المتتبع لمسيرة الحركة الإسلامية يجد أنها تعاني من مشكلات جدية وخلل واضح في بنائها القيادي وفي قدرتها على صناعة قيادات «فكرية» راشدة تخطط للحركة وتشارك في تنميتها وتحقيق أهدافها. ولهذه المشكلات أثر جدي على واقعها الحاضر ومستقبلها الآتي. أحد الأسباب الرئيسة في ذلك إهمال الحركة للنقد الذاتي وضرورة المراجعة الدائمة لخططها وآلياتها، وإهمالها الشديد في الوقت ذاته لجانب المحاسبة المستمرة لقيادتها.

وقد نجد داخل الحركة الإسلامية من لا يقدر قيمة الفكر والمفكر ودوره وما يقوم به من تأصيل للفكرة وشرح لها واستشراف لمستقبلها، و لا يدرك هؤلاء أن تطور الحركة الإسلامية والتنظيمات عموما متوقف على نوعية قيادتها الفكرية والثقافية بشكل رئيسي. بل إن دور العلماء والمفكرين المعاصرين دور متمم للدور الذي قام به أسلافهم في الماضي وهو تزويد القوى الإسلامية والتيار الجماهيري المؤيد لها بالخطط الاستراتيجية العلمية التي تمكن الصحوة من مواصلة مسيرتها والتغلب على العقبات التي تعترضها وأن تقوم بدورها المنوط بها. وقد صنف أئمة الحديث في كل كتبهم أبوابا في أهمية العلم وقيمته وأنه يأتي قبل العمل.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن مناهج التربية في الحركة الإسلامية ما زالت قانعة بالتربية الروحية والخلقية وفقط، أو بالتربية الأيدولوجية المتجمدة في قوالب الماضي والمنزوية عن واقعنا المعاصر وكأنها حالة هروب من أبناء الحركة إلى التاريخ ليعيشوا في عالم وهمي. مع أن النظرة إلى الماضي لا بد أن تكون للعبرة وكرصيد يمنح الثقة بالأمل في التغيير الملائم لحاجات العصر.

ومن ثم، فلا بد من دراسة عملية التغيير في تطور التاريخ وفي الواقع المعاصر والاستعانة بالعلوم التي تدرس هذا التغيير وتحاول أن تقننه كما الحاجة إلى الانفتاح على الواقع الأيديولوجي والحركي المعاصر لتعرف الحركة أين تقف منه وكيف تنتفع به وكيف تخطط لمسيرتها في ضوء المستجدات والمتغيرات.

وقد عبر الأستاذ «عمر عبيد حسنة» عن أحد جوانب هذه المشكلة بقوله:

إن هذه التنظيمات –في معظمها إن لم نقل كلها– انتهت إلى لون من القيادات التي ظنت أن القيادة تعني الإشراف الإداري، وعجزت عن إنتاج قيادات فكرية. ذلك أن هذه القيادات -بطبيعتها الإدارية الرتيبة
تضيق ذرعا بأي تطوير أو تفكير أو تغيير، وكل الذي يعنيها: الإبقاء والإصرار على صورة الماضي للمفكرين الرواد الأوائل، على الرغم من تغير الظروف والأحوال والمشكلات. وعلى أحسن الأحوال يمكن وصف تلك القيادات بأنها أغلفة لحفظ تاريخ الجماعات. وهذا الاستمرار الرتيب استدعى بطبيعة الحال تقديم الخطباء على الخبراء

فإذا كانت الحركة تعيش أزمة جمود كانت الحاجة إلى أهل التنظير والتخطيط أمرا ملحا للغاية. وكما لاحظ «روبرت غرينليف»؛ فإن التنظيم يحتاج إلى قادة تنفيذيين إذا كان يرضى بالسير ضمن النمطية السائدة. أما إذا كان ثمة طموح إلى التغيير والاستدراك، فلا بد من قادة منظرين.

ثم علينا أن ندرك أن للإسلام وظيفة اجتماعية وحضارية كبيرة؛ ولذا كان لا بد من نظرية إسلامية متكاملة تضع مواصفات التغيير الاجتماعي والحضاري المطلوب على كافة الصعد في المشروع الإسلامي. فالحركة الإسلامية في حاجة ماسة إلى (نظرية) تسترشد بها في تفسير المجتمعات والقوى المحلية والعالمية وترسم من خلالها خطة العمل بوضوح ودقة.

وهذا الدور لا يقوم به إلا الكفاءات الإسلامية المفكرة التي تزخر بها إطارات العمل الإسلامي للقيام بصوغ تلك النظريات؛ إذ أن كثيرا ما تؤدي ضبابية الرؤية إلى هدر في الأرواح والأموال والأوقات. ولهذا فان حاجة التنظيمات اليوم الى قادة منظرين و مفكرين أولى من حاجتها إلى قادة تنفيذيين هم كثر.

وللأسف، حال دون حدوث ذلك تخليد الحركة لفكر الأزمة، والشطط في اختيار القيادة بناء على مواصفات شخصية أفرزتها الأزمة، مثل عدد سنوات السجن والاعتقال والمطاردة والمواجهة والثبات، دون المؤهلات والصفات الموضوعية للقيادة العصرية الراشدة.

