يقول المخرج البريطاني-لأمريكي كريستوفر نولان:

سواء أحببت هذا أم لم تحبه، روبرت أوبنهايمر هو أهم شخص مر على العالم على الإطلاق، هو من صنع العالم الذي نعيشه الآن، سواء كان هذا العالم جيدًا أم شنيعًا، فإن قصته لا بد أن تروى.

هذا ما قاله نولان في مناسبة قريبة، وهو قول يجعلنا نتساءل، لماذا أوبنهايمر هو أهم شخص، ولماذا هذا الفيلم تحديدًا هو فرصة لصناعة فيلم القرن، وما هو المقصود بالتحديد بمصطلح فيلم القرن من الأساس؟

مفهوم الإله عند إميل دوركايم

قبل كل هذا، علينا صياغة عدة مفاهيم لها علاقة بالمجتمع أو بمعنى أصح لها علاقة بالتجمع البشري، في هذا المجال سنلجأ لمساهمات عالم الاجتماع الشهير «إيميل دوركايم».

في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية» وهو دراسة عن المنظومة الطوطمية الحاكمة لقبائل أستراليا البدائية، يصيغ دوركايم فهمه عن تكون الدين ومفهوم الإله.

يرى دور كايم أن تلك المفاهيم تفاعلية، بمعنى أنها توجد عند وجود تجمع بشري طقسي، بمعنى أن الشخص المشارك تتغير حالته في الحالة الاجتماعية عن حالته في الحالة الفردية، عند مشاركة الشخص في طقس ديني في الجماعة فإنه يشارك باسم مختلف عن اسمه في الحياة الطبيعية، وهذا الاسم ليس اسمًا (ظاهريًا) بل هو اسم يعبر عن هويته الحقيقية، فهذا هو كينونته الحقيقية التي تظهر فقط في الإطار المقدس الذي يخلقه الطقس، تستكمل الحالة بالملابس والإكسسوار الذي يشارك به في الطقس، ثم المراسم المقدسة من الرقص أو دق الطبول أو استخدام الأضحية التي تبدأ من الحيوانية للبشرية، ومع هذه الحالة من الاشتراك الجماعي في هذا الطقس يفقد الفرد أي علاقة بفردانيته السابقة على الطقس ويكتسب هوية جديدة، هوية تجعله يفعل أشياء ما كان ليفعلها في شرطه الفردي السابق، هوية قائمة علي التجاوز للشرط البشري وخلق ما يعرف بالإلهي.

لذلك غالبًا ما يحدث بعد الطقس حالة من النسيان لما حدث داخل الطقس، كأن من فعل هذه الأشياء داخل الطقس كان شخص آخر أو هوية متجاوزة تلبست الجميع، لذلك كان مفهوم الإلهي مرتبطًا دائمًا بالتجاوز، في هذه الحالة نجد قاعدة (أن الكل أكبر من مجموع أجزائه) تسيطر هنا وهي قاعدة تستخدم أيضًا في المونتاج السينمائي على يد (أيزنشتاين) .

ما نريد قوله هنا إن الهوية الاجتماعية مختلفة عن الهوية الفردية من حيث النوع وليس الكم، ما يحدث اجتماعيًا ليس له أي علاقة بما يحدث على المستوى الفردي، البشر في تجمعهم يخلقون شيئًا جديدًا، أو يتلبسهم شيء أكبر من الجميع .

كيف يتم وصف فيلم بأنه «فيلم العصر»؟

كل عصر له (آلهته)، وإذا تتبعنا روح دوركايم سنعرف كيف تأخذ الأعمال الشعبية هذه السطوة عند هذا الحجم من الجمهور. أولًا كيف يمكن وصف العمل بالشعبي؟ هل نقول إنه اخترق الروح الجمعية لأكبر عدد من الجماهير في عصر؟ قد تكون هذه إجابة ولكن كيف يحدث هذا؟

ما أعتقده أن العمل الشعبي -العصري- يعبر عن أكثر صراع حرج تمر به البشرية في هذا الوقت (وقت صناعة العمل) هو يعبر عن صراع متولد من الأسطورة الشخصية التي يمر بها الفرد لينضج داخل إطار هذا العصر.

إذا كنا نرى مثل «كوينتن تارنتينو» أن الفيلم الذي يعبر عن هذا العصر بأكثف تعبير هو فيلم The Social Network للمخرج دافيد فنشر وذلك لأسباب مفهومة، فالسؤال الآن… ما هو فيلم القرن الماضي؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا وضع بعض الشروط لتحديد هوية «فيلم القرن»، أهم شرط أن يكون مرتبطًا بعدد كبير من الجماهير في ثقافات مختلفة، الشرط الآخر هو أن يرسم بدقة رحلة البطل وصرعاته الروحية في هذا العصر، الشرط الأخير هو الموقف الميتافزيقي من الماورائيات الأسطورية .

فيلم القرن الماضي

The Godfather
فيلم «العراب/The Godfather».

في رأيي أننا إذا تتبعنا بعض الشروط المكتوبة سينتهي الاختيار عند ثلاثة أفلام هم (المواطن كين-ثلاثية الأب الروحي-سائق التاكسي)، هذا الاختيار ليس معناه الأفضلية الفنية علي بقية الأفلام ولكنه في رأيي له علاقة بالأفضلية الكلتية (أو الشعبية)، فالزمن حسم صراع المواطن كين والأب الروحي لمصلحة الأخير، وهذا أيضًا عنصر مهم في ترسيخ الفيلم الشعبي، لأنه مع الزمن يزداد الارتباط اللاشعوري مع العمل الشعبي لأنه يحكي تفاصيل أكثر دقة لا يكتشفها المشاهد إلا بالتقدم في السن ورحلته مع العالم.

