطة هادئة بين «فيرونيكا/فيولا دافيس»، و«هاري/ليام نيسون» في وضع حميمي، سرعان ما يتمزق هذا الهدوء وتلك الحميمية عبر قطع مونتاجي حاد إلى لقطة تصور عملية السطو التي أودت بحياة منفذيها. يستمر التتابع الافتتاحي على هذا المنوال في مونتاج موازٍ بين العلاقة بين النساء وأزواجهن قبل العملية وبين العملية نفسها وما أفضت إليه.

يكشف هذا التتابع مدى هشاشة هؤلاء النساء واستغلالهن من قبل الأزواج، ثم يختتم التتابع وقد عاد الهدوء مرة ثانية عبر لقطتين قصيرتين ليد فيرونيكا تتحسس موضع زوجها الشاغر في السرير، ثم وجهها الحزين والمتألم لفقدانه. هذا التتابع لا يؤسس فقط لعالمه الفيلمي ولشخصياته، بل يعبر عن أن ما يشغل ماكوين أولًا وأخيرًا هو المدار العاطفي لشخصياته النسائية، وهو ما يؤكده أيضًا منح ذروات السرد لديه لمشاهد التحول العاطفي لشخصياته، وليس لمشاهد العنف أو المطاردات أو الكشف عن خفايا الحبكة.

هناك مشهد عبارة عن لقطة واحدة ممتدة دون قطع يجمع بين «جاك/كولين فاريل» مع صديقته ومديرة حملته الانتخابية أيضًا بعد لقاء مع بعض ناخبي دائرته في أحد الأحياء الفقيرة، بينما تنطلق السيارة يحتدم حوار بينهما، هو يعبر عن أنه لا يريد هذه الانتخابات وأن والده هو من ورطه فيها، بينما هي تتهمه بالطفولية، وعليه أن يكبر.

حوار مهم وكاشف عن طبيعة الشخصية، لكن ماكوين يبقي الكاميرا بالخارج، بينما لا يصلنا سوى صوت الشخصيتين، وترصد الكاميرا تغير المحيط بين الأحياء الفقيرة للناخبين وبين حي الأثرياء للمرشح، ويبدو أن المسافة بينهما محدودة للغاية، هذه لقطة تلفت الانتباه لنفسها، أولًا لطولها الزمني دون قطع في فيلم ينتمي لنوع يسعي لتحقيق إيقاع سريع ولاهث، وثانيًا لكسرها للتوقع، فعادة ما ستكون الكاميرا مع الشخصيات داخل السيارة. لقطة كهذه توضح غنى وتعقد ميزانسين ماكوين ومزجه بين الخاص والعام في إطار واحد.

النغمة اللونية الغالبة على شريط الصورة هو الأزرق الذي لا يستخدم عادة في أفلام الجريمة والحركة، ولكن هو اللون الأنسب للتعبير عن وحدة شخصياته النسائية في عالم بارد وعدائي، واحتياجهن العاطفي غير المتحقق بعد رحيل أزواجهن.


العالم السينمائي للبريطاني ستيف ماكوين

المخرجون مثل الكتاب، خاصة الجيدين منهم، حتى إن اختلفت عوالمهم فإنهم يركزون على فكرة واحدة، موضوع وحيد يشغل انفعالهم ويشكل هواجسهم، أو سؤال يتكرر بإلحاح داخل أعمالهم. في سينما «ماكوين» نجد الموضوع الجوهري يتمحور حول سؤال البقاء أو النجاة. في فيلمه «12 عامًا من العبودية 12 Years a Slave»، وعلى سفينة تحمل سولومون بطل الفيلم مع بعض العبيد الآخرين إلى مصير مظلم، يقول له أحدهم: «المكان الذي سنذهب إليه سيجعلنا نتمنى حقًّا لو متنا ونحن نحاول النجاة». وطيلة الفيلم يحاول سولومون البقاء وسط جحيم حقيقي، أملًا في لحظة يستعيد خلالها حريته المختطفة ويعود إلى حياته القديمة.

في فيلمه «عار Shame» يحاول براندون أيضًا أن ينجو من هذا الخراب الذي يضرب في أعماقه. لم يعد قادرًا على الحياة، والتواصل مع الآخر سوى أخته، أو إقامة علاقة حقيقية مع امرأة يحبها بعيدًا عن الإطار الضيق لرغبته الجنسية المستفحلة. وهنا في أحدث أفلامه تحاول شخصياته النسائية النجاة وسط عالم شديد القسوة، وضع قوانينه ويديره رجال فاسدون حتى النخاع، أنبياء كذبة وساسة ضالعون في عالم الجريمة. عالم بكل ما فيه يبدو غارقًا في ظلام مخيف.

يستعين ماكوين بالكاتبة الروائية «جيليان فلين» صاحبة أفلام «Gone Girl»، و«Sharp Objects» للاشتغال معًا على نص فيلمه، حيث تجيد فلين تقديم الشخصيات النسائية على الشاشة، شخصيات يائسة ومتألمة، ومع ذلك تخفي قوة عظيمة داخلها. تجيد فلين أيضًا الكشف عن طبقات المشاعر الكامنة تحت سطح شخصياتها، فشخصياتها لا تختلف كثيرًا عن شخصياته، حيث تؤمن فلين أن «إبقاء رأسك فوق الماء وسط عالم يغرق هو ضرب من البطولة».

يستمع أحد الشقيقين «ماننج/دانيل كالويا» في أحد مشاهد الفيلم داخل شاحنته وهو يراقب فيرونيكا إلى تقرير إذاعي عن ألبرت وود فوكس، الذي قضى سجينًا ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن داخل سجن «أنجولا». قضى وود فوكس كل هذه المدة داخل حبس انفراداي متجاوزًا بذلك أي سجين آخر في تاريخ السجون الأمريكية. والسؤال الذي تطرحه هذه الحكاية أيضًا هو سؤال البقاء، كيف استطاع أن ينجو داخل هذا السجن الذي يعتبر من أكثر السجون خطورة في أمريكا. هكذا حتى الحكاية العابرة في هذا المشهد العابر تشير إلى السؤال الجوهري في سينما ماكوين، وعن نوعية القصص التي تفتنه.