يستقيل هيلموت كارينباور من عمله كمهندس تعدين ليدعم زوجته. يركب دراجته النارية وخلفه أمُ أطفاله الثلاثة، ليخوضا رحلةً طويلةً نحو مقر حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي. وصلا معًا يجمعهما إيمانٌ بقناعةٍ اكتسبها هيلموت من عمله في المناجم، إنّه بداخل المنجم لن يهُم لون بشرتك ولا دينك ولا بلد مولدك، المهم أنّك تؤدي عملك كما ينبغي لأن انهيار المنجم لن يُفرّق.

فور وصولهما يتخذ كل أفراد الأسرة مواقعهم، الزوجة أنجريت كرامب كارينباور المعروفة اختصارًا بـ«AKK» تجلس مع أعضاء الحزب، الزوج هيلموت في الجزء المخصص للضيوف، والأطفال الثلاثة أمام التلفاز يترقبون نتيجة المعركة التي تخوضها أمهم بدعمهم مجتمعين.

أخيرًا، يتحرر الجميع من الضغط، يتحول الترقب إلى دموع انتصار. تهرول كارينباور إلى شريك رحلة الوصول لتحتضنه، ولتبتدئ رحلةٌ جديدةٌ في تاريخ ألمانيا وفي تاريخ ثاني امرأة تقود الحزب الديموقراطي المسيحي، وأول رئيس للحزب منذ 40 عامًا ليس عضوًا في البرلمان الألماني «البوندستاغ».

تتمتع كارينباور بخبرة سياسية في مجالات مختلفة، ربما بسبب دراستها للعلوم السياسية والمحاماة. لكن العامل الأكبر هو تقلبها في حقول سياسية متنوعة، بدأتها بالعمل كنائبة في البوندستاغ لنصف عام سنة 1998. لكن بدعم بيتر مولر، رئيس الوزراء آنذاك ورئيس المحكمة الدستورية حاليًا، عادت لتولي العمل السياسي في ولاية زارلاند.

عملت كوزيرة لأربع وزرات مختلفة، هى السياسة الداخلية والأسرة والمرأة والتعليم والثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية والعدالة. ثم في 2011 خلفت مولر لتصبح ثاني امرأة تشغل منصب رئيس ولاية ألمانية. ثم الخطوة الكبيرة بالانتقال إلى برلين في فبراير/ شباط 2018 لتولي أمانة الحزب المسيحي الديموقراطي.


لن أكون ميركل الصغرى

جاءت لتقطع سلسلة صعود اليمين المتطرف في دول العالم. بينما تكثر الدعوات لبناء الأسوار حول البلاد تدعو هي إلى أوروبا منفتحة ومتعاونة. صرّحت بأن «ألمانيا بلد هجرة» لذا ليس من المقبول الحديث عن منع الهجرة، لكنها في الوقت ذاته تتحدث عن ضرورة تنظيم الهجرة بشكل أفضل مما كانت عليه في الماضي.

على الجانب الآخر فإنها تضع قانون اللجوء خطًا أحمر لا يجوز المساس به، معللة أن من وضعوا قانون اللجوء بالصورة الحالية وضعوه لسببٍ وجيه. لكنها ترفض تمامًا زواج المثليين، وتدعو لممارسة تضييق أكبر على الأطباء الذين يقومون بعمليات الإجهاض.

يحلو لوسائل الإعلام تلخيص سياستها بتلقيبها «ميركل الصغرى» نظرًا للصداقة القوية والتفاهم المتين الذي يجمعها بسابقتها أنجيلا ميركل. لكنها لا تبدو على طول الخط متماهيةً مع ميركل؛ فقد طالبت بإنشاء مراكز ترحيل أثناء رئاستها للوزراء في زارلاند.

كما تحدثت عن ضرورة إخضاع المهاجرين لفحوصات طبية شديدة للتأكد من سنّهم. أيضًا تدعو لفرض حظر مدى الحياة على دخول منطقة «شنجن» على المجرمين الذين ارتكبوا أي مخالفة. كما أضافت اقتراحًا بضرورة إلزام اللاجئين بخدمة عامة تطوعية لمدة عام، الأمر الذى لاقى نقدًا واسعًا في حينها.

اقرأ أيضًا: ميركل عاجزة وألمانيا على شفير فوضى سياسية

كارينباور ترفض بشدة مصطح ميركل الصغرى و صرّحت لمندوبي الحزب بأنها تمتلك شخصيةً خاصة، وليست نسخةً مصغرة من أحد. أردفت أنها أكثر محافظةً واجتماعيةً من ميركل، وأنها ستمضي في طريقها الخاص. لكنّ قربها من ميركل اجتماعيًا وسياسيًا كان هو الدافع الأكبر في اختيارها من بين المرشحين الآخرين، إذ يُعلن الحزب بذلك رغبته في المضي قدمًا في المسار الذي بدأته ميركل.

