منذ إعلان محمد بن سلمان وليًا للعهد وحاكمًا فعليًا للمملكة دخلت المملكة عصرًا جديدًا. عصرًا تميزه الحيرة بين ما اعتادته المملكة من تقاليد وأعراف ينكرها العالم الغربي، وبين رغبة ولي العهد في الحصول على مباركة غربية عبر تقديم صورة أكثر انفتاحًا وتقدمية للمملكة. هذه الحيرة يمكن رصدها من قرارات ولي العهد الإصلاحية والمتزامنة مع حملات اعتقال لا تتوقف.

حملات الاعتقالات تختلف في طبيعة الفئة المستهدفة، لكنها تتفق في طبيعتها هي. تارةً يتم اعتقال علماء ومشايخ، وفي أخرى يتم اعتقال ذوي القربي، وأخيرًا تم اعتقال ناشطات يطالبن بحقوق مدنية تبدو متسقةً مع النهج الذي ينتهجه ولي العهد حاليًا. هذا الاختلاف ظاهره العشوائية وباطنه واحد، الخوف.

لكن هناك خوفان، خوف يريد ولي العهد نشره بين معارضيه ابتداءً وبين الشعب انتهاءً، ليتوطد فيهم التسليم للملك القادم إن لم يكن حبًا فخوفًا. والخوف الثاني قد يكون في نفس ولي العهد ذاته. فالظروف التي أحاطت بوصوله لولاية العهد قد تجعله دائم البحث عن طريقة لتحقيق إجماعٍ عائلي وشعبي على ولايته.

صحيح أن ولي العهد قد اختار الطريقة غير الصحيحة، فبدلًا من التركيز على التنمية الاقتصادية أو رفع سقف الحريات بشكل حقيقي اختار القمع. فمهما كنت ناجحًا فسيظهر لك معارضون يطالبونك بالمزيد، لكن القمع الوسيلة الأقصر والأضمن لإسكات الجميع.


الإرهابي كما تراه المملكة

بدأت حملات الاعتقال بعدة علماء منهم سلمان العودة وعوض القرني، ثم خبراء اقتصاديين منهم عصام الزامل. اختلفت مشاربهم لكنها لم تكن أبدًا التطرف الذي بررت به المملكة اعتقالهم. وكما حدث في الحملات اللاحقة خرجت وسائل الإعلام لتهنئ القيادة على ضبطها لهؤلاء الخونة.

تكاد تكون التهمة الحقيقية والتي تجمع بين هؤلاء المعتقلين على اختلافهم هي الصمت عن تمجيد ولي العهد الجديد. هم لم ينتقدوا سياسته بشكل مباشر، لكنهم لم يمتدحوها كذلك بالشكل الكافي. كما كان لهم موقف وسط فيما يتعلق بقطر ومقاطعتها.

اقرأ أيضًا: لن ينجو أحد: محمد بن سلمان يحكم وحيدًا

بعد هؤلاء شهدت المملكة حملة مختلفة من الاعتقالات. هذه المرة نالت متعب بن عبد الله، رئيس الحرس الوطني السعودي، معه الثريّ وليد بن طلال. الرواية التي صاحبت هذه الاعتقالات هي شبهات الفساد، وسارعت الوسائل الإعلامية إلى الحديث حول ولي العهد الذي لا يمنعه نسب ولا نفوذ من القبض على الفاسد أيًا كان.

لكن احتجازهم في فندق الريتز كارلتون ثم الإفراج عنهم بعد دفع مبالغ ضخمة يضع علامات استفهام كثيرة حول صدق الدافع لاعتقالهم. خاصةً مع غياب وجود مستندات أو تحويلهم إلى محاكمات مختصة بهذا الشأن.


محاربة طواحين الهواء

أيضًا من الاعتقالات التي نالت غير السياسيين اعتقال نواف بن طلال بن عبدالعزيز الرشيد. نواف شاب ثلاثيني غير ناشط سياسيًا، إلا أن خيال المؤامرة قد يرى فيه تهديدًا عظيمًا. فهو ابن شاعر سياسي شهير اغتيل عام 2003 في الجزائر، وحفيد أمير حائل، الواقعة شمالي المملكة، المهزوم على يد آل سعود عام 1920، وهو أيضًا ابن لأم قطرية.

بعد اغتيال والده انتقل للحياة في قطر وحصل على جنسيتها. لكن عند دعوته من قبل بعض قبائل الكويت إلى حفلة شعرية فيها طالبت المملكة بتطبيق الاتفاقية الأمنية المشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي ما يُلزم الكويت بتسليمه. تدخلت قطر على استحياء لمنع تسليمه لكن في 12 مايو/آيار الماضي أعلنت وزارة الداخلية الكويتية تسليمه للمملكة السعودية.

