جاءت إشارة مرشح المعارضة في انتخابات الرئاسية التركية، كمال كيليتشدار أوغلو، إلى انتمائه إلى الطائفة العلوية في تركيا لتفجر جدلًا كبيرًا حول وضع الطائفة في تركيا. فقد نشر كيليتشدار أوغلو مؤخرًا مقطع فيديو له على تويتر قال فيه: «الوقت حان لأناقش معكم موضوعًا خاصًا وحساسًا جدًا… أنا علوي، أنا مسلم مخلص»، وحصد الفيديو أكثر من 100 مليون مشاهدة في ثلاثة أيام، رغم أنه لم يذع سرًا بهذا القول، لكن الجديد هو التصريح بهذا الأمر علنًا على غير المعتاد. ووعد كيليتشدار أوغلو بوضع حد للخلافات الطائفية المؤلمة كونه سوف يصبح أول رئيس علوي لتركيا في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية المقررة في 14 مايو/أيار بالتوازي مع الانتخابات التشريعية.

يهدف كيليتشدار أوغلو إلى إقامة تحالف من الأقليات ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي اتخذ في السنوات الأخيرة اتجاهًا متزايدًا نحو تبني القومية التركية. لذا فإن مرشح حزب الشعب الجمهوري الذي هو حزب المؤسس مصطفى كمال أتاتورك، الأب الروحي للقومية التركية العلمانية، يتجاوز الإرث التاريخي لحزبه محاولًا اجتذاب أصوات الأكراد والعلويين.

يشكل كيليتشدار أوغلو (74 عامًا) تهديدًا جديًا لاستمرار حكم الرئيس رجب طيب أردوغان (69 عامًا)، نظرًا لاصطفاف المعارضة التركية هذه المرة خلف كيليتشدار أوغلو، في وقت تعاني فيه تركيا أزمة اقتصادية حادة تتمثل في ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 40% ونسبة البطالة إلى نحو 10%، علاوة على تبعات كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وراح ضحيته أكثر من 50 ألف شخص في تركيا وحدها.

في وجه محاولة كيليتشدار أوغلو استخدام سياسات الهوية ذات الحساسية في تركيا، رد وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، المنتمي لحزب العدالة والتنمية على مرشح المعارضة، متهمًا إياه بمحاولة إظهار نفسه كضحية للتمييز الديني. وقال صويلو: «لسنا نحن الذين نقول إنه لا يمكن انتخاب علوي. ليست هذه مشكلة بالنسبة لنا، تغلبنا على كل ذلك». كما بعث أردوغان أيضًا برسائل انتخابية سلط فيها الضوء على سجله الحافل بالخطوات الإيجابية تجاه العلويين.

مجتمع العلويين في تركيا

ينقسم العلويون إلى قسمين: العرب الذين يتركزون في محافظة هاتاي والمحافظات القريبة منها، وعلويو الأناضول الذين يتوزعون على أنحاء البلاد وينتمي بعضهم إلى العرق الكردي وبعضهم إلى التركي.

وتصل نسبة العلويين مجتمعين إلى 5% من السكان وفق مركز دراسات كوندا، بينما يبلغ تعداد سكان تركيا نحو 85 مليونًا، في حين يقدر عز الدين دوغان، رئيس مجمع العلويين، أعدادهم بما يتراوح بين 25 و30 مليونًا من جملة السكان.

وبموازاة هذه الخطوط العرقية، تتمايز عقائدهم، فعلويو الأناضول متأثرون بالطريقة الصوفية البكداشية، ويتعبدون بالتركية ويُشركون نساءهم في شعائرهم، بينما لا يفعل ذلك إخوانهم العرب الذين يختص رجالهم بالمسائل الدينية كالعلويين السوريين، وكانوا يُعرفون أيضًا بالنصيريين نسبة إلى محمد بن نصير، أحد تلاميذ الإمام الهادي الإمام الحادي عشر لدى الشيعة الإمامية، لكن لقي استخدام مصطلح «علوي» رواجًا في العصر الحديث كسبيل للتخلص من الدلالات السلبية التي التصقت بكلمة «نصيري» عبر التاريخ، وعمومًا يكتنف الغموض معتقدات الطائفة على اختلاف تفرعاتها.

