الأستاذ عبد السلام ياسين – رحمه الله- قائد ومرشد ومؤسس، ويكفينا أن نقول أنه عالم والعلماء ورثة الأنبياء، فالرجل كان قدوة في زهده وصموده وشجاعته وتجرده إلى الله.
د. أحمد الريسوني

رحلة الحياة وميراثها

في مراكش، وفي بيت عريقٍ ينتسب إلى أشراف الأدارسة من منطقة سوس جنوب المغرب، ولد «عبد السلام بن محمد بن عبد السلام بن عبد الله بن إبراهيم»، في 17 سبتمبر / أيلول عام 1928م، الموافق 4 ربيع الثاني 1347هـ. في صباه التحق بمدرسة أسّسها الشيخ المجاهد «محمد المختار السوسي» في مراكش وتعلّم القرآن والعربية، ثم التحق بمعهد ابن يوسف التابع لجامعة القرويين، الذي كان يدرس به كبار علماء المغرب، ولنبوغه نقلته لجنة الامتحانات بالمعهد إلى المرحلة الثانوية تحت السن بثلاث سنوات.

اعتقل عبد السلام ياسين فور كتابته رسالته إلى الملك الحسن الثاني «الإسلام أو الطوفان»، ليخرج بعدها بأربع سنوات، ويحاول ممارسة الدعوة

في عام 1947م، تخرج من مدرسة تكوين المعلمين في الرباط، وعمل بسلك التعليم، وتوفي والده في نفس العام، وفي 1956م، عاد وتسلّم وظيفته في السلك التعليمي بعد الاستقلال مباشرة. في 1965م، التحق بالزاوية البودشيشية، وأخذ التصوف عن شيخها الحاج العباس بن المختار. وتم توقيفه عن العمل بدون قرار إداري في 1968م. واعتقل في 1974م، فور كتابته رسالته إلى الملك الحسن الثاني «الإسلام أو الطوفان»، ليخرج بعدها بأربع سنوات، ويحاول ممارسة الدعوة ولكنه قوبل بالتضييق الأمني. وبدأ نشاطه الدعوي التنظيمي في 1981م، فأسس «أسرة الجماعة» وأصدر مجلة بنفس الاسم، ثم أصدر صحيفة «الصبح» في 1983م، واعتقل عقب إصداره العدد الأول منها. في 1987م، أحيل إلى التقاعد، وأعلن تغيير اسم «الجماعة» إلى «جماعة العدل والإحسان»، وبعدها بعامين، وضع تحت الإقامة الجبرية في بيته بمدينة سلا، ولم ترفع عنه إلا في عام 2000م. وتوفي في 13 ديسمبر / كانون الأول 2012م، الموافق 28 محرم 1434هـ، عن عمر 84 عامًا، ودفن بمقبرة الشهداء بالرباط.

ألّف الأستاذ عبد السلام ما يزيد على الأربعين كتابًا ورسالة، باللغة العربية وغيرها، نذكر من بينها: مذكرات في التربية (1963م)، النصوص التربوية (1963م)، الإسلام بين الدعوة والدولة (1972م)، الإسلام غدًا (1973م)، الإسلام أو الطوفان: رسالة مفتوحة إلى الملك الحسن الثاني (1974م)، حوار مع النخبة المغرَّبة (مترجم 1980م)، المنهاج النبوي تربية وتنظيمًا وزحفًا (1982م)، الإسلام والقومية العلمانية (1989م)، نظرات في الفقه والتاريخ (1990م)، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين (1994م)، في الاقتصاد.. البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية (1995م)، سلسلة «رسائل الإحسان» («رسالة تذكير» 1995م، «رسالة إلى الطالب والطالبة، إلى كل مسلم ومسلمة» 1995م، «المنظومة الوعظية» 1996م)، تنوير المؤمنات (في جزأين 1996م)، الشورى والديمقراطية (1996م)، حوار الماضي والمستقبل (1997م)، حوار مع صديق أمازيغي (1997م)، سلسلة «دروس المنهاج النبوي»، («كيف نجدد إيماننا، كيف ننصح لله ورسوله» 1998م، «الفطرة وعلاج القلوب» 1998م، سلامة القلوب 1999م، اقتحام العقبة 1999م)، مذكرة إلى من يهمه الأمر: رسالة نصيحة بالفرنسية إلى الملك محمد السادس (1999م)، الإحسان (في جزأين 1999م)، الإسلام والحداثة (2000م)، العدل: الإسلاميون والحكم (2000م)، قطوف (ديوان شعر طبع منه ثلاثة أجزاء 2000م)، إمامة الأمة (2009م)، القرآن والنبوة (2010م)، وأخيرًا، جماعة المسلمين ورابطتها (2011م).


