كل النساء يظللن ذوات أرواح طاهرة وأجساد عفيفة ما لم تقترب حشرة الفقر من بطونهن غير ذلك؛ فلا حق للمجتمع بأن يصرخ لمن أطلقن لأجسادهن العنان لأجل البقاء أحياء.

نجح نجيب محفوظ في إخراج المرأة عنوة من بروازها الفضي البراق، الذي أحيط حولها على امتداد فرشة فسيحة من الزمن وأفقدها تحت ضغط الجغرافيا والتاريخ شرفها البابلي وتاجها الروماني وزج بها تحت كنف التساهل العذب والذي أشاعته الفوضى العامة إلى مرجل زيت يغلي ليتسنى لها رؤية واقعها المعاش من داخله لحمًا وعظمًا ذيلًا ورأسًا بطنًا وأنفًا، فكانت تحت ظرفها الاجتماعي والسياسي إما تقتات بلحمها أو ساخطة تحاول الفرار بجسدها قبل أن تنهشه الكلاب، فمن خلال هذه الافتتاحية للمقال والتي قد تبدو أنها ميلودرامية المآثر؛ يمكننا أن نستطلع جانبًا خفيًا من مزامير نجيب محفوظ ألا وهي المرأة والتي شكلت عنصرًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه في مسيرته الأدبية. اهتمامًا قد يبدو محفوفًا بالمخاطر ﻷحد تابوهاته التاريخية بجانب الدين والسياسة والجنس ولكنه قد يبدو اهتمام شخصي حركته العاطفة لا الخيال، فنبع من القلب لا من العقل.

يمكنك الاسترشاد لذلك من خلال البحث عن حياة نجيب قبل أن يصبح أديبًا مشهورًا أو بالأحرى قبل أن يعهد السلام البيتي بزواجه من السيدة «عطية الله».

يفيض أديب نوبل في هذيان بوح بلا حياء مجيبًا على هذا السؤال للناقد رجاء النقاش والمدون في كتاب «مذكرات من حياة نجيب محفوظ» قائلًا: كنت أشبه بحيوان جنسي ارتدت دار البغاء الرسمي والسري وعكفت على مصادقة البغايا ومرافقتهن حيث كانت نظرتي للمرأة جنسية بحتة ولم أكن أتوقع أنها ستعتدل في يوم من الأيام.

يبدو أن رؤية نجيب محفوظ للمرأة لم تتغير حتى سن الرابعة والعشرين وهي الفترة التي عهد فيها المجتمع محفوظ صحفيًا لا أديبًا، فكتب في مجلة «السياسة» ذات مرة مقالا حمل عنوان «العمل في الوظائف الحكومية للمرأة» طالب فيها بأحقية المراة في الحصول على تعليم جامعي قيد عكوفها عن العمل وأن تمكث في بيتها بعد ذلك حيث قال نصًا «للمرأة نصيب من المقومات الاجتماعية ذات الضرورة الأساسية كالتعليم الذي يليق بامرأة تُخرج أبناء سُددة لمجتمعنا الزاهر ولكن شريطة تفرغها الكلي لمثل تلك المهمة الشاقة فعملها في الوظائف الحكومية يحيل دون ذلك».

ولكن ثمة سؤالًا يحمل زاوية أخلاقية يجب طرحه في ميدان النقاش ألا وهو: هل من الممكن أن يتسنى لنا النفاذ من خلال تجربة محفوظ الشخصي مع فتيات الليل لإجابة مفصلية تفسر لماذا أغلب نساء رواياته إما «فتيات ليل» كإحسان شحاتة في «القاهرة 30» وريري في «السمان والخريف» ونفيسة في «بداية ونهاية» وسناء في «ثرثرة فوق النيل» أو ساخطات ومتمردات على واقعهن المعاش كحميدة في «زقاق المدق» وزهرة في «ميرامار».

أم ستكون نافذة ضيقة لطرح يفتقد أدنى مسببات الدلالة إزاء موضوع كهذا.

تطل علينا الدكتورة فوزية العشماوي لتجيب على هذا السؤال في كتابها «المرأة في أدب نجيب محفوظ» قائلة إن اهتمام نجيب محفوظ بالمرأة العاملة بالجنس وإعطاءها دورًا محوريًا في تعاظم الأحداث وحدتها حتى وصل إلى أن أسند إليها كشف خبايا البطل وإظهار الجوانب المظلمة بداخله وإزالة الوشاح عن عقده النفسية ومعالجة صدماته الاجتماعية كنُور في «اللص والكلاب» وريري في «السمان والخريف»، ربما يأتي من تجربة شخصية للكاتب الذي لامس واقع هؤلاء الفئة من النساء واحتك بهن حتى أجاد وصف تشريحهن البيولوجي في صورة السردية بمنتهى الدقة وهذا لا يتاح إلا لمجرب.

