مات جعفر الصادق فتشظّى الجسد الشيعي الإمامي. هكذا شكلت وفاة الإمام جعفر الصادق (الإمام الخامس لدى الشيعة الإسماعلية والسادس لدى الشيعة الاثنا عشرية) سنة 765 للميلاد بداية التشظي في الجسد الشيعي الإمامي (الكتلة الشيعية الأكبر)، إذ أنه مات بعد ابنه إسماعيل (جد الإسماعليين) الذي كان قد نص على إمامته للشيعة من بعده، ليثير هذا الموت تساؤلات كبرى في أذهان أتباعه من الشيعة الجعفرية (نسبة إلى جعفر الصادق) حول كيفية قيام الإمام المعصوم جعفر الصادق الذي تتولاه الرعاية الإلهية بالوصاية بعهده لشخص سوف يموت قبله.

لكن الاثنا عشرية الذين لا يعترفون بإمامة إسماعيل ضمن سلسلة أئمتهم الاثنا عشر، يجادلون في شأن هذه الوصية ويقولون بأن إسماعيل قد حرم من حقوق الولاية بسبب تورطه في شرب الخمر مما دفع أباه لخلعه وتنصيب الإمام موسى بن جعفر الصادق في مكانه [1].


ولادة الإسماعيلية

تولد عن هذا الانشقاق ولادة الكتلة الشيعية الثانية من حيث عدد المعتنقين لمذهبها، وهي الطائفة الإسماعلية التي نظمت حركة ثورية في منتصف القرن التاسع معادية للعباسيين (الذين – من منظورهم – قد اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة الزهراء على غرار الأمويين)، ليؤسسوا ما أسموه «الدعوة الهادية» التي نشطت في شمال إفريقيا والشام وفارس وآسيا الوسطى، مؤسسة بذلك عام 909 للميلاد أول خلافة شيعية في العالم، متخذة لنفسها اسم «الخلافة الفاطمية»، ومنافسة بذلك الخلفاء السنة العباسيين الذين كانت قبضتهم قد بدأت تتراخى على البقاع الإسلامية بفعل كثرة الثورات الشيعية ضدهم، وانقلابات العسكر الأتراك وقتلهم وخلعهم للخلفاء العباسين السنة.

لكن بوفاة الخليفة الفاطمي الثامن، المستنصر، سنة 1094م، انقسم الإسماعيليون بصفة دائمة إلى فرعين، وهما: النزارية، والمستعلية، وهي تسميات مشتقة من اسمي ولدي المستنصر اللذيْن زعما وراثته. فقد أصبحت الخلافة موضع نزاع بين نزار، ولي عهده الأصلي، وبين الابن الأصغر أحمد الذي تلقب بالمستعلي، وهو الذي وقفت معه الجيوش الفاطمية والكثير من قادة الدعوة الإسماعلية.

وحاول نزار أن يسترجع الحكم من أخيه لكنه قُتل في عام 1095م، ليدافع الإسماعيليون الفرس عن حقه في الإمامة، وينشأ شيخ الجبل وزعيم الحشاشين «الحسن بن الصباح» في فارس وسوريا (الطائفة الشيعية النزارية) التي ستصير فيما بعد (الأغاخانية).[2]


الشتات العظيم

اتخذ حسن الصباح من قلعة ألموت المشهورة حصنًا لدولة النزارية الإسماعلية التي كانت تتبع إستراتجية الاستيلاء على الحصون والقلاع في سوريا وبلاد فارس، لكنها واجهت عقبة كأداء متمثلة في حكم السلاجقة الأتراك لهذه المنطقة قبل أن يقضي على ما تبقى من نفوذ إسماعيلي الاجتياح المغولي العنيف للمشرق،لكنهم حافظوا على بقائهم ودخل أئمتهم في مرحلة التستر والكمون، وفقدوا اتصالهم بأتباعهم لينوب عنهم في التواصل مع شيعتهم قادة محليون يحملون ألقاب «البير» و«المير».

لكن الانعطافة الكبيرة في تاريخ الإسماعيليين النزارين كانت في منتصف القرن التاسع عشر حين انتقل مقر الإمامة من فارس إلى الهند على إثر تحول الكثير من الهندوس إلى مذهبهم وبعد وفاة الإمام النزاري الخامس والأربعين «الشاه خليل الله» سنة 1817م، تولى ابنه الأكبر «حسن علي شاه» مقاليد الإمامة، فقام الملك القاجاري حاكم فارس بتعيينه حاكمًا على مدينة «قم» المقدسة لدى الشيعة وزوّجه إحدى بناته ولقبه بلقب تشريفي وهو (الأغا خان)[3] بمعنى المولى والسيد.

