في اللحظة التي أعلنت فيها وفاة هشام سليم، امتلأت جدران الإنترنت بصور ومقاطع فيديو له، كثير منها من لقاءاته الأخيرة بصحبة ابنه نور لكن الأكثرية احتفت به بشكل لم يعد عليه من عقود، بمرحلة عمرية عابرة لكنها مؤثرة، بمشاهد له من فيلم «عودة الابن الضال» 1976 ليوسف شاهين، ينظر أمامه بصحبة ماجدة الرومي ينشدان المستقبل، أو يستلقي في سريره وفي خلفيته صورة القمر الذي يتمنى أن يصعد إليه، نادرًا ما يتم تذكر فنان مصري في صورته الفتية في أوائل صباه، ونادرًا ما يكون شاب في الثامنة عشرة مخلدًا على الشاشة كشخصية متكاملة وليس فقط ابن أحدهم أو جزءًا من أسرة من الشباب المتمرد النمطي كما في إمبراطورية ميم مثلًا.

الصبا كمجاز للمستقبل

في كل من «عودة الابن الضال» و«إسكندرية ليه» يعمل الصبا كمحفز جمالي وكمجاز سياسي واجتماعي، تدور أحداث الفيلمين في منطقة زمنية من الصراع الوطني والأسري، في الابن الضال نرى تبعات هزيمة سياسية وشخصية وفي «إسكندرية ليه» نحن في خضم حرب واضحة دون مجازات، وفي كليهما يمثل الشاب ذو الثمانية عشرة عامًا حلم ما، وعد بمستقبل مختلف عن الحاضر، تصور للجمال والنقاء، لكن على الرغم من الهدف المجازي فإن الشخصيات غنية كتابيًا وتم صياغتها بحيث لا تبدو وكأنها تصور عجوزًا ما عن مشاعر الشباب بل تظهر وكأن الشاب منهما يتصرف كما يتصرف في حياته وكأنه مكتوب من وجهة نظر صبي في مثل سنه، دون فوقية أو صبغ أفكار أنضج من واقع حيوات من يعيشون هذه السن، كما أسهم أداء هشام سليم ومحسن محيي الدين في ترسيخ تلك الطبيعية والطابع الحقيقي لتلك الشخصيات، تتخطى الشخصيات فكرة المجاز والرمزية لتصبح شخصيات حية.




لكن تظل الرمزية التي تربط الصبا بالمستقبل والأمل حاضرة من التترات نفسها، “وجه المستقبل هشام سليم” تقدم لنا التترات إبراهيم، وفي أحداث الفيلم يسخر منه أبوه طلبة (شكري سرحان) مناديًا إياه برمز المستقبل، في «عودة الابن الضال» يتم تناول الرمزيات دون مواربة فكل شخصية تمثل مجازًا ما، وعلى الرغم من ثقل وجمود ذلك التناول فإن الفيلم يملك مساحة للتنفس بعيد عنها وبسهولة يمكن تلقيه باعتباره دراما عائلية متشابكة وملحمية، يلعب بطولتها شخوص غير منمطة أو جاهزة، وفي قلب كل ذلك شخصية إبراهيم، الذي يمثل الرغبة في الهروب من الواقع لكنه في الوقت نفسه يمثل ذاته، الشاب الواقع في الحب، الحالم بالفضاء، والمنتظر للخلاص.

لا يقع «إسكندرية ليه» في نفس التصنيف الرمزي الذي يميز الابن الضال، بل يملك قيمة أكثر مباشرة تجعله ينتمي لنوع فيلمي قلما شاهدناه في السينما المصرية وهو فيلم النضوج coming of age، وهو نوع فيلمي يتناول فترة المدرسة، ومحاولات النضوج من الصبا إلى الرجولة أو الأنوثة وإيجاد الذات،  ينتمي له عودة الابن الضال كذلك في الخط القصصي الخاص بإبراهيم، يتناول «إسكندرية ليه» فترة الحرب بشكل حرفي ويسمي الأشياء بمسمياتها لا يستعيض عنها بشخصيات آدمية مرمزة، يمكن رؤية الجنود والغارت والدبابات والجنسيات المختلفة ولحظات التحول التاريخي، يتناول الفيلم النازية والصهيونية والإمبريالية ويجعل بطله شاب في الثانوية يحاول أن يستوعب كل ذلك، أن يصنع هويته الخاصة في مكان يحبه ويكرهه، مكان يتمنى لو لم يولد فيه، لكن يبكي بأسى عند مغادرته.

