ينحدر من مدنية «لنينجراد»، سان بطرسبرج حاليًا، نفس مسقط رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وُلد عام 1961 وتخرج عام 1977. بعد 4 سنواتٍ من التخرج تم القبض على «يفغيني بريغوجين» بتهم السرقة والاحتيال وتسهيل دعارة القاصرات، وحُكم عليه بالسجن 12 عامًا. قضى 9 سنوات في السجن ثم أُطلق سراحه. خرج من السجن تائبًا عن السرقة عازمًا على العمل الشريف، ثم قاده العمل الشريف إلى احتراف القتل. بدأ بائعًا متجولًا لبيع سندوتشات «هوت دوج»، أو النقانق. توسَّع المشروع ليصبح مطعمًا راقيًا ثم مطعمًا عائمًا على سفينة فاخرة.

في 2001 اتخذت حياته المنعطف الأغرب والأهم، إذ توقف زائران مهمان لتناول الطعام في سفينة. فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، و«يوشيرو موري» رئيس الوزراء الياباني آنذاك. في العام نفسه زاره بوتين مرةً أخرى برفقة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. بعد تلك الزيارة نال بريغوجين امتياز توصيل الطعام إلى حفلات الكرملين الرسمية. وفي 2003 نال ترقيةً بتقديم الطعام في عيد ميلاد بوتين الذي أقيم على متن سفينة بريغوجين فصار من فوره «طبَّاخ بوتين». بعد هذا اللقب تمكن من الحصول على عقود توريد الأطعمة للمدارس الروسية ثم الجيش بالكامل. فأصبحت السفينة يختًا فاخرًا، وصار يتجول بالهليكوبتر بدلًا من السيارة، وسكن قصرًا شاهقًا في بطرسبرج بدلًا من منزله القديم.

قصةٌ تبدو مثاليةً أكثر من اللازم، رجل فقير خدمته الصدفة ليصير من أثرياء بلده. لكن القصة الواقعية لها بعد آخر خفي، طباخ بوتين هو مهندس للعديد من عمليات بوتين العسكرية. يلجأ إليه بوتين في تنفيذ المهام التي لا ينبغي ذكرها في السجلات الرسمية للجيش الروسي. كما أنه ينفذ المهام التي لا يمكن تنفيذها بالقوة العسكرية، مثل التأثير على أصوات الناخبين.


الأخ الأكبر

دراسات استقصائية عدة، روسية وأمريكية، تتحدث عن ارتباط بريغوجين بأكثر من 12 موقعًا إخباريًا. بما في ذلك «وكالة بحوث الإنترنت» التي اتهمها روبرت مولر بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح الرئيس الحالي دونالد ترامب. مولر وجه الاتهام صراحةً إلى 12 عضوًا من أعضاء تلك الوكالة، وعلى رأسهم بريغوجين. إذ يقول مولر بأن الوكالة عُنيت بإنشاء آلاف من الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي لزرع الشقاق بين الناخبين الأمريكيين وترجيح كفة ترامب.

وكالة بحوث الإنترنت كانت تابعة في البداية لـ «وكالة الأنباء الفيدرالية» التابعة هى الأخرى لبريغوجين. لكن انفصلا وانتقل مقر وكالة بحوث الإنترنت إلى شمال بطرسبرغ. أما الوكالة الفيدرالية فبقيت مسيطرةً على 15 موقعًا إخباريًا خاصًا ينجحون في استقطاب 30 مليون زائر شهريًا، متفوقةً على كل الوكالات الرسمية الأخرى في عدد الزوار ونسبة التأثير. كما أنها تمنح موظفيها رواتب أعلى من أي مؤسسة إعلامية حكومية معارضة أو مؤيدة. وتُقدر ميزانية تلك الإمبراطورية بـ 5 ملايين دولار سنويًا.

هذه الإمبراطورية الإعلامية منهجها شديد الوضوح والبساطة، ما يقوله بوتين صحيح، وما يفعله هو الصواب. تنشر تلك الوكالات يوميًا أنباءً ومقالاتٍ عن تحسن الأوضاع المعيشية للمواطن الروسي، وانتقادات واسعة للعالم الغربي، بجانب التركيز على نشاطات وإنجازات الرئيس الروسي. وما يمنح وكالات بريغوجين اهتمامًا عالميًا أنها تنقل تقارير حصرية من كل الجبهات التي تقاتل فيها روسيا، مثل أوكرانيا وسوريا.

