هل يفترض لكمال فروض الصداقة أن يتشارك الأفراد أدقّ أسرارهم، أم ما يعدّه كل منهم فضيحة يتحمل ثمارها أو ذنوبها وحده؟

أصدرت منصة «نتفليكس» نسختها العربية من قصة «Perfect strangers» تحت عنوان «أصحاب ولا أعز» في تناقض ساخر مع العنوان الأجنبي الذي يشير إلى أن أبطال الفيلم غرباء لا مساس. بينما تساءل غالبية جمهور الفيلم على منصات التواصل الاجتماعي عن جدوى إصدار نسخة عربية بلا تغيير يذكر في السيناريو أو في غالبية المشاهد. تكمن الفكرة في كونه تقليداً متّبعاً في السينما أن تصدر نفس النسخ من القصة بهويّات وإنتاج مختلف، فالنسخة العربية المذكورة هي بالتحديد النسخة التاسعة عشرة من نفس القصة وتتنوع ما بين الإيطالية والروسية واليابانية. أمر يعلمه محبو السينما، فالفكرة أشبه بمباراة فنّية على غرار «من فعلها أفضل؟».

ياما في السينما يا حاوي

بحثاً في تاريخ السينما، يمكننا تأكيد الفكرة المشار إليها من قبل بأمثلة بسيطة، كثير من محبي السينما الأمريكية قد يتعرفون ببساطة إلى فيلم «You’ve got mail» بنسخته المحببة إلى القلب من بطولة «توم هانكس» و«ميج رايان»، وقليل منهم يعلم أن الفيلم هو في الأصل نسخة عن نفس المحتوى صدرت تحت عنوان «The shop around the corner» من إنتاج عام 1940، ونادراً من يعرف بأن هناك نسخة ثالثة من الفيلم أنتجت عام 1949 بعنوان «The good old summertime»، فهل كانت النسخ تقليلاً من شأن القائمين بها؟ وإن عدّ رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيلمنا محل الحديث مجرد نسخة «مدبلجة» عن أشهر نسخ الفيلم– الإيطالية – فما رأيهم في القصة التي أنتجت مرات ثلاث بنفس اللغات، وقد أضاف أبطال الأفلام كلهم إلى الدور طبعة لا تنسى، حتى مع تكرار المشاهد بحذافيرها، مراعاة بالطبع لسنوات إنتاج الفيلم والخلفية التاريخية من حاجتهم لبعض تغييرات تخص التكنولوجيا الحديثة وما شابه. الأمر لعشاق السينما أقرب لاهتمام أثير أو تساؤل حول «كيف سيؤديها فلان؟»، تماماً كعشاق الأدب، المتوحدين مع شخصية روائية ما وفضولهم في مراقبة أداء الممثلين وربطها بمخيلتهم الشخصية حين الإعلان عن تحويل العمل الأدبي إلى عمل درامي. يمكننا بالطبع إفراد المزيد من المقارنات والشواهد على فكرة تكرار نسخ الأعمال الدرامية لنفس السيناريو، لكن هذا ليس المجال هنا.

لا ملائكة هنا

يجتمع أبطال الفيلم، والذي نكتشف من الحوار فيما بعد أنهم أصدقاء قدامى تعود معرفتهم إلى أيام الجامعة، واتسعت الصحبة حتى ضمّت زوجاتهم فيما بعد، في ليلة خسوف القمر يجتمعون على العشاء، وفي لحظة ملل تتبع بدايات اختلاف بين الأزواج، تقترح إحداهن أن يمارسوا لعبة ما مثيرة لتلطيف الأجواء، تضفي شروط اللعبة بأن يضع كل منهم هاتفه على الطاولة تحت عيون الجميع، علماً أن عليه الرد على كل مكالمة أو رسالة أو بريد إلكتروني يصله، يقرأ الجميع الرسائل والمحاورات ويستمعون إلى المكالمات الهاتفية، يبدو الأمر بريئاً في البداية برسائل عادية، حتى يأتي دور كل منهم في اللعبة، لتنكشف أسرارهم الواحد تلو الآخر. تطرح اللعبة فكرة حرّية الفرد في ممارسة شؤونه الخاصة شريطة أن تكون حياته ملكية خاصة لا يشاركه فيها أحد، فكل الجالسين متزوجون إلا واحد، ذلك الذي يعلمون عنه ارتباطه بقصة حب مع فتاة ما، على أنهم لا يمانعون ما يصل من رسائله لكونه على علاقة بأخرى، بل يزكيه أصدقاؤه ويهللون، لم يقع الرجل في مشكلة لأن شريكته لم تكن معهم، فلا أحد هنا يخافه أو يقرّعه، ببساطة فكرة «ما لا تعرفه الفتاة لن يؤذيها».