مجرد إسقاط أم خطاب نسوي؟

يُعرف بأنه «Feminist Literature»، النوع الإبداعي الذي يطرح قضية من قضايا المراة والدفاع عنها دون شريطة أن يكون الكاتب امرأة بالضرورة. فيعرفه بذلك البعض على أنه «الأدب المرتبط بحركة نصرة المرأة وحرية المرأة وبصراع المرأة الطويل التاريخي للمساواة بالرجل»، بينما تعرفه النسوية الألمانية وأستاذة علم الاجتماع مارتينا لوف بأنه «النص الإبداعي الذي يناقش قضية محورية من قضايا المرأة كالتسليع الجنسي والقمع المجتمعي والسياسي بحقها والفجوة الطبقية بينها وبين الرجل، الذي سيؤدي بالضرورة إلى انحرافها أخلاقيًا».

إذا ما حاولنا الإمساك بمتلمسات الخيط الرفيع، الذي أمدتنا به أستاذة الاجتماع وشددناه على مساحة من الواقع؛ سنجد أن أغلب نساء الأدب المحفوظي هن سيدات عاديات ومهمشات عشن ظرفًا سياسيًا أو اقتصاديًا تسبب في انحرافهن المجتمعي و الأخلاقي، فبينما كانت إحسان الفتاة الطموحة في «القاهرة الجديدة» محشورة في وضعية حب عفيف من الثوري الاشتراكي علي طه وبين إغراء وسطها الأسري الرخيص وغير النظيف؛ إذ إن أمها «عاهرة» تزوجت من «قواد»، فما كان لها غير أن تبيع جسدها بإلحاح من أهلها وتصبح عشيقة أحد رجال السراي لتصعد بهم أعلى درجات السلم الاجتماعي. كانت نفيسة في «بداية ونهاية» تعرض نفسها داخل دكان بقالة مقايضة جسدها العظيم ببعض السلع التموينية قيد النفاذ، وفي الوقت الذي اضطرت فيه «نور» للعمل بالجنس لإطعام أهلها في إحدى قرى الدلتا ولجوئها إلى القاهرة في «اللص والكلاب»، كانت ريري تخبر عيسى الدباغ في ترنيمة بوح خالية من الدنس عن أسباب عملها بالجنس مدفوع الأجر بعد أن أوقع بها أحد النزلاء وفض بكارتها دون شهود بعد قسم مطول بالزواج منها وكأنه كان قسمًا في سماء بلا نجوم توارى فاعلها في كتل الضباب وبقت هي لازمته مرصودة للنسيان بوصم مجتمعي رخيص «مومس فاضلة»؛ حدث ذلك في «السمان والخريف».

الأمر الذي يدعو للتفكير في هل تشابه الظروف الاجتماعية والنفسية والبيئية لنساء نجيب محفوظ والتي ساعدت على انحرافهن الاجتماعي والجنسي هو خطاب لتسليط الضوء على معاناة المرأة المصرية في ظل التفككية الاجتماعية والأخلاقية والتي لا تتيح حتى تأمين أبسط حقوقهن من قوت يومهن فيضطررن استجابة لصراخ الأمعاء للعمل بالجنس للحصول على ذلك أم مجرد إسقاط إبداعي على أزمنة وأنظمة بل وشخوص بعينها بخاصة أن «القاهرة الجديدة» تحكي عن المجتمع المصري فترة مطلع الثلاثينيات وبداية الأربعينات و«بداية ونهاية» ترصد التغيرات الاجتماعية والسياسية بالقاهرة فترة الأربعينيات ونهاية الخمسينات أما «السمان والخريف» فتؤرخ بتوثيق لحظي فترة سقوط الملكية وإمساك الجيش بمقاليد الحكم.

يجيبنا سامي كمال الدين في كتابه «نساء نجيب محفوظ» قائلًا إن أديب وبحكم ميله الشديد إلى سيمة الرمز و الإسقاط، التي تبدو وضحة في أغلب كتاباته فقد وجد في بعض النساء اللواتي استخدمهن في حبكته الروائية كاسقاط جيد على حِقب سياسية وفترات اجتماعية وزمنية تاركًا الأمر كله بيد القارئ للتأويل وإعطاء المدلول على ما المقصود بـ«إحسان» و«نفيسة» و«ريري»، هل هن مصر التي ترزخ تحت حكم المحتل الإنجليزي أو حاشية الملك الفاسدة أو سطو النخبة في المجتمع المصري في تلك الفترة.