هذا الإصرار السعودي على اعتقال نواف يمكن تفسيره إذا نظرنا للأمور بعين المملكة. إذ حاولت المملكة تقديم الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني كبديل للأمير الحالي تميم بن حمد. فبخلفية نواف الرشيد التاريخية من المحتمل أن ولي العهد رأى فيه احتمالًا، بعيدًا منطقيًا لكنه قريب سعوديًا، بفرصة يمكن لقطر استغلالها لإحداث خلخلة قد تهدد تقلده الحتمي لعرش المملكة.


رفعوا أصواتهن فوق صوته

لجين الهذلول, السعودية, اعتقالات, نشطاء
لجين الهذلول، ناشطة سعودية تم إعتقالها مؤخرًا

آخر حملات الاعتقال نالت سبع ناشطات كنّ يطالبن بإلغاء الوصاية على المرأة وحق المرأة في قيادة السيارة. مطالب تبدو المملكة في طريق تحقيقها، لكن المملكة لا تريد أي صوت في الأجواء حتى لو كان متسقًا معها. سواء كان صوتًا في السبعين من عمره كعائشة المانع، أو في العشرين كلجين الهذلول.

وسائل الإعلام المطبوعة تداولت صور المعتقلات تحت اسم الخونة. وتتابعت عبارات المديح للقيادة على معاقبتها للاتي تخطيّن الخطوط الحمراء والمقدسة. ربما لم تدرك وسائل الإعلام أن نشرها صور نساء في ذاته تجاوز لخط أحمر من خطوط المملكة الحمراء الكثيرة. كما تصدر وسم #عملاء-السفارات موقع تويتر، يتهم فيه المواطنون السعوديون المعتقلات بالخيانة ويباركون اعتقالهن.

«سارة ليا ويتسن» – مديرة فرع «هيومن رايتس ووتش» في الشرق الأوسط

هنا يبرز تناقض آخر، يتحدث ولي العهد عن تمكين المرأة ويسمح لها بالذهاب إلى المباريات ودور السينما، لكن في لحظة يعتقل ناشطات لم يطالبن بأكثر من هذا حتى الآن. فإما أنه يريد وأد المطالبة لكي لا يرتفع السقف عما يسمح هو به، أو أنه يرى ضرورة طمأنة مشايخ المملكة وتيارها المحافظ بأنه منفتح لكن بقدر، وأنه يعطي المرأة حريتها لكن في مساحة معينة.

السيناريو الأخير هو الأقرب للواقع، فولي العهد أصدر قرارًا يجرم التحرش الجنسي طالت مطالبة الناشطات به. لكن أراد طمأنة المحافظين في الوقت نفسه بأن هذه القرارات لا تعني انفتاحًا أكثر مما يريدون. إذ وقف المحافظون سنوات أمام هذا القرار خوفًا من أن يعني مزيدًا من الاختلاط بين الجنسين، وأن يعطي أمانًا أكثر المرأة للخروج والحديث علنًا.

اقرأ أيضًا: قيادة المرأة في السعودية: جرح صغير في جسد مذبوح


نحو مملكة بلا معارضة

يبدو أن الجريمة الوحيدة التي ارتكبها هؤلاء الناشطون تكمن في أن رغبتهم في رؤية النساء يقدن السيارات، سبقت رغبة محمد بن سلمان في ذلك.

المخيف في حديث الأوساط السعودية عن أي حملة اعتقال هو استخدام نبرة الخيانة والحديث عن نجاح القيادة في إبطال المؤامرة التي كانت تتم حولها. إذا أضفنا الإشارات المتكررة إلى إيران وقطر كمتربصتين بالمملكة، نجد أننا أمام محاولة حثيثة لبث أجواء المؤامرة الخارجية بين جموع الشعب، ما يعطي مبررًا ولي العهد للقيام بالعديد من الأمور.

إذن، فسياسة ولي العهد واضحة. يد تُخفف القيود الاجتماعية وأخرى تضيق هامش المعارضة حتى يتلاشى. لتصل الأمور إلى نتيجة حتمية، وهي خوف يسيطر على الجميع في الداخل. كما قد تنقل هذه السياسة المتناقضة لنا صورةً عن شخص يتملكه جنون العظمة. فولي العهد لا يريد أن يُقال إنه استجاب لمطلب أحد، بل يكون هو وحده في الصورة. وأن يتحدث درس التاريخ الذي سيروي تلك الحقبة عن محمد بن سلمان فقط، وليس عن أي شخص سواه.