ينقص «بشاي»فقطأن يشجع فريق الزمالك ليمتلك كل عناصر الشقاء بحياته؛ فهو مجذوم، تخلى عنه أهله في طفولته، مسيحي يعيش في مستعمرة المجذومين مديرها مسلم متشدد دينيًا، بدون أوراق حكومية، يكسب رزقه من نبش القمامة ثم تتوفى زوجته المريضة نفسيًا. بشخصية بالغة التعاسة كهذه من المسلّم به أن يصبح فيلم «يوم الدين»بالنسبة للجمهور كوجبة قلقاس تراجيدية داكنة في ليلة خريفية، أضف لهذا كونه «فيلم مهرجانات»تفوح منه رائحة «مهرجان كان» الأخير، ولا يوجد به ممثل واحد معروف،بل إن بطله مجذوم حقيقي.

كل هذه عناصر كان من المفترض أن تؤدي لاستقبال تقليدي فاتر للفيلم في دور العرض، لكن ما حدث هو العكس: «يوم الدين»سجل رقمًا قياسيًا في الإيرادات بالنسبة لنوعه، وسط منافسة من أفلام عيد الأضحى التجارية وأفلام الهالووين الهوليوودية. فكيف تمكن من فعل هذا؟


عيد ميلاد في مستعمرة الجذام

بالفعل أفسد الفيلم عيد ميلاد فتاة شابة أمام سينما زاوية في ليلة السبت 6 أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن بعد فشلها وأصدقائها في حجز تذاكر بعرض «يوم الدين»، كانت هذه هي الليلة الثانية عشرة للفيلم، وقد بيعت كامل تذاكر القاعة الصغرى (75 مقعدًا)، وانتقل بعض الجمهور المتحمس لقاعة أخرى تعرض الفيلم في سينما رينيسانس على بعد أمتار.

بعد يومين من تلك الليلة، اضطرت زاوية لنقل الفيلم إلى قاعتها الكبرى (300 مقعد) بسبب الزيادة في الطلب بعرض مسائي يحضره المخرج «أبو بكر شوقي»، وهي أيضًا الليلة الأخيرة بأسبوعه الثاني الذي تستعد دور العرض فيه للتخلص من عبء تلك الأفلام الصغيرة، ويحقق إيرادات أكثر من 850 ألف جنيه ليضمن عبور المليون في أسبوعه الثالث، وهو إنجاز غير مسبوق لمثل هذا النوعمن الأفلام.


كيف اختفت السينما المستقلة وأفلامالمهرجانات؟

ينتمي فيلم «يوم الدين»لنوع سينمائي غائم يتم وصفه كلاسيكيًا بأنه «سينما مستقلة»من حيث طبيعة الإنتاج والصناعة، وأنها «أفلام مهرجانات»لأن عروضها غالبًا تقتصر على المهرجانات، ومؤخرًا تُعرف بأنها أفلام الـ«Art House»، وهو مسمى لدور العرض المتخصصة التي تتحمل تقديم أفلام تغلب على صناعتها المعايير الفنية على التجارية، في عروض بتذاكر مدفوعة.

ضمنيًا، فإن مصطلح الآرت هاوس يلغي اللقب ذا الوقع السيئ «أفلام مهرجانات»لأنه بالفعل يعتمد على إتاحة الأفلام للجمهور العام، بينما ذبل مصطلح «المستقلة»وخسر اتساعه لأنه بمرور الوقت تندمج شركات الإنتاج المستقلة في تروس السوق التقليدي نفسه، أو أن تدخل شركات تقليدية في إنتاج أفلام لا تلتزم تمامًا بقواعد السوق. أصبح من النادر أن ينجز صانع أفلام مستقل فيلمه كاملاً بدون استعانة بدعم من السوق التقليدي.

على العكس، سينما الآرت هاوس تضم أفلامًا تحمل بعض معايير السوق التقليدية، بجوار تلك التي أُنجزت خارج السوق أو حتى رغمًا عنه، أغلبها يكون قد مر على المهرجانات، لكن هذا ليس شرطًا، بل هو مطلوب فقط لاكتساب سمعة تفيد في العرض التجاري ثم البيع لشاشات التليفزيون حيث ينتظر المكسب الحقيقي.

