في تحرك مثير للاهتمام، لم يأت من دول عربية كبيرة، زار وفد إثيوبي رفيع المستوى يترأسه رئيس الوزراء آبي أحمد، الخرطوم، يوم الجمعة الماضي، من أجل التوسط بين المجلس العسكري الانتقالي الذي يدير شؤون السودان، وقوى المعارضة، لإيجاد سيناريو مقبول يُخرج البلاد من الأزمة الراهنة. التحرك الإثيوبي جاء في وقت شديد الحساسية، فالمجلس العسكري فض بالقوة اعتصام المعارضة أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، مما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص وإصابة مئات آخرين، والمعارضة دعت إلى العصيان المدني وشل الحركة في كامل أنحاء السودان حتى يرحل المجلس العسكري.

اقرأ أيضًا: شاهد ومشهود: وأد الثورة وفض اعتصام القيادة العامة بالسودان


ردود الأفعال على الوساطة الإثيوبية

التقى أحمد رئيس المجلس العسكري الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وعددًا من أعضاء المجلس، ثم التقى قادة تحالف «قوى الحرية والتغيير» المعارض، وناقش مع الطرفين استئناف المفاوضات. وحث الجميع على التحلي «بالشجاعة والمسؤولية، باتخاذ خطوات سريعة نحو فترة انتقالية ديمقراطية وتوافقية في البلد».دعا آبي أحمد أطراف الأزمة في السودان إلى العودة إلى مائدة المفاوضات لـ«السير سريعًا نحو اتفاق يؤسس لمرحلة انتقالية ديمقراطية»، وطالبهما بـ«الابتعاد عن الاتهامات». كما اقترح أن يتشكل المجلس السيادي -النقطة الخلافية الأساسية بين المجلس العسكري و«الحرية والتغيير» قبل مذبحة فض اعتصام القيادة العامة – من 8 مدنيين و7 عسكريين وأن تكون رئاسته دورية.عاد آبي أحمد إلى أديس أبابا في نفس اليوم، لكنه أبقى في الخرطوم مستشاره الخاص لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، على أمل أن تكون هناك نقاشات معمقة مع كلا الطرفين، مع احتمالية عودة رئيس وزراء إثيوبيا إلى الخرطوم خلال أسبوع لمواصلة مساعي الوساطة.ظاهريًا، ثمّن المجلس العسكري مبادرة الوساطة الإثيوبية وأكد «حرصه وانفتاحه على التفاوض للوصول إلى تفاهمات مرضية تقود إلى تحقيق التوافق الوطني، والعبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأمان، بما يفضي للتأسيس للتحول الديمقراطي الذي هو هدف التغيير والتداول السلمي للسلطة في البلاد»، أما على أرض الواقع، صعد المجلس ضد المعارضة وألقى القبض على ثلاثة من قادة حركة الاحتجاج الشعبية بعد لقائهم رئيس الوزراء الإثيوبي!على الجانب الآخر، قبلت «قوى الحرية والتغيير» مساعي الوساطة الإثيوبية، لكنها رفضت التفاوض مباشرة مع المجلس العسكري واشترطت «أن يتحمل المجلس العسكري الانتقالي مسؤولية فض اعتصام القيادة»، الذي أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، بالإضافة إلى «إجراء تحقيق دولي في الواقعة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين». وطالبت «إتاحة الحريات العامة وحرية الإعلام، ورفع الحصار المفروض على الشعب السوداني بسحب المظاهر العسكرية من الشوارع، ورفع الحظر عن خدمة الإنترنت، قبل الحديث عن أي آفاق للعملية السياسية».

اقرأ أيضًا: إعلان الحرية والتغيير: 4 قوى تقود الثورة السودانية

المفارقة أن تشكيل المجلس السيادي الذي اقترحه آبي أحمد هو نفس التشكيل الذي اقترحته «قوى الحرية والتغيير» ورفضه المجلس العسكري مما أدى إلى توقف المفاوضات ثم مذبحة القيادة العامة وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي تجاوز فيها قطار الواقع الحديث عن تشكيل مجلس أو توزيع أدوار، وبات الدم الذي سال في شوارع السودان يطالب بأكثر من ذلك بكثير.


