تستعيد رواية «أنت قلت»، للهولندية «كوني بالمن» والصادرة مؤخرًا في سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة الشاعرة التونسية «لمياء المقدم»، عددًا من الأفكار والأسئلة المتعلقة بكتابة «السيرة الروائية»، والفرق بين تقديم مادة صحفية مستوحاة من مذكرات شخصية للكتابة عنها، وبين الاستخدام الذكي لتلك المادة المنشورة في عمل روائي ثري ومتماسك.

تتناول الرواية قصة حياة وزواج الشاعر الإنجليزي الراحل «تيد هوز» بالشاعرة الأمريكية الشهيرة «سيلفيا بلاث» التي أنهت حياتها منتحرة، وتركته نهبًا للشائعات والاتهامات والأكاذيب، حول علاقته بحياتها وعلاقته بحادثة انتحارها المفجعة.

والرواية إذ تتناول قصة الحب الاستثنائية تلك، والتي دارت فصولها بين مدن أوروبا وأمريكا في منتصف خمسينيات القرن الماضي، تستعيد للأذهان أيضًا عددًا من قصص الحب التي تبدو شائكة دومًا، والتي دارت وتدور حول الأدباء أو الشخصيات العامة، ولكنها تحرص على أن تقدّم الحكاية بصدقٍ وشفافية كما يوردها «تيد هوز» في قصائده، إذ تذكر «كوني بالمن» في نهاية الرواية المصادر التي اعتمدت عليها في الرواية، وكان لها أن تكتفي بأنها تقدّم نصًا أدبيًا يعتمد في الأساس على الخيال، ولكنها قررت من البداية، ومنذ عنوان الرواية «أنت قلت» إنها تقدّم الحقيقة حتى لو كان ذلك في ثوبٍ روائي.

وهي إذ تتحرر من اتهامها بالكذب أو الخيال الجامح، تذكرنا بما فعلته «غادة السمّان» مثلا في «رسائل غسّان كنفاني» التي قررت نشرها بعد رحيله، أو رسائل «أنسي الحاج» كذلك، كما تستعيد طائفة من قصص الحب الملتبسة التي ربطت الأدباء، وجعلتهم مادة خصبة للإبداع، مثل ما فعلته «ليلى البلوشي» بين «هنري ميللر» و«أناييس نن» في كتابها «رسائل حب مفترضة»، أو التجربة الثرية التي قدمّها «طلال فيصل مؤخرًا في رواية «بليغ» من قص أطراف من حكاية الملحن الكبير «بليغ حمدي» وعلاقته بالمطربة “«وردة»، وغيرها من الأعمال.

اقرأ أيضًا:بليغ.. سيرة الحب والنجاح بالصدفة

في «أنت قلت» ومنذ البداية بشكلٍ مباشر يحضر صوت «تيد هوز» ولا أحد غيره، وتحضر الحكاية التي نعرف أطرافًا منها، وتأتي التفاصيل الثرية فيما بعد.

بالنسبة للكثيرين نحن غير موجودين في غير الكتب، أنا وزوجتي، تابعت على مدى الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة بكثيرٍ من العجز والاستنكار، كيف تعفّنت حياتها وحياتي تحت طبقةٍ من المغالطات والشائعات، والقصص الملفّقة والشهادات الكاذبة والأساطير والخرافات والهُراء، ورأيت بعينيَّ كيف تم تحوير شخصيتينا المركبتين إلى شخصيتين عاديتين، بملامح باهتة وبسيطة، صُنعت خصيصًا لإرضاء نوع معيّن من القرّاء الطامحين للإثارة: هي المُقدّسة الهشّة، وأنا الخائن القبيح.

لا أعتقد أنه إذا أتيح «لتيد هوز» أن يقدّم قصة حياته وعلاقته «بسيليفيا» أنه كان سيجد أفضل من هذا التقديم، و«حسن الاستهلال» الذي تبدأ به «كوني بالمن» روايتها، وتنقل القارئ مباشرةً إلى قلب وعقل الشاعر المتورط في أمرٍ خطير لا علاقة له به، ولتنقلنا بالتالي مدفوعين بالفضول والرغبة في التعرّف على الحقيقة إلى تفاصيل تلك الحكاية المثيرة الشيقة.