يطمح يحيى للدراسة في هوليوود، أرض الأحلام الذي فتن بها وبأفلامها في مرحلة عمرية فارقة، يرى العالم كساحة للرقص والغناء والتعبير الجسدي والبصري، يظن أن الخلاص هو أمريكا، حتى تضحك أمريكا نفسها على أحلامه، مثل إبراهيم يمثل يحيى مستقبل بعيد عن الخراب، مستقبل ينظر لما هو ضخم وجميل لكنه غير أساسي، كل من يحيى وإبراهيم يملكان طموحات غير واقعية وليست ذا فائدة مادية وحياتية ملموسة ويومية، يريد إبراهيم أن يدرس الفضاء، أن يصعد للقمر وأن يراقص أمه المتوفاة بين النجوم يوم ما، ويملك يحيى اهتمامًا بنجوم من نوع آخر، نجوم تخلد بواسطة السينما، أشخاص يهبون حياتهم لصناعة الصورة المتحركة سواء أمام الكاميرا أو خلفها.

الصبا والذكورة المهمشة

كل من إبراهيم ويحيى يطمح للهروب من مكان متداع وينتهي كلا الفليمين في لحظة مغادرتهما لذلك المكان، وبالمغادرة تنتهي مرحلة زمنية ما من أعمارهما ومن أعمار أوطانهما والعالم، لكن بعيدًا عن المجازات المستقبلية فإن الشابين يمثلان نوعًا محددًا جدًا من الذكورة، ذكورة ناعمة هشة تتكثف بشكل خاص في تلك المرحلة العمرية بين الصيا والنضوج، وبها يتشكل نوع الرجل الذي سوف يصبح عليه هؤلاء في يوم من الأيام، لطالما وصف يوسف شاهين بأنه يختار نوعًا معينًا من الرجال، صيغة محددة من الجمال الذكوري المجرد اللانوعي، رجال شاهين لا يرضخون للمعايير المحلية للرجولة، أدوار البطولة لا تذهب عادة لرجال يشبهون رشدي أباظة، بل لهشام سليم ومحسن محيي الدين ولاحقًا خالد النبوي وهاني سلامة، العامل المشترك بين هؤلاء هو هشاشة رجولية وجمال ليس رجوليًا، جمال لا يملك جنسًا معينًا أو يتسم بهيمنة تتعلق بالقوة الجسدية، لكن يتكثف ذلك الخيار في المرحلة العمرية الغضة التي تناولها «عودة الابن الضال» و«إسكندرية ليه»، في إبراهيم ويحيى.

مشهد من «عودة الابن الضال» 1976

مشهد من «إسكندرية ليه» 1978

يسرد عودة الابن الضال قصة عائلة تنطوي على عدة أنواع من الرجال، علي (أحمد محرز) الحالم المنهزم الذي ينتظره الجميع وطلبة (شكري سرحان) بطريرك الأسرة الذي لا يمانع الاغتصاب وممارسة العنف على أفراد عائلته رجالا ونساء، والأب والجد (محمود المليجي) الذي كان يومًا ما قويًا ومتماسكًا لكن غلبه السن والهزيمة، وعلى الرغم من رقته فإنه لا يزال محتفظًا ببعض أفكار ذكوريته القديمة، وهنالك إبراهيم (هشام سليم) الذي لم تتحدد بشكل حاسم معالم رجولته بعد، فهو رقيق لكنه غاضب مثل أي مراهق، يسخر من أفكار جده الذي ينصحه بحصد شهادة كبيرة ليتمكن من الهيمنة على امرأته، وفي الوقت ذاته يسخر من خنوع عمه الذي وعلى الرغم من تشابههما فإنه لم ينهزم بعد.