اقرأ أيضًا: آسيا الوسطى: عندما تتفوق روسيا على التتار


القوات الخاصة

قدرة بريغوجين، صاحب الـ 57 عامًا، وقنواته الإعلامية على الحصول على التقارير السريعة والدقيقة عن جبهات القتال الروسي أثارت الشكوك حوله. هذه الشكوك انتهت إلى الربط بين بريغوجين و قوات «فاغنر» شبه العسكرية. فاغنر تتألف من مئات، أو آلاف، من المرتزقة الروس يكوِّنون وكالةً عسكريةً خاصة. تلك القوات ظهرت إبان الثورة السورية في القتال لصالح النظام السوري. وشاركت عام 2015 في أوكرانيا للقتال بجانب الميليشيات الانفصالية، وتنفيذ العديد من العمليات الروسية في العمق الأوكراني.

المعلومات المتواترة تنسب تأسيس فاغنر للعميد السابق في الجيش الروسي ديمتري أوتكين الخاضع لعقوبات أمريكية بسبب مشاركته في القتال الأوكراني بجانب الانفصاليين. وأن الشركة تم تسجيلها في الأرجنتين كون تأسيس الشركات العسكرية الخاصة يُعد أمرًا غير شرعي في روسيا. لكن نشاط الشركة بالكامل كان في أوكرانيا وسوريا ما يُؤكد أنها روسية التبعية، والأرجنتين مجرد مقر إجرائيًّا. التساؤل المنطقي سيكون هل أوتكين هو مؤسسها فعلًا أم مجرد ظل لرجلٍ أقوى!

الرجل القوي الذي تؤكد وسائل الإعلام العالمية، خاصةً الفرنسية، أنه مؤسس فاغنر هو بريغوجين. يتلقى بريغوجين التمويل بصورة غير رسمية عبر شركة «كونكورد» التي أنشأها لإمداد الكرملين بالطعام، ثم أصبحت تحصد كل عقود وزارة الدفاع للخدمات والتغذية. ثم يعيد بريغوجين إرسال تلك الأموال إلى إمبراطوريته الإعلامية و جماعة فاغنر المؤلفة من 2500 مرتزق، وفق متوسط التقديرات.

تستتر فاغنر خلف شركة أخرى تُدعى «إيفرو بوليس» تابعة صراحةً لبريغوجين. واجهت إيفرو بوليس موجةً من الهجوم عليها بالتشكيك في أعمالها. لكن الشركة أكدت في 2016 أنها مختصة في الغذاء فقط. ثم عادت في 2017 لتُعلن أنها ستدرج مهام الاستثمار وإنتاج النفط والغاز ضمن أعمالها، وجعلت مقرها المختص في الاستثمار النفطي في دمشق. بعد هذه الخطوة بعدة شهور تم تسريب صورة لعقدٍ مُكون من 48 صفحة طرفاه الحكومة السورية وإيفرو بوليس.العقد ينص على أن الشركة لها الحق في الحصول على 25% من عائدات النفط والغاز الصادرة من الحقول التي انتزعها «المقاولون/ مقاتلو فاغنر» من يد تنظيم داعش.


إمبراطورية إفريقيا

ازداد اهتمام بوتين بإفريقيا وبدأت روسيا في إنشاء مشاريع توسعية كثيرة في دول إفريقيا. هذا الاهتمام ينسبه المعارضون والمؤيدون إلى بريغوجين. استطاع الرجل أن يقنع بوتين أن بإمكانهما زحزحة أي نفوذ أمريكي أو صيني في دول العالم الثالث. من الواضح أن بريغوجين يستطيع أن يبيع لبوتين ما يريد طالما يضعه في غلاف توسيع النفوذ الروسي في العالم. سكنت الفكرة عقل بوتين فنراه يتحدث في 2018 عن الإعداد لقمة روسية إفريقية سوف تُعقد في أواخر 2019 تضم 50 قائدًا إفريقيًا. بعد هذا الحديث ظهر من العدم مركز دراسات استراتيجية في سان بطرسبرج تولى تنسيق كل ما يتعلق بهذه القمة.