والرواية وإن كانت تركّز في الأصل على قصة الحب التي جمعت بين شاعرٍ وشاعرة في ذلك الوقت، إلا أنها من جهةٍ أخرى تنقل بقدرٍ من الحيادية والذكاء طبيعة الواقع الثقافي والأدبي الأمريكي في ذلك الوقت، والمراحل التي مر بها «تيد هوز» الشاعر من بداياته حتى أصبح شاعرًا كبيرًا، وكذلك كيف كانت «سيليفا» في بدايتها، وكيف كانت الكتابة همّا كبيرًا لديها وعائقًا حتى عن مواصلة الحياة والاستمتاع بها.

فهي من جهة تعرض حياة «سيلفيا بلاث» من وجهة نظر زوجها منذ زواجهما، ومن جهة أخرى تعكس جوانب مهمة عديدة لهموم الكتابة التي يعاني منها المبدعون، والسعي نحو التحقق بل كل المشكلات التي لازلنا نسمع عنها حتى الآن، من تلك العلاقة الملتبسة بين الكاتب والناقد، ومحرري دور النشر ودورهم في الدفع بالكاتب لتقديم أفضل ما لديه، أو إلقائه إلى هاوية الاكتئاب السحيقة، يحكي عن فترات توقف زوجته عن الكتابة:

عندما تتعثّر الجمل والكلمات تبدأ في التذمر بإحباطٍ من أن الرواية لا تتقدّم ومن أن الشعر يعاديها ويمنحها ظهره، وأنها تشعر أنها مسجونة داخل جدارٍ من الزجاج، في حين يبدو لها من خلفه كتابٌ ضخم ومميّز معروضًا ضمن قائمة أفضل المبيعات، يناديها ولا تعرف كيف تصل إليه.

وانظر إلى مقارنته شديدة الأهمية هنا للمقالات النقدية بين المدرسة الأمريكية والإنجليزية

جاءت الشهرة أخيرًا، وأول من ابتهج بها وهلل لها كانت زوجتي بالطبع، المقالات التي كتبت في ديواني الأوّل كانت مذهلة ومحمّسة جدًا، أحببت اللهجة التي يتميّز بها النقد الأمريكي بحيث تجعله يبدو بارعًا ذكيًا، واسع المعرفة وموضوعيًا، وهي تختلف عن المقالات الإنجليزية التي تتميّز بالإيجابية والتحفّظ في الوقت نفسه، والتي تحاول أن تتمعّن وتقرأ التجربة الجديدة في ضوء تطوراتها، وتقيسها بمقياسٍ دقيق موثوق به، قبل أن تطلق بوق الإعلان عن ميلاد شاعرٍ جديد على أرضها، مختلف وإشكالي متفادية بذلك التسرع في الحكم.

أو النصيحة التي يلقيها بشكلٍ عارض، ولكنها مهمة للغاية وعاكسة لوجهة نظره في الأدب والحياة

يجب ألا يضع الكاتب نفسه في دائرة الثرثرة والشائعات، لأنه أكثر وحدة وأنانية وفخرًا من أن ينتمي إليها، الكاتب يزدهر في الوحدة، وهو بالإضافة إلى ذلك ينظر إلى مخلوقاته الإبداعية بكثيرٍ من التباهي، باعتبارها أفضل مما يصنعه الآخرون من حوله، ومهما كان الآخرون من حوله متميزين ومتفوقين ومشهود لهم بالنجاح إلا أنه يجد نفسه مع ذلك أكثر أصالة وإبداعًا وشجاعة، وليس في ذلك ما يعيب، لكن الخطر الحقيقي يبدأ عندما يرغب في أن يشاركه الآخرون هذا التصّور عن أعماله، وعندما يتطلع إلى المدح والإطراء من كل من يلتقيه من النقاد والوصوليين، ومن يتحلّق حوله من قبيلة الأدباء معتبرًا نفسه صانعهم، فيفتل من لحيته حبالاً.