أما بين (الأب الروحي-وسائق التاكسي) فنتيجة الصراع هي من حسمته للأول، بمعنى أن انتهاء الأب الروحي بالاستسلام والعدمية الكاملة، هو ما جعله أكثر تعبيرًا عن روح هذا العصر عن نهاية (سائق التاكسي) الثورية التي قلبت كل شيء، ففي هذا العمل كان هناك شيء رومانسي قادم من اتجاه إصلاحي خاص بمؤلف هذا العمل الذي تغلب على معظم أفلامه نزعة تطهرية ومشاركة فعالة للفرد لتغيير المجتمع بشكل جذري، وهو تفكير تواق أكثر منه واقعيًا، فمع الوقت كان الاكتساح الجمعي لشخصية الفرد من قبل المجتمع هو السائد.

لكن لماذا كان (الأب الروحي) هو الأكثر استدامة وتأثيرًا لهذه الدرجة؟

الإجابة هي أن رحلة البطل مرت بمراحل أساسية مر بها أي شخص يبدأ رحلته في هذه الحضارة المادية. التخلي عن التصورات الرومانسية، مواجهة قسوة العالم، خيانة الروح، قتل الجانب الميتافزيقي حتى تستطيع الصمود في عالم مادي، ثم الندم. هذه كانت رحلة مايكل وهي رحلة مشابهة لأي قصة صعود في هذا العالم، والأهم أنها تشبه أي قصة صعود في أي مجال عمل ليس فقط الجريمة، وهو شيء كان جوهريًا في فهم (الأب الروحي) فهذا العمل ليس عن الانحطاط الأخلاقي ولكنه عن استحالة عمل الأخلاق في تلك المنظومة من الحضارة في الأساس، هناك شيء جوهري داخل أمريكا يطرد الأخلاق من المعادلة، وكان اكتشاف هذه الديناميكية هو الاكتشاف الأهم لهذا العمل.

أوبنهايمر

كان تكوين أوبنهايمر هو التكوين المثالي لحمل صراع بهذه الكثافة، صراع راديكالي يصيغ المفاهيم الأولية كالوطنية والأخلاقية في إطار وشكل جديد ومركب.

عالم الفيزياء النووية ذو الاهتمامات الأدبية والروحية والتراث الهندوسي، كان دائمًا تركيبًا مثيرًا للعجب لشخص سوف يتم وضعه في اختبار أخلاقي غير مسبوق في تاريخ البشرية. شخص لا منتم، ولكن عدم انتمائه كان دائمًا دليلًا على راديكالية شخصية في عصر متقلب وغير مفهوم، شخص حمل الاختيار المستحيل في لحظة انشطار كوني .

ما هو جوهر صراع أوبنهايمر ولماذا هو حرج؟

الصراع أخلاقي وحرج لأنه في نقطة الجنون، العالم كان انفلت تمامًا، داخل نقطة الجنون هذه كان من المستحيل أن يتماسك أي شخص على الإطلاق، لكن أوبنهايمر تماسك للحظات، وأنشد أنشودته الهندوسية: اليوم أصبحت الموت، مدمرًا كل العوالم. هو يعلم بالضبط ما فعل.

لماذا هذا الفيلم ممكن أن يكون شعبيًا؟

قبل الإجابة نسأل سؤالًا آخر؟ هل أوبنهايمر مسئول بمفرده عن هذا القرار؟

للإجابة عن هذا السؤال نرجع لحكاية حكاها عالم النفس الشهير «كارل جوستاف يانج»، يحكي «يانج» أنه قبل الحرب بسته أشهر كان في رحلة بالقطار داخل أوروبا، وغرق في نوم عميق وحلم بكابوس شنيع، حلم أن الدماء تنفجر من الأراضي والجبال في كل أنحاء أوروبا، كان هذا بمثابة نبوءة بنشوب الحرب، وهو ما حدث بعد ذلك، كان تفسير (يانج) للحرب بسيطًا للغاية كان يقول: الحرب حدثت بين نصف البشرية والنصف الآخر.

هو لم يكن يقصد المجموعات، بل كان يقصد أن الصراع النفسي الموجود داخل كل شخص وذاته وانقسامه على نفسه، بسبب دخول أوروبا عصر العلم وهجر الدين والأساطير، أدى اللاوعي الشخص انقسم على ذاته وأصبح منطقتين عكس بعضهما البعض، بل لا يعرفون عن بعض شيء، منطقة الأنماط البدئية والألهة القديمة، ومنطقة المنطق والمنهج العلمي، ولأنه لا سبيل لوصلهم، فقد كانت الحرب نتيجة منطقية للغاية.

لذلك كان اختيار (أوبنهايمر) ليس أبدًا اختيارًا فرديًا ولكنه موقف ناتج عن انهيار البشرية على نفسها منذ وقت كبير، وجاء هو وحمل كل شيء على كتفيه، (غير البشري) في هذا هو قدرته على احتمال الحياة بعد ما فعله في (هيروشيما) و(نجازاكي)، لذلك كما ترى صديقي، هذا وضع غير مسبوق وذروة بشرية أسهمت بها كل الشعوب حول العالم، في وضع نتمنى ألا يتكرر.

 شيء يجعلنا نتذكر رسالة (تاركوفسكي) في فيلمه (سولاريس) على لسان بطله: المعرفة مسموحة فقط عندما تكون أخلاقية . 

اقرأ أيضًا: روبرت أوبنهايمر: لهذا لم تعد هيروشيما كما كانت