إثيوبيا تتحرك، لماذا؟

آبي أحمد علي — رئيس الوزراء في إثيوبيا

التحرك الإثيوبي جاء بعد أن طلب مجلس السلم والأمن الإفريقي، من الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، والتي تترأسها إثيوبيا، بالتواصل مع السودان وبذل جهود من أجل استعادة السلام والاستقرار. وجاء هذا الطلب في نفس اليوم (الخميس الماضي) الذي قرر فيه الاتحاد الإفريقي تعليق عضوية السودان في جميع أنشطته لحين تسليم السلطة إلى المدنيين.ورغم أن التحرك الإثيوبي جاء بطلب من مجلس السلم والأمن الإفريقي، لكن هناك العديد من المؤشرات التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأن أديس أبابا كانت ترغب في التحرك وتنتظر التوقيت المناسب. من هذه المؤشرات، أن دعوة مجلس السلم والأمن كانت يوم الخميس الماضي، وتحركت السلطات الإثيوبية على أعلى مستوياتها (ضم الوفد إلى جانب رئيس الوزراء وزير الخارجية ومستشار رئيس الوزراء للأمن القومي ورئيس جهاز المخابرات ورئيس هيئة أركان الجيش) في أقل من 24 ساعة.كذلك لدى أديس أبابا أسباب عديدة تدفعها إلى التدخل في الأزمة السودانية، فهي تمتلك حدودًا مشتركة مع السودان، وأي اضطرابات داخلية في السودان ستنعكس سلبًا بالضرورة على الاستقرار في إثيوبيا. وتتماشى مساعي الوساطة الإثيوبية مع الدور الذي ترسمه أديس أبابا تحت قيادة آبي أحمد لنفسها في القارة الإفريقية، باعتبارها قوة قيادية وازنة محايدة تشجع على الديمقراطية، ثم إن نجاح مساعيها لإحلال السلام والاستقرار في السودان سيضمن لها نفوذًا طويل الأمد في الخرطوم.

اقرأ أيضًا: آبي أحمد: هل نشهد ميلاد قائد أفريقي طال انتظاره؟


هل تنجح مساعيها؟

آبي أحمد, إثيوبيا, إفريقيا, أديس أبابا
هناك العديد من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن إثيوبيا هي الدولة الأنسب للتوسط في الأزمة السودانية. فأولًا: تتمتع إثيوبيا بقبول من مختلف الأطراف في السودان، وهو ما بدا واضحًا من تثمين كافة أطراف النزاع لمساعيها للوساطة، وذلك على العكس من دول أخرى ستُرفض مساعيها حال تدخلت، كمصر والسعودية والإمارات، التي لا تتمتع سوى بقبول المجلس العسكري، لكن تنظر إليها قوى المعارضة باعتبارها دول منحازة للعسكريين وتسعى لإجهاض الثورة السودانية والمشروع الديمقراطي. وعلى العكس من دول أخرى مثل قطر وتركيا، اللتين لا تحظيان بقبول المجلس العسكري ولا المعارضة على حد سواء.ثانيًا: رئيس الوزراء آبي أحمد شخصية ذكية للغاية ويُنظر إليها باحترام على نطاق واسع، إذ استطاع خلال فترة قصيرة أن يصفي أغلب النزاعات الموجودة في بلاده، وأطلق سراح المعارضين السياسيين، ووقع اتفاقات سلام مع الحركات المسلحة، وخلق لبلاده علاقات متوازنة في المحيط الإقليمي. لذا يُعد الرهان على قدرته على إنجاح الوساطة في السودان أمرًا منطقيًا.رغم ذلك، هناك العديد التخوفات من فشل مساعي أديس أبابا في الوساطة بالأزمة السودانية، بعضها متعلق بالوضع الداخلي، وبعضها متعلق بالضغوط الخارجية. داخليًا: يبقى الأمر معلقًا بيد الأطراف المتنازعة، ومدى رغبة وقدرة الطرفين على تقديم تنازلات من أجل حلحلة الأوضاع المعقدة. خارجيًا: الأخبار المتواترة عن تشجيع وتحريض أطراف إقليمية للمجلس العسكري على التعامل بعنف مع المعارضة، وعدم تسهيل التحول الديمقراطي ونقل السلطة إلى المدنيين، تجعلنا نعتقد أن هذه الأطراف لن تسمح بنجاح مساعي الوساطة الإثيوبية، وهي أطراف تجعل من العداء للمشروع الديمقارطي العربي عدوًا لها.