يردّ السيناريو ببراعة على الطرح السابق بأنه لا ناجي هنا، فالرجل مثليّ يخفي ميوله بادعاء أن له صديقة، وبالتالي يقرّعه المجتمع، لا سيما أصدقاءه، الجميع هنا شركاء، لا أحد حرّ حقاً.

مع توالي الأحداث نكشف تناقضاً مهيباً، فالخائن ينظر في عين رفيقه بجمود، بشكّ وغضب، يلومه على خيانته، فالزوجة الخائنة بالأساس تشعر بالإهانة حين يرفض زوجها في البداية الامتثال لقواعد اللعبة وتسأله مم يخاف وإن كانت هناك أسرار في حياته يخشى أن تعرفها، لا ملائكة هنا في الحقيقة، بينما الكل يجد لنفسه مبرراً لما يفعل، أما الآخرون فليسوا الجحيم، الآخرون لا أعذار لهم.

الصمت يمد جسورًا، تنهار بلا مجهود

يشير الفيلم ما بين سطور حواره إلى الصمت الذي عدّه كل الأبطال فضيلة، وسيلة للتغافل ليبقى الودّ، كل يحمل خزائنه من الأسرار والتراكمات والأسئلة بلا إجابة، وحين تأتيه الإجابة، لا يطلب تفسيراً أو مناقشة، هو ببساطة ينهار، يصرخ بكل ما في داخله، لا يسمع سوى صوته، يصدّق ظنونه ويتحرر منها. كل يرفض المصارحة، كل يواجه مشاكله بدفنها تحت بساط الحياة التي تبدو لامعة براقة من الخارج، بينما هي هشّة آيلة للسقوط بين لحظة وأخرى. يلعب الحوار في الفيلم هذا الدور ببراعة، فكل كلمة في محلها، في الحوارات القصيرة المقتضبة أو في المونولوجات الطويلة، وإن كان النمط العام الفني للفيلم ليس بتلك الجودة، فقد أنقذ الحوار الأمر بخاصة في اللحظات التي بدت مملة وانقطع فيها إيقاع الفيلم، بين شدّ وجذب وافتعال، فلا ندري لماذا لم نشعر تناسقاً أو اندماجاً بين الأبطال على ما يبدو من طول معرفتهم، لأنهم لم يعرفوا بعض حقاً، أم لأن كل منهم يحافظ على صورة ما أمام الآخرين، أم لقلة انسجام بين الممثلين؟

مباراة في الأداء

لا صوت يعلو فوق صوت «جورج خباز»، أو فوق أدائه الهادئ الوقور، عيونه التي تنطق بما يريد أو يضمر، وصوته الخافت الواثق، فلا يمكنك على طول الفيلم إلا أن تراقبه بعيونك، تستطلع رأيه عن كل موقف، هو الميزان هنا، لا لطبيعة الشخصية الواثقة قليلة الكلام، وإنما حتى في أشد اللحظات المؤثرة في قصة البطل، لم ينفعل «خباز» بحركاته أو بصوته ليظهر بين الجموع، هو هنا أركز من صخرة، وأنت تراه حتى وهو صامت.