لكن التوترات بدأت تعصف بالعلاقات الأغاخانية والبلاط القجاري وصولا إلى الصدام العسكري عام 1840م؛ تولى قيادة الأغاخانية فيه أخوة الإمام الأغاخان «سردار أبي الحسن خان» و«محمد باقر خان» لكنهم منوا بهزيمة كبيرة دفعت الأغاخان للهروب إلى أفغانستان، وإلى فرسانة تحديدا، لتبدأ علاقة الأئمة الإسماعيليين مع الراج البريطاني (النظام الاستعماري البريطاني في الهند) لينتقل الأغاخان إلى إقليم السند في باكستان (التي يلعب فيها الإسماعيليون دورا حيويا في الحياة السياسية والعسكرية والعلمية في الوقت الحالي) قبل أن يستقر الأغاخان الأول في مدينة بومباي سنة 1884 للميلاد.


الرخاء الإسماعيلي

يمكن التأريخ لمرحلة الرخاء الإسماعيلي بحط رحال الأغاخان الأول في مدينة بومباي الهندية (عاصمة الأئمة الإسماعليين فيما بعد)، فقام بإنشاء مقر للإمامة بالإضافة إلى مساكن لرجال الدعوة المقربين وقيادتها، وكذلك مسجد عرف في الهند بـ«الجماعة خانا»، أي «بيت الجماعة»، ونسج علاقات قوية مع الحكم البريطاني الذي وفر له الحماية والانتشار الأفقي والعمودي في الهند وخارجها، وحدد الهوية الإسماعيلية النزارية المتميزة عن باقي الهويات، كطائفة البهرة الإسماعلية الصغيرة التي تستوطن الهند أيضًا.

وتوفي الأغاخان الأول سنة 1881م، ليتولى الإمامة من بعده ولده «الأغا علي شاه» الذي قاد الإسماعيليين لمدة أربع سنوات كرسها كلها لرفع المستوى التعليمي للطائفة وربطها بالقيادة المركزية المتمثلة في الأغاخان، فبدأ بفتح خط الاتصال مع أبناء طائفته خارج القارة الهندية في آسيا وإفريقيا، وتوفي عام 1885م ودفن في مدينة النجف الأشرف، ليخلفه ولده الوحيد «محمد شاه»، الأغاخان الثالث الذي قضى في الإمامة 72 سنة كاملة كأطول فترة أغاخان.


الإصلاحات الإسماعليية

عزّز الأغاخان الثالث دور المرأة في شئون الجماعة الإسماعيلية، ومشاركتها، وأنشأ شبكات جماعاتية بصورة هرمية مكونة من مجالس ترعى شؤون أفراد الطائفة، ووضع في عهده الدستور الإسماعيلي، الذي ينظم الأحوال الشخصية لأبناء الطائفة في العالم، ووضع النواة الأولى للمشاريع التنموية للأغاخانية حول العالم بالإضافة إلى شبكة كثيفة من المدارس والمعاهد المهنية والمشافي والنوادي الرياضية في القارة الهندية وشرق إفريقيا.

وقد توفي الأغاخان الثالث «محمد شاه» في عام 1957م في جنيف، قبل أن ينقل جثمانه إلى ضريح شُيد له في مدينة أسوان المصرية بعد أن أوصى بالإمامة من بعده لحفيده «محمد كريم»، الأغاخان الرابع، المؤسس الحقيقي للأغاخانية وصانع أحد أكبر لوبيات الاقتصاد والثقافة في العالم، وهو الذي سنتناول مسيرته التنموية ودوره في تطوير الطائفة الإسماعلية وتحويلها إلى أقلية مسلمة متعلمة ومؤثرة في الجزء الثاني من هذه السلسلة.


[1] فرهاد دفتري، الإسماعلييون تاريخهم وعقائدهم، ص171، ترجمة سيف الدين القصير،دار الساقي.[2] فرهاد دفتري، تاريخ الإسماعليين الحديث الاستمرارية والتغيير الجماعة مسلمة، ص 28 و29، ترجمة سيف الدين القصير، دار الساقي.[3] فرهاد دفتري، نفس المصدر السابق، ص 33.