أكتب هذا المقال بعد خمس سنوات من حياتي في القاهرة، القاهرة التي لم أكن أعرف عنها سوى أغنية علي الحجار التي يصرخ فيها من عمق الألم والحب، لم أكن أعرف عنها قبل الخمس سنوات سوى أنها واسعة جداً، وسريعة للغاية، كانت زياراتي محصورة في أماكن محددة، كسائحة تسمتع بالجو الجنوني الصاخب، وتعود لمدينتها الهادئة التي تتنفس البحر والسماء، لم أكن أعلم – وربما كنت أعلم وأكذب على نفسي – أن القاهرة «بنت لذين» كما يصفها سيد حجاب في أغنية علي الحجار، وأن كل ما عدا ذلك في أغنيته محض خيالات مقيتة، عن عالم لم ولن يوجد هنا، في المدينة العجوز اللاهثة.


القروي الساذج الذي بهرته أضواء المدينة

شاب صغير يدعى «إمام»، يسافر من قريته الفقيرة وتبيع أمه ثروتها الوحيدة المتمثلة في بقرة ليتمكن من السفر إلى القاهرة ليستكمل تعليمه الجامعي. تشيعه بالدموع والدعوات والوصايا أن يصبح هو ثروتها الجديدة. يسافر إمام للقاهرة ويسكن لدى «شفعات» في غرفة فقيرة، شفعات سيدة تكبره بأعوام، تدير عملها الخاص وتبدو قوية ومتحكمة. تحتفظ شفعات بجمالها وتغوي إمام ليكون عشيقاً صغير السن تستعيد به شبابها. تدمر علاقته بمحبوبته الرقيقة الصغيرة، وتستولي عليه تماماً، تكاد تضيع مستقبله، حتى ينقذه رجل عجوز ذاب في عشق شفعات حتى انتهت منه عصارة الحياة. هذه هي حبكة فيلم «شباب امرأة» التي نعرفها جميعاً تقريباً، ولكن من هي شفعات؟

شفعات امرأة كبيرة، لم ينحسر عنها جمالها رغم تقدمها النسبي في العمر، تمتلك جسداً قوياً فائراً وروحاً متوثبة، تتحكم في رجال كثر يديرون عملها، سليطة اللسان وجريئة القلب، ليست مجرمة بالمعنى المفهوم، ولكنها أقرب لمصاصة الدماء. نعرف ذلك من علاقتها بكبير مستخدميها حسبو، الذي أنهكه العشق والخمر، وانحدر في السلم الاجتماعي من موظف كبير لمدير شئون شفعات التي تسيطر عليه رغم أنها لا توليه أي اهتمام. شفعات قاسية القلب، تعرف أن حسبو يعشقها ولكنه لا يصلح لإمتاع روحها وجسدها، هي في حاجة لدماء جديدة، دماء شابة، تعيد لها حيويتها، وتروي شغفها الكبير للذائذ الحياة.

شفعات لا تحنو، شفعات تعطي بيد ما تأخذه باليد الأخرى، شفعات لا يهمها مصالح الآخرين، لا يهمها أن يهمل إمام دراسته، لا يهمها أن ينسحق قلبه الغض، يهمها فقط ما يمكن أن تحصل عليه من جسده العفي، وروحه الشابة، عصارة الحياة التي تنز من مسام إمام تحتاجها شفعات، تريد أن ترتشفها كلها حتى آخر قطرة لتستمتع بالحياة حتى إشعار آخر. شفعات مؤذية لا ترحم، تريد أن يدور الكل في فلكها، حسبو ومستخدموها وحتى إمام، الكل يجب أن يركع تحت قدميها حتى تتركهم يعيشون، يعيشون وفق ما تخططه لهم ووفق ما يناسب هواها هي. رغباتهم لا تهمها، فقط رغباتها وحدها هي الأهم، وهي ما يجب أن يعملوا جميعاً من أجلها.


القاهرة أجمل مدينة

لم تتغير القاهرة كثيراً عبر الزمن، المدينة القاسية السريعة التي تختلف عن المدن والقرى الأخرى. العاصمة التي تعج بالملذات وبالشقاء. هنا في القاهرة أنت تمتلك كل الفرص، فرصة أن تتعلم وأن تعمل، أن تختار بين الوظائف وأماكن الترفيه، بين أنواع المواصلات المختلفة والنزهات الكثيرة، أنت هنا لديك كل شيء.