ليس مفاجئًا أن يكون القائمون على هذا المركز على علاقة وثيقةٍ بـبريغوجين، وأنهم قد قضوا فترةً طويلة في مدغشقر تحديدًا يبحثون كيف تستطيع روسيا أن تدخل إلى إفريقيا. وذكر أحد القائمين على المركز أنهم كانوا يتلقون تمويلًا مباشرًا من بريغوجين. أثمرت فترة إقامتهم عن كتابة بحثٍ مستفيض يوضح البوابة المختلفة التي يمكن لروسيا أن تلج منها إلى أكثر من 20 دولة إفريقية. مع التركيز على 10 دول تحديدًا هم: جمهورية الكونغو الديمقراطية، السودان، ليبيا، مدغشقر، أنجولا، غينيا، غينيا بيساو، موزمبيق، زيمبابوي، وجمهورية إفريقيا الوسطى. إضافةً إلى تشاد ونيجيريا وكينيا.

اقرأ أيضًا: كيف تكسب معركة لم تخضها: بوتين والانتخابات الفرنسية.

في مدغشقر على سبيل المثال أرسل بريغوجين مجموعة من 15 إلى 20 استراتيجيًا هدفت إلى دعم الرئيس السابق « إري رادزوناريامبيانينا»، لقبوه فيما بينهم بـ«البيانو»، ليفوز بالرئاسة في جولة جديدة. طبعوا من أجله الصحف، وقدَّموا المساعدات العسكرية والإنسانية. لكن اتضح لهم أنه لن يفوز فوجهوا دعمهم إلى مرشح آخر والرئيس الحالي «أندريه راجولينا». كان ذلك بسطًا للهيمنة عبر وجود العقل الروسي في كرسي الحكم، وإن كان الجسد الجالس لرئيس إفريقي. إلا أن تلك الطريقة طويلة الأمد لم تكن السبيل الوحيد للتمدد الروسي، هناك التمدد بالسلاح.


تمدد بالسلاح

يُدرك بريغوجين جيدًا ضعف القوة المالية لروسيا مقارنةً بالولايات المتحدة والصين، لهذا جعل دول إفريقيا الفقيرة هى مُنطلق استعادة النفوذ الروسي. في تلك الدول يقدمون خدمات الأمن والتدريب على السلاح، إضافةً إلى الهدايا الهائلة من الأسلحة الروسية. المقابل أمر بسيط، لا تراه الدول المُستهدفة أصلًا، حقوق التعدين والتنقيب عن النفط وحجز حِصة ثابتة من ثروات تلك المناطق.

كما في حالة ليبيا التي لم تكن بعيدةً عن أنظار بريغوجين، إذ حضر المحادثات التي دارت بين وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو والجنرال الليبي خليفة حفتر. تحدثت مصادر عديدة أن بريغوجين ضالع في إمداد خليفة حفتر بالأسلحة والعتاد العسكري في مقابل حصة من نفط الجزء الشرقي الذي يسيطر عليه حفتر.

أحدث محطات طباخ القيصر كانت مصر، إذ حصلت مصر على قرض قدره 25 مليار دولار لبناء أول محطة طاقة نووية. كما يتم التفاوض مع إريتريا لإنشاء أول مركز لوجيستي لها على البحر الأحمر. لم يكن بريغوجين بعيدًا عن المفاوضات التي جرت في زيمبابوي وحصلت بموجبها على قرض بقيمة 3 مليارات دولار لاستخراج البلاتين، في أكبر مشروع استثماري في تاريخ البلاد.

موطئ القدم الذهبي أتى لبريغوجين هديةً حين أنهت القوات الفرنسية مهمة حفظ سلام دامت لثلاث سنوات في جمهورية إفريقيا الوسطى. في بدايات 2019 ناشدت الجمهورية الفقيرة الأمم المتحدة لإرسال قوات أخرى لحفظ السلام، فطلبت روسيا القيام بالمهمة. وافقت الأمم المتحدة و منحت روسيا تصريحًا رسميًا بتسليح الجمهورية والدفاع عنها.

الوصفات التي يُعدها طبَّاخ القيصر لا تنتهي، ولديه دائمًا ما يُشبع معدة بوتين وما يُشبع عقله في آنٍ واحد. فبوتين المشهور بعدم الثقة في أحد إلا نفسه بات واضحًا حجم الثقة التي أولاها لرجلٍ يأمن بوتين أن يأكل من الطعام الذي يُقدمه له. تلك الثقة أثارت حفيظة المحيطين ببوتين قبل المعارضين، كما لا تترك الولايات المتحدة وأوروبا فرصةً إلا ووضعت اسم بريغوجين على قوائم العقوبات. لكن بريغوجين ثابت على موقف واحدٍ طوال السنوات الماضية في التعامل مع كل اتهام أو عقوبة جديدة، نفي الاتهام تمامًا والترحيب بالعقوبة؛ لأنها شرف إذا جاءت من قِبل أعداء روسيا.