العنصر الأهم في الآرت هاوس هو أن طريقة العرض أصبحت مساهمة في التعريف، وهو ما قوّى حلقة التواصل لصناع أفلام الآرت هاوس مع السينمات، وبالتالي دخل الجمهور في المعادلة وأصبح ضروريًا تعريفه هو أيضًا.


فجر وغروب كائنات السينيفيل

لاحقًا، بدأ استخدام مصطلح Cinephile، وهم محبو هذه النوعية من الأفلام المنبوذة تجاريًا، وساهم الإعلام الاجتماعي في تقوية تعريف هذه الفئة لنفسها، ثم اكتساب الثقة وتبادلها مع دور العرض، وعلى هذا الأساس تأسست سينما زاوية في بداية 2014.

حتى الصيف الماضي، كان السينيفيل محاصرين في قاعة واحدة ضيقة بزاوية سينما أوديون، وخلال عامها الأول كان استقبال 200 مشاهد يوميًا هي نسبة حضور تفوق التوقعات، وفي 2017 تراوح عدد التذاكر المباعة بين 50 و60 ألف تذكرة، وهو ما يعني أن شاشة زاوية حققت إيرادات بين 1.8 و2 مليون جنيه خلال هذا العام، تتضمن حوالي 17 ألف تذكرة في عروض السينما الأوروبية التي استمرت 11 ليلة فقط.

اقرأ أيضًا: ثوار السينما: 17 ألف مشاهدة للبانوراما الأوروبية

لدى السينيفيل وزاوية، فإن عروض السينما الأوروبية هي بمثابة عيد أضحى طويل يختتم العام السينمائي، وهذا العام انتقلت زاوية لشاشتين في سينما كريم بإجمالي 375 مقعدًا، وستُقام البانوراما عبر 15 شاشة في القاهرة والإسكندرية و9 محافظات أخرى بإجمالي 60 فيلمًا.

قبل زاوية، كان معدل وصول أفلام الآرت هاوس المصرية للعروض التجارية لا يزيد عن فيلم واحد سنويًا، 2013 شهد عرض 4 أفلام دفعة واحدة كرد فعل على تراجع الرقابة الحكومية بعد الثورة، ثم بدأ المعدل في الارتفاع مع افتتاح زاوية كما يُظهر الشكل التالي الذي يضم فقط أفلامًا استمر عرضها لأكثر من ليلة واحدة.

ينمو سوق السينيفيل بشكل جيد، لكن علينا ألا ننسى حجمه النسبي. إذا وصلت مبيعات هذا السوق إلى 100 ألف تذكرة في 2018، وهو تقدير متفائل للغاية، فإن هذا بالكاد يمثل 1% من إجمالي التذاكر المباعة في 2016 حسب آخر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

فتاة تحتفل بعيد ميلادها في قاعة عرض فيلم عن المجذومين؛ هذه ليست لقطة غريبة في عالم السينيفيل، وبقدر ما تبدو إيجابية فإنها أيضًا تشير لخصوصية وانعزال هذا العالم، ومن هذا يكتسب إنجاز «يوم الدين»أهميته؛ لأنه نجح في اجتذاب فئات جديدة من خارج السينيفيل بإمكانيات أقل من الأفلام المماثلة.


كيف أفلت بشاي من عالم السينيفيل؟

في أسبوع افتتاح «يوم الدين»تخطت إيراداته النصف مليون جنيه، هذا رقم غير مسبوق بين أفلام الآرت هاوس، لكنه في ذات الوقت نافس بقوة في شباك الإيرادات العام الذي حصل فيه على المركز السابع بين الأفلام المصرية والأجنبية، ومتفوقًا حتى على فيلمي «الديزل»للنجم محمد رمضان و«بني آدم» ليوسف الشريف في أسبوعهما السادس بعد انطلاقهما في عيد الأضحى.