كما أن هذا التقسيم له علاقة بمسألة حساسة أخرى وهي قضية لواء الإسكندرون الذي يضم قطاعًا كبيرًا من العلويين العرب وتم ضمه لتركيا عام 1939 بمساعدة من الانتداب الفرنسي وتسميته «محافظة هاتاي». ويرفض النظام السوري الاعتراف بهذا الضم حتى اليوم ويدعم ميليشيا علوية مسلحة ينتمي مسلحوها إلى تلك المنطقة تُسمى «الجبهة الشعبية لتحرير إسكندرون» يتزعمها علي الكيالي المعروف بـ«جزار بانياس»، وهو يقاتل مع الميليشيات الإيرانية في سوريا منذ سنوات ضد معارضي نظام الأسد، وتعرض لعدة محاولات اغتيال وُجهت أصابع الاتهام فيها إلى المخابرات التركية. ومنذ اشتعال الأزمة السورية عام 2011، اتهم العلويون أردوغان بالرغبة في دعم سيطرة قوة سنية قريبة من حزبه على دمشق.

يشكل العلويون أهم قواعد حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارض الرئيسي، بل صار الحزب يوصف بأنه علوي بعد سيطرة أبناء هذه الطائفة على أغلبية مقاعد المجلس الاستشاري الأعلى به. ويعتنق كيليتشدار أوغلو، رئيس الحزب ومرشحه الرئاسي، مذهب «العلاهية» (أحيانًا يسمى العلي إلهية، وهو من فروع المذهب العلوي)، حيث تعود أصوله إلى منطقة ديرسم (تونجلي حاليًا) شرق تركيا وأغلبها من الأكراد والعلويين، إذ تعرضت أسرته للتهجير منها بعد مجزرة عام 1938 التي راح ضحيتها آلاف القتلى والمهجرين إثر قمع الجيش التركي انتفاضة مسلحة هناك في نهاية عهد أتاتورك.

وفي عام 2011، أصبح أردوغان أول حاكم تركي يعتذر عن الواقعة ويصفها بـ«الكارثة الدموية»، وقال إن حزب الشعب الجمهوري هو المسئول عنها لأنه كان الحزب الحاكم آنذاك.

لكن بالطبع تغيرت تركيبة حزب الشعب الجمهوري حتى أصبح اليوم تحت هيمنة العلويين بشكل كبير، فالكثير من أبناء هذه الطائفة ينتمون بسهولة إلى الأحزاب العلمانية ليس فقط لاختلافهم مع عقيدة التيار الديني الرئيسي في البلاد، بل أيضًا بسبب طبيعة عقيدتهم التي لا يُعرف اشتمالها على تعليمات دينية يُطالب أتباعها بفرضها في المجال العام.

لذا يدعم العلويون الأتراك الأنظمة العلمانية التي تحد من النفوذ السني في الدولة، كما أن العلمانية تؤمّن نوعًا من المساواة مع الأغلبية.

العلويون والعدالة والتنمية: علاقة متوترة

اتسمت العلاقة بين العلويين وحزب العدالة والتنمية بالتوتر غالبًا، وزادت تلك التوترات في خضم اشتعال الأزمة السورية؛ إذ شارك علويو الأناضول في الاحتجاجات والأنشطة المعارضة ضد الحكومة وهاجموا سياستها الخارجية تجاه سوريا، وأُطلق عليهم «جنود الأسد» لاشتراكهم في المذهب مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، كما أنهم يصرون على التمايز عن السنة لخشيتهم من مخطط مفترض لحزب العدالة والتنمية هدفه استيعاب الطائفة. ففي 2013، نظموا احتجاجات في العاصمة أنقرة رفضًا لبناء مسجد سني بجوار أحد أماكنهم المقدسة.

ويواجه أردوغان اتهامات بالتمييز ضد العلويين، ففي 2014 تم تسريب محادثة تليفونية له، اعترف بصحتها لاحقًا، يسأل فيها وزير العدل عن أسباب قرار إحدى المحاكم، ليرد عليه الوزير غاضبًا: «القاضي علوي». وهو ما اعتبرته الطائفة إهانة. وقبل هذا التسريب، نُشرت وثائق حكومية داخلية في صحيفة «تراف» تظهر تمييزًا ضد العلويين في التوظيف الحكومي.

لكن أردوغان خطا خطوات واسعة لردم هذه الهوة دون أن يحقق نجاحًا مكافئًا لهذه المساعي، فهو أول رئيس يعترف رسميًا ببيوت الصلاة العلوية «بيوت الجمع»، وإن لم يكن بصفتها دورًا للعبادة بل مراكز ثقافية. ومؤخرًا أنشأ وكالة تنسيق تابعة لوزارة الثقافة والسياحة باسم «رئاسة الثقافة العلوية البكداشية وبيوت الجمع» لرعاية شئونهم.