لقد قرأت الكثير عني وعن شخصيتي. «نسخة مصغرة»، «متشابهة إلى حد كبير»، أعزائي الزملاء أنا أقف أمامكم كما أنا، وكما جعلتني الحياة، وأنا فخورة بذلك.


الديمقراطي المسيحي ينتصر

فوز كارينباور الكاثوليكيّة المحافظة يشير إلى أن الديموقراطية المسيحية مازالت بها قوة لتواجه الصعود القومي المتتابع في دول العالم، والمتنامي بقوة في أوروبا ذاتها. ويدلل على صدق رأي العديد من المفكرين الكاثوليك القائلين بأن فرص نجاح الديموقراطي الورع المُتدين أكبر من فرص نظيره العلماني، وصاحب رأس المال فحسب.

يقدم الديموقراطيون المسيحيون خليطًا من الأفكار يرفضون فيه الشيوعية والليبرالية كأمور مادية، لكنّهم يتوافقون مع الرأسمالية شريطة وجود الجانب الديني الروحي ليُحجم فساد الأسواق. وتوّج فوزها أيضًا نجاح محاولات الحزب للظهور كحزب منفتح على قبول طوائف مسيحية مختلفة مثل البروتستانت.

كما يشير إلى أن الثقة ما زالت موجودة في سياسات ميركل التي سارت عليها في فترة ولايتها بتحقيق تأقلم متوازن بين رأس المال والكنيسة. مما يدلل على أن شبح الاضمحلال الذي تواجهه الديموقراطية المسيحية في أوروبا قد يتأخر كثيرًا في ابتلاع الديموقراطية المسيحية في ألمانيا.

اقرأ أيضًا: نهاية الديمقراطية المسيحية

وعلى صعيد شخصي لميركل، فإن فوز كارينبارو يعطيها نهايةً سلسلة لولايتها في 2021، فمن الصعب توقع حال الثلاث سنوات القادمة إذا كان الفائز هو منافسها ومنتقدها اللدود فريدريك ميرز، خاصةً وأن الابتسامات التي ملأت منصة الحزب قد أعطت انطباعًا عن تناغم بين الرابحين والخاسرين، إلا أنه ليس من المتوقع أن يستمر هذا الهدوء والتناغم في حزب شهد انقسامات كبيرة، وزادها أول سباق مفتوح للقيادة منذ 50 عامًا بعد عقود من صفقات الغرف المغلقة التي لم يكن لأعضاء حزب رأي فيها على الإطلاق.


ما المختلف؟

يضع العديد من المحللين آمالهم على أن كارينباور ستمثل حقبةً جديدةً في تاريخ الحزب وفي تاريخ المستشارية الألمانية حال وصولها إليها. تلك الحقبة تعتمد على جذبها لأغلبية صامتة وخائبة الأمل من الشباب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئيسية العام المُقبل. كما يعولون على هدوئها في محاولة طمأنة نصف الحزب الآخر الذي صوت لميرز.

بينما يضعها آخرون تحت مقصلة القيم التي تدعو إليها هي، قائلين إن فارق 35 صوتًا لا يمكنها من صنع شيء يُذكر، وإن إنجازها الأول يجب أن يكون إقناع من لم يصوتوا لها بأحقيتها بهذا المنصب.وفي طيات حديثها أوضحت كارينباور أنها فازت حقًا، لكنها ستكون حريصةً على ألا يشعر منافسوها أنهم خسروا. لكن هذا الحديث المؤدب لا يُغير من حقيقة الانقسامات التي أحدثتها الانتخابات في الحزب.

اقرأ أيضًا:قبل وداعها: «أنجيلا ميركل» التي لا نعرفها جيدًا

رغم بساطة تناول المحللين لشخصية كارينباور فإنها تبدو إلى الآن، بعيدةً عن التصريحات الفضفاضة، تبدو شخصيةً غامضةً غير واضحة الرؤى فيما يتعلق بالقضايا الشائكة والملفات المهمة التي تنتظرها. ويغلب الترقب على متابعي أوروبا وألمانيا من بقية دول العالم، فلم تصدر تصريحات أو تدُر نقاشات حول كارينباور أشد عمقًا من كونها «ميركل 2». إلا أن محاصرة كارينباور بهذه النظرة قد تدفعها إلى محاولات تمرد على تلك النظرة، وتبقى الأيام القادمة هى المُصدّقة أو المكذّبة للتوقعات.