مع اندلاع الثورات العربية بدءًا من نهاية 2010 وخلال النصف الأول من 2011، وبفضل نجاحها السريع في إسقاط رأس السلطة في تونس ومصر وليبيا، راجت فكرة تقول أننا على أعتاب عهد جديد سيحكم البلدان العربية فيه “إسلاميون معتدلون” في إطار نظم ديمقراطية تعددية، لدرجة أن المخابرات والجيش المصريين كانا من أوائل من تبنوا هذه الفكرة عمليًا، حتى قبل سقوط محمد حسني مبارك، حيث استدعيا الإخوان المسلمين إلى طاولة المفاوضات قبل 11 فبراير 2011، اعتقادًا منهما أن هذا “التنازل الديمقراطي” هو الطريق الوحيد لاحتواء الثورة والسيطرة على الشارع.

وخلال عامي 2011 و2012، ورغم الأزمات المتلاحقة، استمرت الفكرة في الانتشار. حيث لاحت في كل من مصر وتونس بوادر عملية انتقال للسلطة تضمنت تسوية تاريخية بين الدولة القديمة والقوى الإسلامية المسماة بالمعتدلة، ممثلة في حركتي الإخوان المسلمين والنهضة.

عُدّ هذا التحوّل أكبر تغيير في نخبة الحكم ودوائر النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية منذ تمكنّت نخب ما بعد الاستقلال من السلطة مع انسحاب الاستعمارين البريطاني والفرنسي من المنطقة في خمسينات وستينات القرن العشرين.

لكن رياح عام 2013 أتت بما لا تشتهيه “بعض” السفن. إذ بدأ يتضح آنذاك، وبشكل مؤلم، أن النخب القديمة في الدولة، وبالأخص أجهزتها العسكرية والأمنية، ووراءها القطاعات الأوسع من الطبقات العليا والوسطى، وكذلك الأغلبية الساحقة من قوى المعارضة المدنية، مستعدة أن تصل في رفضها للتسويات التي فرضتها الثورات العربية إلى أبعد مدى.

عند هذا الحد، بدأت التحالفات والبنى الهشة التي أسستها الثورات العربية في التفسخ. حدث هذا، بطرق مختلفة، وأحيانًا متناقضة، في مصر وليبيا واليمن. ومن ناحية أخرى، استعرت الحرب الأهلية السورية، وبدأ بعض من أيدوا إسقاط بشار الأسد في التردد، خوفًا من انقضاض الإسلاميين على السلطة.

أما فيما يخص تونس، قصة النجاح الوحيدة، فهي لا تخلو في ظننا من توتر كامن تحت السطح، توتر يقول إن التسوية، الناجحة حتى الآن، ليست راسخة أو محصنة ضد الانهيار.

ومن ثم، فإن تباشير عصر “الإسلاميين المعتدلين” التي لاحت أثبتت أنها فجر كاذب ليس أكثر، وهو ما حدا بكثيرين إلى مد الخط على استقامته واعتبار أن القوى الإسلامية انتهت عمليًا وإلى الأبد.

تاريخ من الإقصاء

ليس موضوعي هنا تحليل الأسباب التي أدت إلى تحوّل ما أطلق عليه “الربيع العربي” إلى شتاء وصقيع. فما يشغلني هو بالتحديد آثار محاولات إقصاء الإسلاميين، معتدلين وجهاديين، حضاريين وسلفيين، مجددين وأصوليين، في بلدان الثورة العربية، وما هي تداعيات ذلك المستقبلية.

إقصاء الإسلاميين ليس جديدًا. إذ يمكننا تتبع تاريخ طويل من الإبعاد بالعنف والسلاح طوال سنين القرن العشرين، منذ بدأ ما قد نسميه الإحياء الإسلامي مع بزوغ عصر الحداثة على المنطقة العربية.

فربما يمكننا القول أن اغتيال حسن البنا في 1949 كان يمثل محاولة أولى لإقصاء السلفية الإحيائية التي أطلت برأسها في عالم السياسة. كذلك، فبالقطع نجح جمال عبد الناصر في إقصاء الإخوان المسلمين بالعنف والدم، مرة في 1954، ومرة أخرى، تأكيدية، في 1965.