يبدو «تيد هوز» معتزًا بكتابته ودوره في الشعر وفي حياة زوجته التي يصفها بأنها كانت بائسة وشديدة القتامة والاكتئاب، وأنه سعى بكل ما أوتي من جهد أن ينزعها من ذلك، ولكنه لم يستطع في النهاية، ورغم أن التاريخ يكشف لنا عن أن علاقته بشاعرة أخرى «أسيا فيفل» كان مصيرها هو الانتحار أيضًا إلا أنه يبدو في هذه الشهادة ـ التي جاءت على لسان روائية محترفة ـ وقد تخلّص من كل ذنوبه.

ما الذي كنت أنتظره من امرأةٍ عضتني في أول لقاءٍ بيننا بدل أن تقبلني؟ كان يجب أن أفهم أن الحب بالنسبة لها مرادفٌ للعنف أو القتال، أن انتزاع قرطها يعني تجريدها من تحضرها للأبد، وحمل القرط كوسام، من يبدأ حبًا كهذا يعرف أنه في قلب هذا الحب يختبئ العنف والدمار، وفي النهاية يختبئ الموت، من البداية كان أحدنا قد انتهى: هي أو أنا. أحببتها منذ أول يوم وحتى آخر يومٍ في حياتي، وإذا كانت بانتحارها قد رغبت في سجني داخل موتها للأبد، وتذويب جسدي داخل جسدها الغائب، فقد نجحت في ذلك، لقد تحوّلت بالفعل إلى زوجٍ سجين في الموت، مشدودٍ إلى جثّة زواجٍ بقوّة لا يمكن كسرها!

هكذا ورغم أن القضية ليست قضية اتهام في قتل، ولكن «تيد هوز» بدفاعه يجعلها كذلك من خلال تلك المذكرة القوية التي أعدتها المحامية «كوني بالمن» وتمثلت فيها صوت موكلها بكل انحياز، في الوقت الذي يغيب فيه تمامًا صوت المجني عليها «سيليفيا بلاث» تمامًا.

ولعل أحد الأسئلة المهمة التي تضعها هذه الرواية ومثيلاتها أمام القارئ هي سؤال «الحقيقة» والبحث عنها من مصادرها المختلفة، وهل يسعى القارئ ويهتم فعلا بالتعرف على حياة “سيليفا بلاث” بعد قراءته لهذه الرواية والتعرف على دور زوجها الحقيقي، أم أنه سيكتفي بما قرأه هنا ويعتمده كحقيقة نهائية لا مجال لردها لمجرد أن الكاتبة أتقنت تمثيل دوره، ويجب ألا ينسى القارئ أيضًا أنه لا يقرأ اعترافات الشاعر «تيد هوز» مباشرة وإنما ما صاغته «كوني بالمن» على لسانه.

ولا شك أنه من حسن الحظ في النهاية أن جاءت هذه الرواية المهمة والشيقة بترجمةٍ محترفة للشاعرة التونسية «لمياء المقدم» التي بدا أنها منحت النص كثيرًا من روحها الشعرية، فخرج كأنه مكتوبٌ بالعربية وبشكلٍ متقن، لا يشعر القارئ معه أنه يقرأ نصًا مترجمًا أبدًا.

الطريف بعد هذا كله أن ثمّة مفاجأة في انتظارنا جميعًا بعد بضعة أعوام، فقد ترك «تيد هوز» (المتوفي عام 1998) في أرشيفه صندوقًا صغيرًا مقفلاً بالشمع، أوصى ألا يفتح قبل 2023.

اقرأ أيضا:«فرجينيا وولف»: غرفة واحدة تطل على العالم

تجدر الإشارة إلى أن سيرة حياة «سيليفا بلاث» كان قد سبق تقديمها سينمائيًا في فيلم يحمل اسمها «سيليفيا» من إخراج الكاتبة والمخرجة النيوزلاندية كرستين جيفس، وسيناريو الكاتب جون برونلو، وبطولة جوينيث بارترو، ودانيال كريج . وتم عرضه عام 2003.