نظرية «العدل والإحسان» الياسينية

وضع عبد السلام ياسين أساسًا نظريًا ينطلق من مصادر محددة للمعرفة (القرآن، الكون الآفاقي والأنفُسي، الرسالة، الوجدان)، ومن ثم تصورًا عمليًا يتجسد دعويًا وتربويًا وتنظيميًا. هذا الأساس النظري ينهض على اعتبار الوحي (القرآن الكريم والسنة الصحيحة) مصدرًا للمعرفة والإيمان، ومرتقى عاليًا للإعجاز الحضاري والمعرفي، وجعل شعار هذه النظرية: (العدل والإحسان). وذلك على أساس «أن المسلمين بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط»، كما نص في كتابه «المنهاج النبوي». وهذا «المنهاج النبوي يبدأ أيضًا بالانقطاع عن موارد الجاهلية فيما يرجع للعقيدة والخلق والذاتية ومنهاج العلم والعمل. ليكون الوحي مصدر فكرنا، وتكليف الله سبحانه وتعالى حافزنا للعمل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رائدنا»، كما ذكر في «مقدمات لمستقبل الإسلام».

ويأتي التصور العملي «الدعوي» عنده متمثلاً في: إقامة دولة القرآن، وإعادة الخلافة على منهاج النبوّة. يقول في كتابه «إمامة الأمة»: «في طريقنا إلى دولة القرآن، وفي خطوات دولة القرآن نحو مجد الإسلام، لا دليل لنا في المهمات، وفي تحديد الأهداف والغاية، إلا كتاب الله عز وجل كما طبقته سنة رسوله – عليه من الله الصلاة والسلام-».

يتلوه تصوره العملي التربوي والتنظيمي للعمل الإسلامي، الذي حاول أن يجعله متكاملًا، يرتكز على فكرة التنظيم بهياكله، ومؤسساته، ونواظمه (الحب في الله، والتناصح والتشاور في الله، والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر).. وهو ما قام بتطبيقه (في إنشائه «الجماعة»، ثم «جماعة العدل والإحسان») وأعطى لمشروعه طابعًا عمليًا حركيًا متواصلًا، بدأ خطته في كتابه «المنهاج النبوي»، وأتبعه فيما بعد بتوضيحات منهجية تؤسس للموقف من النزعة القومية واللائكية – العلمانية- التي يعتبرها «اللائكية دين، اللائكية شريعة، اللائكية ملة المجتمع المدني»، والحداثة والعقلانية والديمقراطية، والاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي.. يقول في كتابه «في الاقتصاد»: «إن أصلنا كتاب الله، وإن عمارة الأرض واجب فرضه الله على الأمة المستخلفة في الأرض. فالباعث الإسلامي على النشاط الاقتصادي باعث ديني، من صميم الدين. والقوانين التي توجه هذا النشاط شرع منزل». ، وترسخ دور المرأة المسلمة في حركة التغيير والبناء، وتنظِّر للحكم الإسلامي وما ينتظر الإسلاميين من عقبات وسُبل مواجهتها، وتبني الطريق إلى «الإحسان» من خلال التحليل العميق للتصوف والتأكيد على محورية الأساس التربوي للعمل الإسلامي.


إلحاح الحوار العملي

وباء هذه الأمة وباءٌ في الرأس لا يصلح معه صلاح الأمة إلا بصلاح الرأس، وهو الملِك.
عبد السلام ياسين – رسالة إلى من يهمه الأمر

يرى عبد السلام ياسين أن مرحلة «الانكسار التاريخي» التي تلت مرحلة الخلافة الراشدة، ويعتبرها «رجَّة عظيمة مزقت كيان الأمة المعنوي فبقي المسلمون يعانون من النزيف في الفكر والعواطف منذئذ، ويؤدون إتاوات باهظة لما ضعُف من وحدتهم وتمزق من شملهم وتجزأ من علومهم وأقطارهم»… تلك المرحلة بامتدادها أفرزت حالة «الاستبداد» في الحُكم، التي ظلت سارية حتى عصرنا الحاضر، ويعتبرها ياسين العلة الأساسية لأي تأخر. وانطلاقًا من إدراك الفارق بين الواقع والمأمول، بطريقة تجعل الواقع خاضعا لعقل موازن يقبل بأهون الشرَّيْن وأخف المفسدتين فيه، لدفع المفسدة العظمى المتمثلة في الاستبداد… اعتمد حوارًا عمليًا على عدة مستويات، بطريقة تبدو – عند تتبعها- مُلحة، نذكر منها:

