ماذا سيحدث لنا عندما نترك أوطاننا ونهاجر؟، الإجابة أمامنا الآن، لا داعي للانتظار، يمكننا الآن التنقل في الزمن، يمكننا رؤية المستقبل.

هذا ما تقدمه لنا «كوثر بن هنيه» في فيلمها «زينب تكره الثلج»، الفائز بجائزة التانيت الذهبي، الجائزة الأولى لمهرجان قرطاج السينمائي، والذي يراه البعض ليس فيلما.

سنوات من الحياة على الشاشة

فعلها المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر من قبل في تحفته السينمائية «Boyhood» حينما صور فيلما عن حياة صبي أمريكي من الطفولة وإلى الشباب من خلال مجموعة ثابتة من الممثلين طوال 11 عاما. كان الأمر مؤثرا للغاية لأننا شعرنا كما لو أننا نراقب حياة بشر حقيقيين، كما لو أن لينكلاتر قد أعطانا مقعدا من السماء في مرتبة أعلى قليلا من البشر تسمح لنا بدراستهم، متابعة مشاعرهم، وتسجيل أفراحهم وأحزانهم.

ولكن يبدو أن هذا التصور السينمائي لم يكن كافيا للمخرجة التونسية كوثر بن هنيه لهذا فقد قدمت لنا حكايتها عن صبية تونسية في رحلتها من الطفولة إلى الشباب مضافا لها ثلاث نقاط أخرى من الإبهار؛ الأولى أن الرحلة تتضمن بين طياتها تأثير الثورة التونسية على جيل من الشباب، والثانية أنها تنقل لنا رحلة هجرة طفلة عربية وتحولها في النهاية لشابة كندية، والثالثة أن هذه الحكاية ينقلها لنا أيضا مجموعة ثابتة من البشر، ولكنهم شخوص حقيقية في أحداث حقيقية، هذه حياتهم وهذا ليس فيلما، أو على الأقل هذا ليس ما اعتاده كثيرون من الأفلام.


من الثورة إلى كندا: كنت مؤمنا للغاية

تنقل لنا عدسة كوثر بن هنيه حياة زينب، طفلة تونسية تبلغ من العمر 9 سنين، يتوفى والدها في حادث سير وتعيش هي وأخوها الصغير «هيثم» برفقة والدتهم «وداد» التي ما لبثت أن وقعت في حب رجل آخر يسمى «ماهر» وتريد أن تتزوجه وتعيش برفقته في كندا. لدى ماهر ابنة أيضا تسمى «وجدان»،في عمر زينب ولكنها ولدت في كندا ولا تتحدث العربية.

زينب هي بطلة حكايتنا، نتابع في البداية حبها الشديد لأبيها الراحل، رفضها التام لارتباط والدتها بماهر، وعزوفها الشديد عن ترك تونس. يظهر الأمر من خلال مجموعة من التصرفات الطفولية التي تقوم بها، في حين تبدو وجدان -التي ولدت في كندا- أكثر تفهما لرغبة أبيها في الارتباط وأكثر قدرة على التواصل مع الآخرين.

يمر عام ونصف ثم نعود لنجد أن الزمن «وحده» قادر على تغيير البشر، زينب الآن تجد ماهر شخصا جيدا، اعتادت عليه، تحتضنه بعد أن كانت ترفض جلوسه بجانبها، توافق على زواجه بوالدتها وتوافق أيضا أن تسافر برفقتهم إلى كندا.

وفي واحد من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا نشهد برفقتها آخر أيامها في مدرستها بتونس، يغني الطلاب «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر»، تصعد زينب في نهاية اليوم على مسرح مدرستها لتلقي -بعد دموع ومحاولات طفولية للتهرب- خطاب الوداع قبل الهجرة، بعربية فصيحة تشكر أصدقاءها الذين يبكون من حولها، كما تؤكد أنها ستظل دوما ممتنة للثورة التي علمتها معنى الحرية.

تغادر زينب وأخوها برفقة والدتهم إلى كندا للحياة مع ماهر ووجدان، يسيطر جو من الترقب والغربة على زينب في البداية ثم يمر عام ونصف لنجدها مرتاحة لحياتها في كندا، قل حديثها بالعربية، أصبحت تحتفل بالكريسماس، وأصبحت مرتاحة أكثر في علاقتها بوجدان، يتبادلان الحكايا والأسرار عن إعجابهما بزملائهما في المدرسة أثناء تزحلقهما سويا على الجليد، تشاركهما في بعض الأحيان وداد -أم زينب- التي خلعت الحجاب.

تمر ثلاث سنوات ونجد زينب في الخامسة عشر من عمرها، الزمن والظروف المحيطة يضربان من جديد، شابة كندية من أصل عربي وإن كانت لا تتحدث العربية تقريبا، تتنقل بين مدرستها الثانوية وبين بيتها، انفصلت وداد عن ماهر، تبدو الآن كامرأة غربية أيضا، ولكنها تلوم على ابنتها وابنها عدم اهتمامهما بالحياة الأسرية. يبدو أفراد الأسرة أكثر وحدة الآن.

ينتهي الفيلم بكوثر بن هنيه وهي تعرض النسخة الأولية من الفيلم على أبطال الحكاية، تريهم كيف كانوا في الماضي، نشاهد ردود فعلهم بين الضحكات والدموع، تشاهد زينب نفسها وهي صغيرة، كيف كانت تجادل وجدان في بداية قدومها لكندا، وكيف كانت فخورة للغاية بتونس، كما كانت فخورة للغاية بكونها مسلمة، كانت تحذر وجدان في نبرة حادة أن المسلمين فقط هم من سيدخلون الجنة، تشاهد زينب «المستقبلية» زينب «الماضية» تضحك ثم تقول «كنت مهووسة بالدين والوطن، كنت مؤمنة للغاية».


انهيار الجدار بين السينما والواقع

تواجدت ولفترة طويلة حدود فاصلة بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي، ولكن يبدو أننا نشهد مؤخرا انهيار هذه الحدود، فعلى جانب لم يعد الأمر هو الأساس في حكم الجمهور على المنتج الفني أو إقدامهم على مشاهدته، وقد شهدنا إقبالا ملحوظا من جمهور الشباب المصري على حضور فيلم تسجيلي درامي هو «هدية من الماضي»، كما يبدو على جانب آخر أن تلك التصنيفات لم يعد معترفا بها في كثير من المهرجانات، ففي العام الماضي شهدنا فوز الفيلم التسجيلي الدرامي الإيطالي «fire at sea» بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين، كما شهدنا فوز فيلمنا التونسي زينب تكره الثلج بجائزة مهرجان قرطاج.

اقرأ أيضا:«هدية من الماضي»: فيلم تسجيلي عن مشاعر حقيقية يبدو أننا نسير في اتجاه تشجيع هذه السينما الجديدة وتفضيلها نقديا في بعض الأحيان على السينما الروائية «القديمة». ما أعتقده في كلتا الحالتين أننا نشاهد معالجة درامية للحقيقة، حتى ولو كنا نشاهد أحداثا حقيقية، فصناع الفيلم في كل الأحوال هم من يتدخلون بالقص، ترتيب المشاهد، إضافة موسيقى لشريط الصوت، اختيار زوايا التصوير، هي معالجة بعيونهم في كل الأحوال، لذا فقد شاهدنا حياة زينب ولكننا وبالتأكيد رأيناها بعيون كوثر بن هنيه، وهذه هي السينما دائما؛ خليط بين حكايا البشر، ورؤية صناع الأفلام.