وربما اغترَّ البعض بالتعاظم الكمي للصحوة وانتشار روح التدين في المجتمع، فدفعهم ذلك إلى التفاؤل المفرط المبني على حتمية الانتصار و الأهلية للقيادة، ونسوا –كما لاحظ الدكتور حسن مكي- أنه قد تصح القابلية في المجتمع، ولا يوجد الاستعداد في الحركة، كما قد تنضج الظروف (في الحركة) ثم لا توجد القيادة.

وقد أدى غياب الرؤية الموضوعية الشاملة لواقعنا المعاصر وما طرأ عليه من متغيرات على الساحة المحلية والدولية وصراع المصالح الكبرى المتلاطمة فيه، إلى جعل تحرك الحركة الإسلامية ردود أفعال، أو أفعال منفلتة غير محسوبة وغير مقدرة للعواقب، مما يحرم العمل الإسلامي فرصة إحراز أي تقدم ملحوظ نحو هدفه النهائي.

بل أدى ذلك إلى تراجع الحركة وجمودها وتكلسها. وأول من يسأل عن ذلك قادة العمل الإسلامى لعجزهم عن امتلاك تلك الرؤية الاستيعابية نظرة لقلة معرفتهم لضيق اطلاعهم، ولذلك نجد قيادة الحركة غير مبالية بضرورات العصر من احترام مبدأ التخصصية والمؤسسية وإعمال مبدأ الشورى بالشكل الأمثل في اتخاذ القرار وغير ذلك.

من أبرز نقاط الضعف في قيادة حسن البنا إهماله تدريب كوادر قيادية لتأتي من بعده

وأحد مظاهر الخلل أيضا حرص قادة العمل الإسلامي على «صناعة الأتباع» الذين يحسنون التلقي والتنفيذ الفوري والإيمان بأوامر القائد وحكمته دون تعطيل ولا تأويل، وما يتبع ذلك من نزوع لتقديس القيادة وتصنيف المسلمين حسب درجة الولاء للتنظيم أو قيادته. وقد لاحظ الدكتور النفيسي أن من نقاط الضعف الأساسية في قيادة الأستاذ حسن البنا، إهماله تدريب كوادر قيادية تتمتع بأهلية القيادة لتأتي من بعده. والذين جاءوا من بعد البنا في قيادة حركة الإخوان كانوا أشد تفريطا في ذلك.

وقد ذكر الدكتور «محمد بن المختار الشنقيطي» جانبا من عيوب هذا الاتجاه منها:

1- سيادة مفهوم «السيطرة» على مفهوم «القيادة»، بحيث يتركز اهتمام القائد على التطلع إلى الوراء للتأكد من أن الناس لا يزالون تبعا له، ويهمل التطلع إلى الأمام والتفكير فيما يحقق تقدما وتحسنا في أداء التنظيم ورسالته.

2- إغراء الأتباع بالصراع على مناصب القيادة نظرا لسد المنافذ السلمية إليها، وفي ذلك من الأخطار على التنظيم ما فيه، وأقله شغل التنظيم عن رسالته وأهدافه الأصلية واستنزاف طاقته في المعارك الداخلية.

3- التأثير السيئ على لغة التواصل بين القائد والعاملين معه، فهم يحسون بأنهم أتباع لا أقران، ومن شأن المستمعين إلى القائد المسيطر ألا يفهموا كلامه فهما موضوعيا لأنهم لا يبحثون عن قيمة الكلام في ذاته، بل عما يقصده القائد ويريده.

4- عزلة القائد عن أتباعه، لأنه لا يستطيع التحقق من مقاصدهم في أجواء المجاملات والهالة التي رسمها حول نفسه، وبذلك يتعطل تدفق المعلومات الصحيحة وتنسد أبواب التناصح النزيه.

لذلك فإن «المرونة الداخلية» من أهم أسباب النجاح الحركي، وذلك بأن تكون الحركة قادرة على تغيير قيادتها بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو جمود في الأداء أو تمزق في الصف. ولا تروق هذه المرونة للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون تنظيماتهم في حال من التصلب الإجرائي يمكِّنهم من التحكم فيها.

لكن هؤلاء بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب، فإنهم يضعفون التنظيم كمؤسسة على المدى البعيد. إن انعدام هذه المرونة هو أكبر ما عانت منه الحركة الإسلامية، حيث سادت البيعة مدى الحياة، وإطلاق يد القائد والتفويض له، وعجز القيادة عن تجديد شبابها وعن التكيف مع الظروف المتغيرة.

وفي المقال القادم إن شاء الله نتحدث عن ضعف حركة النقد داخل الحركة الإسلامية، و الحاجة الى التنظير، وضرورة ذلك للعمل الحركي الإسلامي. و للحديث بقية.


اقرأ المزيد:

معا لحل تنظيم الإخوان المسلمين (1)البحث عن مشكلة الإخوان: التنظيم أم الجماعة الوسيطةإسلاميون أم مسلمون ؟ (1-2)إسلاميون أم مسلمون ؟ (2-2)