الحوار مع رأس السلطة:

كما في رسالته المفتوحة «الإسلام أو الطوفان»، الموجهة إلى الملك الحسن الثاني (1974م)، أن «وباء هذه الأمة وباء في الرأس لا يصلح معه صلاح الأمة إلا بصلاح الرأس وهو الملك».. والدعوة لتصحيح العلاقة بين الحاكم والمجتمع بإحلال المبايعة الخيارية محل البيعة الإجبارية الاستبدادية، كما في «مذكرة إلى من يهمه الأمر: رسالة نصيحة بالفرنسية إلى الملك محمد السادس» (1999م).

الحوار مع الفرقاء السياسيين:

كما في دعوته إلى «ميثاق جماعة المسلمين» في كتابه «العدل: الإسلاميون والحكم» (2000م)، حيث قام تنظير هذا الميثاق على مبادئ: العقلانية المنطلقة من الوحي، والاجتهاد المنضبط بسيادة الشريعة، والديمقراطية اللائكية، والمجتمع المدني باعتباره أخف الضررين.

الحوار مع الخصوم الأيديولوجيين:

كما في محاورته للأيديولوجية القومية في كتابه «حوار مع صديق أمازيغي» (1997م)، ومحاورته مع الأيديولوجية الديمقراطية والعقلانية والرأسمالية والاشتراكية.. في «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين» (1994م)، و«حوار الماضي والمستقبل» (1997م)، و «في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية» (1995م)، و«حوار مع النخبة المغرَّبة» (1980م).


جماعة «العدل والإحسان» والجانب الآخر من الصورة

وضع عبد السلام ياسين أساسًا نظريًا ينطلق من مصادر محددة للمعرفة، ومن ثم تصورًا عمليًا يتجسد دعويًا وتربويًا وتنظيميًا.

في سبتمبر / أيلول 1987م، دُشن لأول مرة اسم «جماعة العدل والإحسان»، التي اتخذت لنفسها مسارا مختلفا عن باقي الحركات الإسلامية الأخرى انطلاقًا من غلبة التوجه الصوفي عليها وتبنيها خطا سياسيا معارضا رافضا للعنف. المرشد الأول للجماعة هو الأستاذ «عبد السلام ياسين»، الذي حددت إقامته جبريًا بعد هذا التدشين بعامين.

انتُقدت الجماعة بالتضخم السياسي التصوري والمنهجي، والتأثر بالتراث الماركسي اللينيني، إلى جانب بروز النزعة النرجسية في القيادات والشعارات

تصف الجماعة نفسها: «نحن حركة مجتمعية مهمتنا الدعوة إلى الله عز وجل، والدلالة على الله عز وجل»، وتصف خطها السياسي بوضوح بأنه ليس معارضة من أجل المعارضة، وليس معارضة منحصرة في تدبير المعاش، بل «نعصي الحكام لأنهم خرجوا عن الإسلام وخربوا الدين وارتضوا أنصاف الحلول وباعوا الأمة لأعدائها»، ولا تدعو الجماعة إلى عنف أبدا «لاقتناعنا أن ما بني على عنف لا يجنى منه خير، ولأننا أمرنا بالرفق والرحمة وحقن الدماء في زمن الفتنة». واستهدف مشروعها السياسي إقامة دولة الخلافة، دون الاعتراف بشرعية «إمارة المؤمنين في المغرب»، وهو ما جعلها غير معترف بها قانونيًا.

وهكذا، انضمت «جماعة العدل والإحسان» إلى مكونات طيف الحركة الإسلامية في المغرب، وتعرضت تجربتها للنقد الذي يستتبع أية تجربة بشرية يشوبها النقص والتخبط بطبيعة الحال، ومن ذلك ما وجهه لها الدكتور فريد الأنصاري في كتابه «الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب» بقوله: «لقد كانت أخطاؤها الجسيمة التي وصلت إلى حد الانحراف التصوري والسلوكي، والخروج عن المنهج الإسلامي ببعض المواطِن… سببًا رئيسًا في دخولها مرحلة من العد العكسي، وبرزخًا من التراجع المنهجي! لقد تضخمت الأولويات السياسية – على المستوى التصوري- في جماعة «العدل والإحسان»، واستبدت بها أحلام «الخلافة» إلى درجة التخريف والهذيان!».