أما «إياد ناصر» فلم يختلف أداؤه عمّا رأيناه من قبل، وكان أضعف الموجودين في بعض المشاهد. تفوّقت «نادين لبكي» كعادتها، أداء ثقيل واثق، عيون لا تبوح وإنما تُقرأ بسهولة، أم وزوجة وأنثى في امتزاج غريب، حتى لترى كل منهما منفردة إن دققت النظر.

أما «منى زكي»، فكان ذلك من أقل أدوارها الأخيرة، كانت صاخبة للغاية منذ بداية مشاهدها في الفيلم، صوت عال، وحركة لا تهدأ، كانت تحاول التمثيل جدًا، تبذل فيه كل جهدها، لم نستطع أن نرى الشخصية من محاولات «منى» المستميتة للظهور بين بطلات الفيلم، الهادئات بثقل الأداء الطبيعي، تحيّرنا فلم نعرف إن كانت «منى» صاخبة بهذا الشكل لتظهر وسطهن، أم من نبع أداء الشخصية التي تؤديها كامرأة تشعر بكونها مهمّشة، فزوجها لا يراها، ولا يعتبرها امرأة على حد تصريحه في الفيلم وتصريحها في مشهدين مختلفين.

المشاهد المتلقّي، أو الوصيّ؟

تضاربت الآراء بعد عرض الفيلم على منصة «نتفليكس»، ما بين الرافضين قطعًا، والمتحركين لرفع قضايا لوقف الفيلم وممارسة الإساءة اللفظية لأبطاله، خصوصاً المصريين منهم. لم يتعامل المشاهد مع الفيلم باعتباره متلقّياً، يمكنه أن يرفضه فيمتنع عن مشاهدته، بل بكى وصرخ ضارباً بقدميه كالأطفال، «إن لم يعجبني الفيلم فلا أسمح لأحد بمشاهدته، كلّكم قُصّر، بلا عقول، منساقون تماماً، ستؤثر أفكار الفيلم على عقولكم فتفسدها». وكأنه البالغ الوحيد هنا، أما عن تلك العبارات المبتذلة عن الواقعية، فلا نبتذلها أكثر بالرد عن الواقعية ما بين الواقع والدراما، ولن نشير بالطبع لأحداث أشنع بكثير من قضيتي الخيانة الزوجية وتقبل المجتمع لفكرة المثلية التي ناقشها الفيلم. الرفض دائماً هو الحل، فالواقع مشوّه أفلا نرى على الشاشة ما يجعلنا ننسى ولو قليلًا؟

لنكن واقعيين، حتى وإن كان أغلب الكاست من لبنان، أليست قصص الخيانة هنا مكررة؟ بلا شكّ، حتى إن التفاصيل بلا تجديد يمر أو كثير انحراف عن الواقع، وذلك ما يؤيد فكرة الفيلم في واقع الأمر، أن هناك جانباً مخفياً من حياة كل شخص، لا يظهر للعيان، نعلم أنه هناك، الحقيقة خلف هذا الباب، لكنها لا تعامل معاملة الإيمان بالإله، لا نراها فلا يمكننا أن نصدق أنها هنا، يمكننا ببساطة أن نقنع أنفسنا بالعكس، تجنباً للمشاكل، الطرح الآخر الذي تقدمه نهاية الفيلم، بافتراض أن اللعبة لم تحدث من الأساس، فأيهم أفضل؟ أن تبقى جاهلاً أم أن تصيبك الحقيقة بسهمها الحاد فتعميك؟ السعادة المفتعلة أم الحزن الأكيد؟

«أصحاب ولا أعز» فيلم من إخراج «وسام سميرة»، وبطولة «منى زكي»، «إياد نصار»، عادل كرم»، «نادين لبكي»، «جورج خباز»، «فؤادي يمين» – الفيلم لبناني مصري من إنتاج شبكة «نتفليكس»، وعرض للجمهور في العشرين من يناير الماضي 2022.