حملة الترويج لـ«يوم الدين»كانت موجودة في الصفحة الأولى من كتب تسويق الآرت هاوس: الاعتماد على مشاركته في مهرجان كان وتمثيله لمصر في جائزة أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، ثم مراجعات نقدية من جمهور مهرجان الجونة وترشيحات شخصية من دوائر صناع الفيلم، ثم الترويج التقليدي من زاوية التي وضعته في قاعتها الصغرى لأن القاعة الكبرى كانت مخصصة لعروض الأفلام المرممة للمخرج يوسف شاهين.

انطلق الفيلم في 18 دار عرض بالقاهرة والمحافظات، منهم 9 شاشات فقط عُرض بها الفيلم طوال اليوم وليس في عروض محدودة. من أسبوعه الأول إلى الثاني، انخفضت الإيرادات بمعدل 38%، وهو معدل جيد مقارنة حتى بأفلام العيد التجارية (كمثال: فيلم «البدلة»انخفض بمعدل 58% في الأسبوع بعد العيد، «الديزل»كان أسوأ بمراحل). في أسبوعه الثالث، استمر «يوم الدين»على 5 شاشات، منهم 3 شاشات في عروض طوال اليوم.

اقرأ أيضًا: أفلام عيد الأضحى: من الفائز في حرب الإيرادات؟

نقديًا، تلقى الفيلم آراءً يمتزج فيها الرضا بالتذمر، كانت هناك إشادات مستمرة بالتجربة ككل، مع ملاحظات موجعة عن مستوى التمثيل والحوار. رغم أن الآراء النقدية لا يُعتد بتأثيرها عادة في الإيرادات، لكن في عالم السينيفيل تكون المراجعات السلبية أكثر تأثيرًا على جمهور لديه دائمًا خيارات متعددة وميزانية محدودة.

بحملة تسويق تقليدية، ومراجعات لم تكن حماسية، ومنافسين تجاريين، فإن نجاح «يوم الدين»اعتمد على ترشيحات شخصية من المشاهدين داخل وخارج السينيفيل، اعتمادًا على تجربة مشاهدته، وليست سمعته السابقة.


بطل استثنائي في حدث استثنائي داخل عالم استثنائي

مقارنة إيرادات أفلام الآرت هاوس
مقارنة إيرادات أفلام الآرت هاوس

كم مرة من قبل أتيح للجمهور مشاهدة مستعمرات المجذومين؟ هذا هو عامل الجذب الرئيسي بالفيلم؛ أنه يجذب المشاهد لعالم جديد لم يجربه من بعض، هناك وعد برحلة في عالم غير معتاد قبل حتى مناقشة الرسالة الإنسانية بالفيلم.

وهناك عوالم أخرى فرعية تضمن استمرار جاذبية الفيلم أثناء المشاهدة، مثل جبل القمامة في بدايته، ثم وكر المتسولين في ثلثه الأخير. راضي جمال؛ المتعافي من الجذام، وهو يقدم دور بشاي القريب جدًا من حياته الشخصية، كان هذا عامل جذب آخر، بلهجته ولزماته وعفويته التي تفتقدها عادة أفلام الآرت هاوس. الممثلون غير المحترفين عوضوا الكثير من ضعف أداء وحوار الممثلين المحترفين بالفيلم، وصنعوا سويًا نقطة جذب وقوة بالفيلم.

كما أن الفيلم هو من نوعية «رحلة على الطريق» (Road Trip Movie)، وهي أيضًا نوعية نادرة بالسينما العربية. كل القصص الجيدة تبدأ بوصول رجل غريب للبلدة أو شخص ينطلق في رحلة كما يقول الأديب الروسي تولستوي، ولهذا فإن رحلة بشاي للبحث عن أهله في أعماق الصعيد، مع المصاعب المتنوعة، ترفع درجة الترقب، وتعد دائمًا باكتشافات وتطورات وشخصيات مثيرة للاهتمام.

المراجع
  1. مصدر البيانات هو شركات التوزيع، وموقع السينما.كوم، والأرشيف الشخصي.