من ناحية أخرى، ضرب حافظ الأسد الإخوان بوحشية في الثمانينات، وذلك قبل أن يجهض الجيش الجزائري المسار الديمقراطي للبلاد في مطلع التسعينات خوفًا من تمكين جبهة الإنقاذ الإسلامي التي فازت فوزًا كاسحًا في الانتخابات البرلمانية. وبعد ذلك بحوالي عقد، في 1999-2001، أقصى الرئيس السوداني عمر حسن البشير رفيق دربه حسن الترابي عن السلطة، بعد أن ظلا حليفين لمدة عشر سنوات.

كل ذلك كان متزامنًا مع حروب أمنية واستخباراتية صغيرة ومتوسطة ضد الإسلاميين الجهاديين في مختلف الدول العربية، حروب دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية من بعيد لسنوات، ثم شاركت فيها مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

لكن الإقصاءات المتكررة لم تنجح في تهميش الحركات الإسلامية، معتدلة وجهادية، بل أنها كانت – الحركات الإسلامية – ترجع دائمًا إلى الساحة كبؤرة معارضة أساسية لنخب الحكم العربية في زمن ما بعد تصفية الاستعمار، وذلك بالذات في المرحلة منذ نهاية السبعينات وإلى يومنا هذا. التغيير الوحيد الذي كان يتم بين دورة إقصاء وأخرى هو حدوث بعض التحوّر في تكوين وخطاب واستراتيجيات الحركات الإسلامية تأثرًا بالتجربة واستجابة للظروف الجديدة.

فهل الإقصاء هذه المرة مختلف؟

فجوة زمنية

هناك أوجه شبه بين عالمنا اليوم وعالم ما بين الحربين العالميتين، خاصة في منطقتنا العربية. يمكنني أن أصف أيامنا هذه، تمامًا كتلك الأيام، كـ”فجوة زمنية” بين عصرين. حيث يتفسخ القديم تمامًا وتزكم الأنوف رائحة عفنة، بينما الجديد لم يولد بعد، بل غير قادر على أن يولد.

في النصف الأول من القرن العشرين، بين الحربين العالميتين، كانت موجة الثورات العمالية الجذرية قد هُزمت، مخلفة وراءها اليأس والفزع، والفاشية، في حين أن الرأسمالية لم تكن مؤهلة لأن تستعيد حيويتها، إلى درجة أنها دخلت في 1929 في نفق أكبر أزمة اقتصادية واجهتها في حياتها حتى يومنا هذا. هذا كان عصر الفجوة الزمنية بامتياز: الحاضر يتعفن بقسوة، والمستقبل لا أفق له. وقد احتاج الأمر إلى ما يقترب من ثلاثين عامًا، وحربًا عالمية ضروسًا، هي الأكبر في تاريخ الإنسانية، حيث قتل أكثر من 40 مليون إنسان في خمس سنوات، حتى تستعيد الرأسمالية حيويتها واستقرارها بعد أن شربت دماء ملايين البشر.

في أيامنا هذا، وبدرجة أقل من الدرامية، تتأزم الرأسمالية ويزيد الإفقار، خاصة في أطراف العالم الاقتصادية، وعلى رأسها منطقتنا، وتتعفن أنظمة حكم ما بعد الاستعمار التي قادتها النخب العسكرية والحزبية القومية، برطانها الخطابي الأجوف، وهزائمها الواقعية المدوية، فتندلع سلسلة من الثورات تفتح الباب المشرق للأمل لوهلة، ثم تُهزم الثورات هزائم مؤلمة دامية، ليُغلق باب الأمل ويفتح باب الجحيم، باب “الفجوة الزمنية”، باب عصر الألم والدموع والدم، عصر القتال بلا أمل، والقتل المجاني، والجنون، والعبثية. فحيث لا يوجد مستقبل، تكون أفعال الحاضر محض انتقام، أو عبث، أو مزيج بين بين.