وفي آب/ أغسطس الماضي، زار أردوغان أحد بيوت الجمع في أنقرة، وشارك في مأدبة إفطار بمناسبة احتفال العلويين بيوم عاشوراء، وقدم حزبه مقترح قانون يشمل منحهم أعطيات مالية لتتحمل الدولة تكاليف المرافق الخاصة بمعابدهم.

كما أن هناك ملمحًا يتم إغفاله غالبًا رغم أهميته وهو أن قطاعًا مهمًا من قادة الانفصاليين الأكراد ينتمون دينيًا إلى الطائفة العلوية، فيتضامنون مع بقية أبناء الطائفة بحكم المشترك الديني، ما يخلق مركبًا كرديًا-علويًا ذا مصالح مشتركة.

وتلقى فكرة تحالف الأقليات قبولًا لدى بعض قادة المعارضة بغض النظر عن الدوافع المعلنة الممثلة في إحلال حكم الفرد بنظام أكثر ديمقراطية، ولطالما اتُهم حزب العدالة والتنمية بالتعامل مع القضية الكُردية كمشكلة علوية، واتُهم قادة حزب العمال الكردستاني بشحن الكرد خلفهم بدوافع دينية أكثر منها عرقية.

ومع تبني المعارضة في المجمل خطابًا علمانيًا، فإنها لم تيأس من محاولات اجتذاب المحافظين، لذلك حاولت خلال السنوات الأخيرة تحسين صورتها أمامهم، وضمت رموزاً مهمة من هذا التيار مثل أحمد داود أوغلو وكرم الله أوغلو، لكن يبقى التساؤل عن مدى تأثير ذلك في الناخبين المحافظين، وهل سيمنحون أصواتهم لرئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني والفخور في الوقت نفسه بمذهبه العلوي؟

فمع أن مرشح المعارضة يلقى سيلًا كبيرًا من الردود الإيجابية المشجعة من الأتراك السنة على موقع تويتر، فإنه اتُهم من جانب آخرين بتأجيج الطائفية وادعاء تمييز غير حقيقي ضد العلويين في تركيا، لكن بعد يومين من نشره الفيديو المذكور واجه هجمات لفظية من المواطنين تتعلق بهويته العلوية خلال زيارة إلى منطقة تضررت بالزلزال.

وكانت الأصوات الإعلامية لحزب العدالة والتنمية تركز على مسألة الهوية الدينية لمرشح المعارضة قبل أن يعلن عنها بنفسه لإحراجهم، بينما لمح أردوغان إلى هذا في أوائل أبريل/نيسان عندما داس كيليتشدار أوغلو بحذائه على سجادة صلاة بطريق الخطأ، فقال أردوغان: «من لا يعرفون اتجاه الصلاة يسيرون بأحذيتهم على سجادة الصلاة. سيظهر لهم الاتجاه الصحيح في 14 مايو»، في إشارة لتاريخ الانتخابات.

الأكراد: المسألة الصعبة

في المقابل، ترفض ميرال أكشينار، زعيمة حزب الجيد، الحزب القومي المتشدد وأحد الأضلاع الستة لتحالف المعارضة، بشكل صريح وواضح أي تحالف بين الحزب الكردي والتحالف السداسي، لكن إدلاء كيليتشدار أوغلو بهذا التصريح قد يعد قرينة على حدوث تفاهمات غير معلنة بينه وبين قادة حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل القوميين الأكراد.

وبالفعل، دعا تحالف «العمل والحرية» الذي يهيمن عليه حزب الشعوب الديمقراطي، القوة السياسية الثالثة في تركيا، إلى التصويت لكمال كيليتشدار أوغلو. وتتهم الحكومة هذا الحزب بأنه مرتبط بحزب العمال الكردستاني الانفصالي، واستهدفت العديد من كوادره وقادته بتهمة دعم الإرهاب. أعلن الحزب الكردي أن أهدافه تتوافق مع كمال كيليتشدار أوغلو بشأن إنهاء نظام حكم الرجل الواحد، لكن لا يُتصور أن يوفر الحزب دعمًا مجانيًا لمرشح تحالف يرفض التقارب معه دون إبرام تفاهمات حول مكاسبه من وراء هذه الخطوة.

مع العلم بأن هناك قطاعًا مهمًا من الأكراد لا يتقبلون دعم رئيس حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الذي نكل بهم وتسبب في مآسيهم عندما كان في السلطة سابقًا، ويلعب أردوغان على تلك النقطة مدعومًا بتحالفه مع حزب الهدى الإسلامي الكردي، مع كون الأخير أقل نفوذًا وتأثيرًا بكثير من مناوئيه الكرد.