الأسرة في إسكندرية أكثر لطفًا وخفة، أجواء الفيلم نفسه أكثر ميلًا للرومانسية من القتامة التي اتسم بها الابن الضال، يلعب محمود المليجي أب منهزم مشابه لدوره في الفيلم السابق، لكننا نرى يحيى وسط صبية في مثل عمره بشكل أكبر، نرى طبيعته في مقابل طبيعتهم، يجتمع طلاب المدرسة الأصدقاء في سيارة أحدهم لالتقاط الفتيات على شاطئ إسكندرية للتجريب الجنسي الجماعي، يتأفف يحيى عدة مرات لكنه يريد أن يثبت أنه قادر مثلهم، فقط ليس بتلك الطريقة، يمثل اهتمام يحيى بالرقص والغناء والاستعراض المسرحي الكوميدي والتراجيدي ذكورة مهمشة وليست عامة، ولا يجد غضاضة في البكاء أمام الجميع أو رفض أسلوب حياة رفاقه.

يمثل كل من يحيى وإبراهيم امتداد لرجال آخرين، ابراهيم امتداد لعمه علي الذي كان في يوم من الأيام شاب حالم مثله اعتمدت عليه عائلته للذهاب بعيدًا وإحضار الأمل “لبن العصفور في ورق سوليفان”، لكن بعد فشل تلك المهمة تخوف الجميع من مصير إبراهيم، فأصبح واقعًا تحت قيد المقارنة والخوف من الفشل، وعدم استحقاق الهروب من المصير المحتوم، بينما يعتبر يحيى امتداد لأخيه الأكبر المتوفى، الذي اعتقد الجميع أنه عبقري، لكنه مات قبل أوانه قبل حتى إن يصبح شابًا، وتمنى كبار الأسرة لو كان الموت أخذ يحيى بدلًا منه، يعيش يحيى مثل إبراهيم بثقل تلك التوقعات، أن تكون سليل الأمل في وقت شدة لا أمل فيه.

خلد شاهين صبيته الذين يمثلونه، يمثلون أفكاره الشخصية ورؤيته عن ذاته وأحلامه للمستقبل للأبد في لحظة معينة من الجمال الفتي الذي سوف يعيش للأبد، خلد وجه هشام سليم المرتق بحب الشباب وأسنانه المبعثرة التي تنفرج عن ابتسامة دافئة، يتحرك بحرية أمام الكاميرا، يعبر عن صباه وذكورته وأحلامه، يقبل شعر حبيبته برقة، كذلك سوف يبقى يحيى حتى بعد تملص محي الدين منه، كصورة لشاهين نفسه ولكثير من الصبية في مثل سنه وقتها، يحلمون بالسينما والفنون والتعبير الحر عن الذات، تتألق دمعة لامعة في عينيه عند رؤية فشله أمامه وتنير ضحكته وجهه حينما يعاد إليه الأمل، في النهاية يرحل كل منهما بعيدًا عن أسرته ووطنه الأصليين، أحدهما محمل بالحب والحلم خارج إطار الأرض والآخر حالم ببشر آخرين يستطيع خلقهم، ينتهي «عودة الابن الضال»، الذي تميزه صور غروب الشمس المشبعة بالدفئ والحزن بلحظة نادرة لشروق الشمس، ويبتعد إبراهيم عن الكادر داخل ضباب الفجر، وفي لحظة ما قبل إبراهيم بعقود يبتعد يحيى عن الكادر وحده في سفينة ضخمة، كلاهما سوف يكبر في مكان وزمان آخرين، لكن على شاشة السينما سوف يظلان صبية إلى الأبد.