في هذا السياق الصعب، علينا أن ننظر في حاضر ومستقبل الحركات الإسلامية بأنواعها المختلفة.

نحتاج هنا أن نذكر أنفسنا بمعنى وطبيعة حركات الإحياء الإسلامي الحديثة. إذ ولدت تلك الحركات كاستجابات “إسلامية” متنوعة لأزمة الحداثة المفروضة قسرًا على أسنة رماح الاستعمار.

المشكلة التي حاول الإحياء الإسلامي، بأنواعه المختلفة، حلها لم تكن بالأساس استعباد الإنسان، أو القهر المفروض عليه، أو استبداد السلطة، أو حتى القهر الوطني، بل الهجمة على الإسلام، والخطر الماثل على “تراثنا” من قبل المستعمر الغربي، وهو ما يعني أن البعد الوطني، وكذلك البعد الإنساني التحرري، كان خاضعًا للبعد الهوياتي في الفكر الإسلامي الإحيائي. هذا هو الحد المحافظ الذي يحد الإحياء، حتى في أكثر صوره إصلاحية. فلأن الجذر التاريخي للإحياء كان دفاعيًا محافظًا، أي مستمسكًا بالتراث في مواجهة المخاطر التي تهدده، فإن مساره العملي كان أصوليًا بهذه الدرجة أو تلك، أي معتبرًا أن الماضي، وليس الحاضر والمستقبل، هو المرجعية، وذلك على خلاف الإصلاح الديني الأوروبي الذي نشأ هجوميًا، على الأقل في صوره الأكثر جذرية.

هذا الجذر الهوياتي المحافظ للحركات الإسلامية الحديثة هو ما يفسر دفاع كثير من الإسلاميين عن الخضوع لـ”استعمار الدولة العثمانية” في الوقت نفسه الذي كانوا يناضلون فيه ضد “الاستعمار الغربي”، وهو أيضًا ما يفسر تعاون كثير منهم مع سلطات استبدادية حاكمة طالما تقبلت مشروع الخلافة الإسلامية، وهو كذلك ما يشرح السبب وراء اتفاق الفكر الإسلامي، الإصلاحي والجهادي على حد سواء، على رؤية أداتية لعلاقة الإسلام بالحداثة، حيث “نسمح” للحداثة بالاندماج في الإسلام طالما كان الأمر يتعلق بالوسائل والأدوات، وحيث “نقاتل ضد” الحداثة إذا ما تعلق الأمر بالأصول والغايات كما يقررها النص الديني؛ كل ما هنالك أن السلفية الإصلاحية والسلفية الجهادية تختلفان في درجة مرونة تأويل النص.

لا شك أن الفرق بين السلفية الإصلاحية والسلفية الجهادية كبير ومهم. فهو ليس مجرد فرق فكري، بل سياسي اجتماعي. إذ ربما تناسب البراجماتية الإصلاحية شرائح حديثة من الطبقات الوسطى الصاعدة لا تريد الصدام، بل تريد رتوشًا دينية على حياتها الحديثة، بينما تناسب العقائدية الجهادية شرائح أخرى فقدت صبرها على آلة السحق البرجوازية وتريد نسف العالم نسفًا.

لكن رغم هذا الفرق، فإن ما يعنيني الآن هو التأكيد على أن نقطة الالتقاء بين السلفيتين هي الاضطراب والتناقض والتقلب، الاضطراب الذي ربما يكون مرجعه الأخير تقلب القوى الاجتماعية الوسيطة والمتذبذبة التي يمثل الحل الإسلامي المطروح عمليًا مطامحها ومخاوفها، أملها وغضبها، في اللحظة نفسها. فهذا مشروع جذره الاجتماعي نفسه متناقض مع نفسه، وشرائحه متعددة، وتأثره بتقلبات التوازنات الاجتماعية والسياسية كبير؛ هذا مشروع اجتماعي ليس مستقلًا ولا جادًا حتى النهاية، رغم كل الضجيج؛ هو المشروع الذي يظهر إلى الأضواء فقط عندما تفشل، أو تستحيل، المشاريع الأكثر أصالة واتساقًا من الناحية الطبقية.