أمينة شوكولاتة بنكهة الاستعباد

جبان من يستلذ بالنظر في عين امرأة هو قاهرها.

من بين كل نساء محفوظ تظل أمينة هي الأضعف والأكثر خضوعًا لمسلمات حيزها المعاش، تبدأ الثلاثية بامرأة تنتظر ليلًا مطلة من شباك خشبي بأعين يملؤها القلق والرغبة عودة زوجها المتجبر من ملهاه وتنتهي كذلك.

امرأة أربعينية حانية ذات وجه أمومي يفيض عطفًا وذلًا في نفس الوقت، تفتقد أدنى مقومات الجراءة وبالتالي افتقدت طرديًا زمام المبادرة، طبعت على مطأطأة رأسها أمام زوجها منذ تجرأ ذلك على فض بكارتها شرعيًا دون حتى أن ينظر في عينيها. ارتضت على نفسها أن تعيش كأفعى ملساء بجانب تنين كبير تستيقظ حتى قبل أن تعرف الديوك أين وجهتها لتصدح هذا الصباح فتأخذ البيت بطوابقه الثلاثة كنسًا ثم تتجه لملء أباريق المياه ثم تلوج ناحية اليسار لإيقاظ بناتها الأربع لتحضير وجبة الإفطار قبل ان يستيقظ بعلها، وبعد أن تطمئن على خروجه آمنًا من عتبة المنزل مطلة بأعين يملؤها الرعب والهلع من أن ينظرها وهي مطلة. تأخذ البيت جرًا بطرادة زعف ثم تجلس بجوار نافذتها الوحيدة على العالم لا لكي تراه وإنما لكي ترى ما يمثله وهو زوجها الذي يطعمها ويأويها دون أن يبادر خلدها ولو مرة واحدة، مرة في عتاب مطهر بمصفاة الزمن أن ما أعطته وما تعطيه له كل يوم يستحق أكثر من ذلك. أو ليس هو الذي أنهكها جنسيًا وأفرغها بيولوجيًا وأحالها إلى خرقة بالية في مطبخ حولته العريض، وكركوز سخيف في متجر نزواته التليد ثم بعد أن استنفدها ومر من فوقها كبرص آسيوي ذهب ليفرغ ما تبقى من نير فحولته في أرحام أخريات. تقول هي ذات مرة عندما أسكنها أمها على إثر مخالفتها للقانون الجوادي وخروجها من البيت لإيقاف سقاء لم يسمع صراخ النداء الذي كانت تصدره من الشرفة فاضطرت للنزول لإيقافه «المرأة من دون زوجها حتى ولو كان فاجرًا لا تساوي شيئًا في أعين الناس» بهذه الكلمات يمكننا أن نعرف لماذا حرص نجيب محفوظ أن تكون أمينة هي الحلقة الأضعف في سلسلة نسائه الكُثر.

نور على الطريق

يخرج سعيد مهران من السجن حاملًا على ظهره وصمة مجتمعية وهو كونه مجرمًا بالتبعية. كان يود العيش بسلام وأن ينسى كل تلك السنون التي فارقته وهو خلف أسوار السجن وكأنه يتفاجأ أن القناعات قد تبدلت والعوالم التي عهدها قد تغيرت، خانته زوجته مع صديقه وتنكرت ابنته له لأنها لا تعرفه، حينها تبدأ مشكلة «سعيد مهران» العاطفية فما كان لغير نجيب محفوظ أن يرخي الستار ويلين الحبال لتظهر في محور الأحداث «نور» فتاة الليل التي احتوته واحتضنته وسلمت نفسها له لأول مرة عن حب «لم أعهد مثل تلك ليلة من قبل» تقول هي؛ فيرد الطريد «فعل الحب» تتحرر «نور» في «اللص والكلاب» من دونيتها كعاهرة لتتقمص دور المرشد النفسي تبحث في جانب سعيد مهران المظلم محاولة إزالة كل هذا العفن من قلبه عن طريق تفتيت عقده النفسية وتلابيس الغيظ بداخله «انس كل ذلك» تخاطبه محاولة إزالة المرارة العالقة في حلقه بقبلة من شفتيها الدسمتين فيرد «الويل للجبناء». تفشل الباغية بكل ما فاضت به من حب وجسد ووقت من أن تثنيه عن عزمه فيموت الموتى وتبقى نور بكل ما حملته من وصم اجتماعي كونها «عاهرة» هي الألمع بريقًا ممن عرفهن سعيد مهران، ليخبرك نجيب محفوظ أن بطله عندما خانه الشرفاء أنصفه غير الشرفاء؛ أنصفته «نور» بائعة الهوى عندما اتخذ من قلبها مأوى، خانته زوجته ووفت له البغي، طعنه صاحبه فضمم له جراحه بائع الحشيش، رفضه الدين فاحتضنته الخمارة.

