يبدو الرهان على القصة القصيرة في «زمن الرواية» رهانًا صعبًا، لا سيما في الوقت الذي تصل فيه الروايات اليوم إلى جوائز عربية مختلفة، تبقى حتى قوائمها الطويلة والقصيرة مثار حديث الناس لفترات طويلة، ويبدو أن بعض الكتّاب أحبوا أن يخوضوا هذا الرهان، مبتعدين بأنفسهم وكتابتهم عن فوضى وزخم الرواية، قاصدين أن يأخذوا قراءهم إلى مناطق أخرى أكثر هدوءًا واستقرارًا، وأدعى إلى التأمل.

أقصد بذلك عددًا من الكتاب ـ تحديدًا الروائيين ـ الذين عرفهم البعض من خلال رواياتهم، وقرروا أن يعرفوا القراّء على رحابة عالم القص وخصوصيته، وذلك من خلال كتابة قصص قصيرة يمكن أن تجتمع كلها لافي غلاف واحد، ولكن في روحٍ واحدة وفي خيطِ يضمها جميعًا يجعلها «متتالية قصصية» تجمع بين ترابط أجزاء الرواية وما في القص من خصوصية وتميّز.

وليست المتتالية القصصية أمرًا جديدًا في الكتابة الأدبية، فقد قدمها «إبراهيم أصلان» منذ وقتٍ مبكِّر في عددٍ من مجموعاته القصصية التي كان آخرها (حجرتان وصالة) التي سمّاها «متتالية منزلية»، وكذلك فعل «محمد المخزنجي» في مجموعتيه «سَفر»، و«أوتار الماء»، ومؤخرًا أصدر الروائي «عمرو العادلي» متتالية قصصيّة حملت اسم «عالم فرانشي» تدور كلها حول عالم الطفولة وأحلامه.

من تلك المتتاليات القصصة «السهو والخطأ» التي صدرت مؤخرًا للكاتب «حسن عبد الموجود» والتي نكتشف منذ قراءتنا لأوائل القصص فيها أن ثمّة روحًا واحدة تسكن هذه القصص وتؤرّق عالم كاتبها، إذ تبدو القصص رغم اختلافها مسكونة بهاجس الاغتراب والوحدة، مهمومة بالتصدي لعالم المدينة أولاً ذلك العالم القاسي الذي يغيّب الروح ويجعل الفرد فيها مسلوب الإرادة ضائع الهويّة، ولعل قصص هذه المجموعة تطرح تصورًا جديدًا وفريدًا للمدينة من منظورٍ مختلفٍ عما تطرحه الروايات طوال الوقت، ويستغل من خلالها الكاتب طرائق كتابة القصة وقدرتها على التكثيف في عرض وجهة نظره من أكثر من زاوية.

اقرأ أيضًا: المدن العربية في الأدب ..نحو تحليل معماري للرواية

والعالم الذي يتناوله «حسن عبد الموجود» في المجموعة ليس عالمًا واقعيًا بسيطًا، بل هو على قدرٍ كبير من الغرابة والتعقيد، يدور فيه الفرد بين أماكن مألوفة معتادة ولكنه يفاجأ في كلٍ منها بحالاتٍ استثنائية فانتازية، ربما بدا بعضها عاديًا ولكن بعضها الآخر شديد الغرابة والاختلاف، إذ نجد البطل مرةً يبحث عن نفسه وانعكاس وجوده على الآخرين في «السكر في فراغات الشاي» وفي قصّة أخرى يواجه الآخر/زوجته منقسمة إلى اثنتين في «السهو والخطأ» وتأتي المواجهة أكثر صراحةً ومباشرةً في «تمرين على رفع اليدين».

كنوعٍ من النكاية في المدير قررت أن أبدأ تدوين بعض قصصي على جهازي، قررت أن أضيَع جزءًا لا بأس به من الوقت في هذا، وأنا أعلم أنه يراقب أجهزتنا يستطيع من خلال برنامج معيّن أن يرى ما نتصفحه على قلّته، قررت أن أكتب قصةً بعنوان «أسباب لكراهية المدير» كانت مباشرةً وانتقامية، ولكنها جيدة بمعايير الجودة التي قررتها وفق خبرتي وقراءاتي، قرأت مرة حوارًا لكاتبٍ يقول إن الانتقام يخرج الأدب عن مساره، ولكن هذا غير صحيحٍ بالنسبة إلي، فأنت تستطيع أن تسيطر على كل مشاعرك السلبية وتضعها في قالبك المصنوع .. كنت متأكدًا أنه يقرأ القصة بصوتٍ عالٍ، وكنت أستمتع بعدم القفز من صفحةٍ لأخرى لأمنحه مزيدًا من الوقت في قراءتها.