هذا بالضبط ما يجعل عصر الفجوة الزمنية، وعصر مقدمات الفجوة الزمنية الذي نعيشه منذ انهيار مشروع الدولة الوطنية في 1967، هو العصر الأمثل لمثل تلك المشاريع. حيث تتمدد الذهنية المضطربة التلفيقية لتملأ المشهد، سواء في صورة الحل الأخلاقي المحافظ الأجوف الذي يقدمه الإخوان المسلمون، أو في صورة الحل الديستوبي (مضاد اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة) الرجعي الدموي الذي يقدمه الإسلاميون الجهاديون، لأزمة عصر ما بعد انهيار الدولة الوطنية وريثة الاستعمار. حلان يمثلان انعكاسًا للأزمة وتغذية لها رغم الاختلاف الكبير البادي بينهما. إذ تلعب الهوية الدينية بمعناها السلفي في الحالتين دور الناظم للتفكير والفعل، بما يضمن استمرارية فكرة الفسطاطين، أي فكرة تقسيم العالم إلى جماعة من المؤمنين وجماعة من غير المؤمنين، وهي فكرة رجعية في نهاية المطاف، مهما حاول أصحابها تجميلها.

إعادة إنتاج الإسلاميين

والآن، فإن الحركات الإسلامية تعيش عصر الفجوة الزمنية مكتملة الأركان، حيث هُزمت الثورات، وحيث استفحل تعفن دولة ما بعد الاستعمار، وحيث تفاقم الجنون واليأس. لا شك أن سياقًا كهذا لا يبشر بنهاية زمن سياسات الهوية، بل على العكس، فإن أيامنا هذه تشجع كل صنوف اليأس وسياسات اليأس، ومنها سياسات تقسيم الناس إلى فسطاطين، إلى نحن وهم، حيث تحارب الأنا آخرًا على الهوية، وليس على السياسة أو الموقع الاجتماعي.

الأهم من ذلك أن مشروع إدماج الإسلاميين وتهذيبهم، الذي كانت تبشر به ثورات سياسية تهدف إلى إرساء قواعد الديمقراطية السياسية، أصبح ماضيا بعيدا. أما المستقبل، فيحمل انغماسًا أكبر في الروح الطائفية الهوياتية، حيث الهوية لا تعود حتى على جموع المسلمين بتنوعهم، بل تعود إلى “جماعتنا” نحن، إلى طائفتنا، أي تنظيمنا المغلق ذي الطقوس شبه الماسونية التي تضمن كونه نتوءًا في المجتمع وليس تيارًا منغمسًا في مجراه.

إذن فمن الحمق اعتبار أن عصر الإسلاميين قد ولّى، بل إن في انتظارنا عصرًا إسلاميًا جديدًا، قوامه درجة أكبر من العزلة عن الحركات الاجتماعية والسياسية الأخرى، درجة أكبر من العبثية والبؤس والجنون، أي درجة أقل من الاعتدال الإسلامي وأكبر من المفاصلة مع المجتمع والحياة.

مفتاح الخروج من عصر سيادة المعارضة الإسلامية الهوياتية هو نفسه مفتاح الخروج من عصر الفجوة الزمنية. المؤسف أن الخروج من فجوة ما بين الحربين الزمنية كان ثمنه إزهاق ملايين الأرواح، ونتيجته إعادة تأسيس الرأسمالية الليبرالية المنتصرة. هذه المرة، خاصة وأن الأزمة ممتدة زمنيًا ومكانيًا، ربما يكون من حقنا أن نحلم أن طريق الآلام الطويل الذي سنعبره في السنوات القادمة سيفضي إلى مخرج آخر أكثر إنسانية.

لكن هذا يحتاج منا البحث عن ركائز الأمل في عصر الأزمة الراهن، مهما ضؤل حجمها وقل شأنها.