نفس الإشكالية يمكن طرحها في رواية «الطريق» حيث صابر الرحيمي الذي اكشفته أمه وقد كانت بغي قبل موتها بأن له أبًا ثريًا سيوفر له رغد العيش إن عثر عليه. يغادر صابر أصدقاءه ويصفي تجارته بحثًا عن «سعيد الرحيمي» محملًا بالكثير من الأمل الذي لم يعهده من قبل، وموت أمه التي عاش معها طوال حياته وبين تضارب العاطفة وتأرجح اليقين والذي سيؤدي إلى الإنفجار الحدثي لا محالة. يترك نجيب محفوظ الباب أمام «كريمة» لتدخل إلى عالم صابر لتنتشله من مستنقع التيه القميء الذي غُرس فيه حتى كتفيه، سلمته عن غريزة لا عن حب ولدغته بين عينيه كأفعى محاولة رمد نار أفكاره بسمها ولكنه كان سمًا لذيذًا المذاق لا يميت الأفكار أبدًا.

التمرد اللذيذ

تتكشف أمامنا مشكلة «حميدة» منذ اللحظة الأولى فهي ترفض واقعها المعاش الرتيب وتسخط على محيطها الجغرافي الضيق وتتنكر لعرفها المجتمعي شديد المتانة وتدوس بقدميها الخاليتين من الحُلي على عادات الحارة وتقاليدها، ترغب بمغادرتها إلى الأبد لترتقي السلم الاجتماعي الذي يستحقها ولكنها لا تمتلك أي امتياز شخصي يتيح لها ذلك؛ فهي فقيرة وجاهلة ولم تحظَ ولو بقدر ضئيل من التعليم الدراسي يتيح لها المناورة في نادي السادة الذي ترغب في الانضمام إليه. تنظر إلى جسدها أما المرآة تزن ثدييها بعينيها، تقيس عرض فخذيها بيديها، تحصي عدد الشعيرات في حاجبيها لتزيل فيهم ما تجده يعيق تقدمها. ها هي الآن فتشت بداخلها وعثرت على امتياز يتيم يتيح لها المقايضة «جسدها» تعي جيدًا «حميدتنا» ما هي قادمة عليه. فبرغم جهلها الدراسي تمتاز بذكاء اجتماعي حاد مكنها من الحفاظ على بكارتها في حارة تريد نهشها نهشا. فهي ليست كـ«نفيسة» أو «ريري» واللتان رَيْن في جسديهما أداة لسد كفاف عيشهما فباعاه دون شهود وإنما هي ترى في لحمها وعظمها ممر للعبور من قناة سويسها المالحة ولكن في النهاية تستسلم لوقائع الأزمنة فتبيع جسدها العظيم في سوق اللحم العفن. نجحت في الخروج من الحارة ولكن رجعت إليها وقد كانت ميتة؛ حدث ذلك في «زقاق المدق».

شخصية أخرى من نساء نجيب محفوظ «المتمردات» لا «فتيات الليل» يظهر في «زهرة» وبحسب قوله هو للدكتورة فوزية العشماوي فإن شخصية زهرة في رواية «ميرامار» هي أحب الشخصيات إلى قلبه. إعجاب أديب نوبل بتلك الشخصية ربما ينطوي على أنها على المرأة الوحيدة وسط جميع نسائه التي نجحت في المرور من ضغط الأزمنة والتاريخ دون أن تبيع جسدها أو تدنس شرفها. كانت مكابرة عنيدة برغم من مظهرها القروي الأبله وامتلكت دوما زمام المبادرة على الرغم من جهلها بثقافة المدينة، هربت من قريتها بعد أن أراد أهلها تزويجها من مُسن عجوز، وحيدة كيهودي تائهة قاتلت مشارب سياسية واجتماعية مختلفة، شباب مندفعون وعواجيز خرفون ومتملقون دناؤون، وفي حمى الغليان المتصاعد جراء الأحداث تنجو زهرتنا من الفخاخ وطواحين الهواء لتكون أحب الشخصيات لدى نجيب محفوظ ولدينا أيضًا، من يمقت امرأة نجحت بالفرار بسلام!