وامتد نقد الأنصاري ليطال المؤسس «عبد السلام ياسين» وأفكاره الشخصية، باعتبار أن أيديولوجيته تعاني من عقدة النظام السياسي، والتضخم السياسي التصوري والمنهجي، والتأثر بالتراث الماركسي اللينيني خصوصًا في ممارسات العمل النقابي، إلى جانب بروز النزعة الشخصانية – النرجسية- في القيادات والشعارات، على حساب المنزع الصوفي في التربية والسلوك حسبما تقدم الجماعة نفسها، وهو ما أنتج – على إثره- موجة ارتدادية عنيفة من الفجور السياسي، والانحلال الخلقي، خصوصًا في الجامعات. وهذه النزعة النرجسية نفسها لدى ياسين، بحسب الأنصاري، هي ما أفشل مشروع الوحدة بين الحركات الإسلامية في السبعينات.

يرافق هذا، نقدٌ وجهه د. عبد السلام طويل، في ورقته المرفقة بمصادر المقال، حول تأثر عبد السلام ياسين بأفكار سيد قطب والمودودي حول الجاهلية والحاكمية والاستعلاء الخطابي والتوظيف الأيديولوجي لمفاهيم تمت إزاحتها عن دلالتها الأصلية كالتوبة والمواطنة وغيرها، وهو ما لم يكن يناسب بالضرورة وسطًا سياسيًا مجتمعيًا ذا خصوصية متفردة مثل المغرب.

في الأخير، مع اندلاع تظاهرات وثورات الربيع العربي منذ مطلع 2011م، دعت الجماعة أنصارها للتظاهر للمطالبة بالإصلاح والتغيير من خلال حركة 20 فبراير/ شباط، إلا أن اختلافات جرت مع المكونات السياسية للحركة جعل الجماعة تنسحب في ديسمبر/كانون الأول 2011م، لتعيد بناء هياكلها وتوسيع عضويتها المجتمعية حتى أصبحت قوة كبيرة تجمع بين قوة الخطاب والتنظيم إلى حد يلامس الثورية من ناحية، والمرونة النسبية التي سمحت للنظام بالتساهل النسبي معها من ناحية أخرى. وعادت الجماعة لتوصِّف نظامها السياسي المنشود بـ: «ندعو إلى إقامة نظام سياسي على قاعدة الإسلام، تشكل الشورى والعدل ركيزتيه، والإحسان روحه، والمشاركة العامة والتعددية السياسية وسلطة المؤسسات وسيادة القانون الضامن لاستمراره وحيويته، والحوار والاحتكام إلى الشعب وسيلة ترجيح الخيارات فيه».

المراجع
  1. موسوعة علماء ومفكرون معاصرون، المركز العربي للدراسات الإنسانية، تحت الطبع
  2. الأستاذ عبد السلام ياسين والمصدر الأساس في نظرية المنهاج النبوي، د. حامد أشرف همداني، جامعة بنجاب، لاهور، بدون تاريخ
  3. إشكالية العلمانية في الفكر الإسلامي المعاصر.. عبد السلام ياسين نموذجًا، د. عبد السلام طويل، الإسكندرية، مصر: مكتبة الإسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية، 2013م.
  4. قراءة تقويمية في أهم أفكار الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، مقالة بحثية، أحمد بوعشرين الأنصاري، مركز نماء للبحوث والدراسات، 2014م.
  5. الأخطاء الستّة للحركة الإسلامية بالمغرب، د. فريد الأنصاري، منشورات رسالة القرآن، مكناس، 2007م.
  6. الإسلاميون كقوة صاعدة: إشكالات الاعتراف والتعايش، محمد جميل بن منصور، ندوة "المغرب العربي والتحولات الإقليمية الراهنة"، مركز الجزيرة للدراسات، 2013م.
  7. الموقع الرسمي للإمام عبد السلام ياسين www.yassine.net
  8. نظرات في الفقه والتاريخ، عبد السلام ياسين، دار الخطابي للطباعة و النشر، الطبعة الأولى، يونيو 1989، ص 27-28
  9. المنهاج النبوي تربية وتنظيمًا وزحفًا، عبد السلام ياسين، الطبعة الأولى 1981.
  10. حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994 م، ص80-81.
  11. رسالة "الإسلام أو الطوفان" (رسالة مفتوحة إلى الملك الحسن الثاني)، 1974م.