ولكن السحر ينقلب على الساحر، وفي الوقت الذي يسعى فيه البطل للإيقاع بمديره يفاجأ بإعلان عن مطعم يقدّم خدمة فريدة هي خدمة «عدم الاستجابة» كل ما يقدمونه لك هو أنهم يشعرونك بالوحدة، فمهما رفعت يدك وطلبت منهم لا يستجيبون لطلبك! وهكذا يتحوَّل الفرد طواعيةً إلى الوحدة حتى في ظل وجود محيطين يُفترض أن يخدموه!

يزداد شعور البطل بالاغتراب، ويسعى جاهدًا لمواجهة ذلك العالم الذي يسحقه ويقضي على شخصيته تدريجيًا، حد أنه في «ثمانية رءوس» تتحوّل شخصياته التي يقابل بهم الناس ويواجه من خلالها العديد من المواقف إلى «رءوس» يكون باستطاعته أن يستبدلها كلما احتاج إلى ذلك! في صورةٍ فانتازيةِ شديدة السواد، ولكنه يحكيها ببساطة وبشكلٍ عادي يجعل القارئ على استعدادٍ تامٍ لتقبلها والتعامل معها باعتبارها حقائق ومسلّمات، ولعل هذا أكثر ما يميّز قصص المجموعة.

لا يُفلت الفرد في كل قصص المجموعة من شعور الاغتراب والاستلاب، حتى تصل تلك الحالة إلى قمتها بشكلٍ فانتازيٍ فريد في قصة (جماعة النباتيين المتطرّفة)

لم تكن لديهم أسماء، وإنما أرقام، كل واحد يحمل رقماً، من 1 وحتى آخر مولود، وحينما كان يولد طفل، كانت الشاشة التي تعلو مبنى المناسبات في وسط المدينة تزيد رقماً، وكانت المدينة تطفئ أضواءها حينما يستسلم أحدهم للموت، وفي اليوم التالي تعود الأضواء وتعود اللوحة ناقصة رقماً. احتاجت البشرية إلى آلاف السنين لتصل إلى اليقين، وبالتالي إلى السعادة، ومهما قيل عن حاجتها للعمل والفنون فهذا لا يهم أمام سعادتها، فما الحاجة إلى ما يجلب الضغوط. هنا لا سلطة لأحد فوق أحد، كل شيء يتم ببساطة، وإذا حدث وخلا رقم بموت صاحبه يكون الرقم من حق العائلة ذاتها، وخلال مائة سنة على الأقل لم ينتقل رقم خارج عائلة سوى مرتين، حيث توقف أحفادهما الذين صاروا رجالاً عن الإنجاب، وبالتالي ظلت العائلتان ذكريين في ألبوم صور المدينة بدار المناسبات. الخلافات تم وأدها في ماض بعيد، حينما كان البعض يصارع فكرة الكسل ليتحدث طارحاً أفكاراً خاصة، فحينما اقترح أحدهم أن يحصل على الأرقام المميزة أكبر الرجال والنساء في المدينة اعترض الباقون، فهذا يعني تغيير نمط كامل، ويعني خلو أرقام الكبار بالتبعية، وإحساسا بأن الكبار أهم من الصغار، مع أن الصغار أمل البشرية في مواصلة سعادتها.

ولا تقتصر عوالم المجموعة على الفانتازية أو الطرح الخيالي للمواقف والأحداث الواقعية، بل تحضر الأشباح أيضًا، ولكنه حضور خاص غير مخيف ولا غريب في أجواء بعض القصص، مثلما يقدّمه «حسن عبد الموجود» في (شبح الفول الأخضر) الذي يتعامل فيه الجيران مع الشبح على أنه أمر معتاد يحبون مقابلته وينتظرون حضوره، أو الشبح المختلف تمامًا الذي يخاف أن يراه الآخرون ويرصدون حركته في (أربعة مقاعد لضيفٍ وحيد)!

وهكذا استطاع الكاتب أن يطوف على عددٍ من الأفكار شديدة التميّز والخصوصية وأن يقدّمها في متتالية قصصية تتسم بسرد خاص وتحوي عالمًا خاصًا، كما يجد القارئ أن أفكار بعض القصص وقدرتها السردية ربما تحوي داخلها أفكار رواية قصيرة كان من الممكن أن يضيف إليها المزيد من التفاصيل، لاسيما أن «حسن عبد الموجود» صاحب تجارب روائية متميّزة، ولكن يبدو أنه آثر أن تخرج تلك الأفكار على هيئة مجموعة قصصيّة مكثّفة على نحو ما رأينا، وقد نجح في تقديم ذلك إلى حدٍ بعيد.

تجدر الإشارة إلى أن «حسن عبد الموجود» بدأ حياته الأدبية بمجموعة قصصية «ساق وحيدة» لفتت إعجاب النقاد ونالت استحسانهم، كما حاز على جائزة ساويرس في الرواية عن روايته «عين القط» عام 2005.