عالم العاصمة الصاخب البراق المغري بالغرق فيه، كل الفرص موجودة، هناك مشكلة واحدة بسيطة حتى تستطيع أن تحصل على تلك الفرص، هذه المشكلة تتمثل في أن تنسحق أنت تحت وطأة قسوة القاهرة، ظناً منك أنك تحصل على الأفضل، ولن تحصل رغم ذلك سوى على الفتات.

العاصمة التي تبهرك، تعدك بالكثير، بالخيارات المختلفة، وبالطموحات التي لن تؤمنها لك مدينتك الصغيرة أو قريتك النائية، فقط يجب أن تبيع روحك للشيطان حتى تحصل على كل هذا، أن تستسلم لمد الشهوة الذي يسوقك، تعمل وتعمل وتعمل تنفق حياتك وصحتك، تدور في ساقية الشقاء مغمض العينين، مستهلك القوى والروح، حتى يبلى جسدك، يمنحك ذلك لذة الألم، تتغير تماماً في سبيل أن تحصل على تلك النشوات، تنسى كل ما كنته وما حلمت أن تكونه استرضاءا للقاهرة، حتى تدير لك وجهها وتمنحك ابتسامة. القاهرة شهية جداً، لذيذة، وكما يقولون: «مفيش حلاوة من غير نار».

القاهرة تقهرك، تسحقك، تيه كبير يشبه متاهات الأساطير الإغريقية، تمنحك متعة المغامرة، والثقة بالنفس عندما تبتسم لك وتمنحك ربع فرصة، تقارن بينها وبين انعدام الفرص من حيث جئت، وتشعر أن كل ما تجبرك القاهرة على دفعه يعتبر ثمناً بخساً لنجاحك. القاهرة كبيرة وعظيمة وقديمة، عندما تثني عليك تتضخم ذاتك وتشعر بأهميتك، ترتبط بها أكثر فأكثر، تدفع أكثر حتى ترضى عنك أكثر، تنمسخ تماماً في محاولات استرضائها، ولا يعود هناك سبيل للتراجع، متعة التحقق تستحوذ عليك، شعورك أنك بضآلتك استطعت أن تنجو مع هذه المدينة المتمرسة، بل وتجعلها تسعد بك وتحتاجك، أنت ناضج، أنت ناجح، أنت متحقق، أنت مسحور.


بحبك يا بنت الذين

شفعات تشبه القاهرة، بل هي القاهرة، استدرجت إمام وبهرته بجمالها اللاهب. الفاكهة في أوج نضجها قبل فسادها مباشرة تعطي أفضل طعم، ثرية تطعمه أطايب الطعام وتسهل حياته، تمنحه المال والراحة في مقابل استغلال جسده. يجب أن تعتني بهذا الجسد الفتي حتى يبلى، فتنتها تعميه، وهي تجيد استخدام فتنتها. امرأة متمرسة عشقها الرجال وعشقتهم، تملك كل شيء، أهم الأشياء التي تملكها شفعات هو الذكاء، تعرف الثروات الحقيقية التي تحتاجها، وتعرف كيف تحصل عليها.

شفعات مغرية، كما القاهرة تماماً، تعد بالكثير، أكبر وأنضج من الفتاة الرقيقة التي تعزف البيانو. شفعات هي الواقع، هي صخب المدينة الذي يتفوق على همس الحب والهدوء. شفعات لا تشبه حضن القرية ورائحة الأم، بل هي كل الممكن الذي يمكنك أن تجري وراءه، إغراء الأمل والطموح. شفعات قاهرة تتزين وتتجمل حتى لا يمكنك مقاومتها، تعرف كيف تسحبك إليها حتى تميد تحتها تماماً، وينسحق وجودك في وجودها، تمتص رحيق الحياة من جسدك وأنت مسكين لا يمكنك الفرار، فهذه المرأة الشهية التي تعرف كل الفنون معجبة بك أنت، وأنت لا تستطيع مقاومة إغراء أن تمنحك شعوراً بالقوة.

شفعات تشبه القاهرة تماماً، تمنحك شعوراً بالتميز، احتياجها لإمام جعله يدمنها، أعظم شعور في العالم هو أن تشعر أنك مهم، وأنك مرغوب، شفعات تفعل ذلك كما تفعله القاهرة بالضبط، ترى مصير من سبقوك، كل المارين بجوارك هم حسبو ولكنك لا تهتم، تظن نفسك مختلفاً عن الآخرين وبإمكانك التراجع متى أردت. شفعات تشبه القاهرة في جمالها ونذالتها وإغرائها وخستها، وأنت وحيد تماماً، ليس هناك حسبو ليقتل لك شفعات ليعيد لك إمام القديم وينقذك.