جاء الإعلان عن التحالف العسكري بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ليزيد من سخونة التنافس الدولي بين واشنطن وبكين، إذ تم توقيع اتفاقية أمنية في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي بين الدول الثلاث تحت اسم «أوكوس» (Aukus)، وهي تسمية مأخوذة من الحروف الأولى لأسماء تلك الدول.

نص الاتفاق على تبادل المعلومات الاستخبارية بين أطرافه بشكل عميق، وتقوية المنظومة الصاروخية الأسترالية، ودعم أستراليا في مجال القدرات السيبرانية والتكنولوجيا العسكرية، وفتح الأراضي الأسترالية أمام المزيد من القوات الأمريكية، والأخطر والأكثر إثارة للجدل هو منح أستراليا غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهي السابقة الأولى التي تحصل فيها دولة غير نووية على غواصات نووية، مما يشكل سابقة لحلفاء آخرين للولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية.

تجدر الإشارة إلى أن المعاهدة لا تشمل نقل تكنولوجيا الأسلحة النووية، وبناءً على ذلك، لا تزال أستراليا دولة غير نووية وغير مسلحة بهذه الأسلحة، ولكن هذه خطوة في اتجاه نشر البنية التحتية النووية، ومؤشر على أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على استعداد لنقل التقنيات شديدة الحساسية إلى الحلفاء المقربين إن اقتضى الأمر.

استغلت الدول الثلاث ثغرة في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية الموقعة عام 1968، ولذا من المقرر أن تجري الوكالة الدولية للطاقة الذرية مفاوضات فنية معقدة مع دول أوكوس لضمان عدم إضعاف نظام منع انتشار الأسلحة النووية، وشكلت الوكالة فريقًا للتحقيق في الصفقة، وحذرت من إطلاق «سباق تسلح نووي».

أتى الإعلان عن هذه الشراكة العسكرية التاريخية التي ستمنح واشنطن حضورًا أكبر في منطقتي المحيطين الهادي والهندي، كرد فعل على القوة المتنامية لبكين التي بدأت في بسط سيطرتها على بحر الصين الجنوبي رغم أنه جزء من المياه الدولية.

شرخ في معسكر الناتو

أحدثت اتفاقية أوكوس شرخًا في معسكر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ تمت بمعزل عن الحلفاء الأوروبيين تمامًا، فقد تفاجئوا بها يوم الإعلان عنها قبل يوم واحد من إعلان الاتحاد الأوروبي استراتيجيته حول منطقة المحيطين الهادي والهندي. وقع هذا في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دون استشارتهم وهم رفقاء السلاح لمدة عشرين عامًا.

كانت فرنسا أكثر المنزعجين، بل ألغت اجتماعًا رفيع المستوى مع بريطانيا واستدعت سفيريها لدى الولايات المتحدة وأستراليا بعد أن تخلت كانبرا فجأة عن صفقة غواصات مع فرنسا، واستبدلت بها صفقة الغواصات النووية. وجهت باريس للدول الثلاث اتهامات أو بالأحرى شتائم، فوصفتها بالخيانة والكذب.

لا تقتصر الخسارة الفرنسية على إلغاء صفقة بعشرات المليارات فقط، بل سددت الاتفاقية أيضًا ضربة للتحالف الاستراتيجي مع أستراليا وتقليصًا للنفوذ الفرنسي في منطقة آسيا والمحيط الهادي التي يعيش بها 1.65 مليون شخص يحملون الجنسية الفرنسية على امتداد جزر صغيرة متناثرة مثل لاريونيون وكاليدونيا الجديدة ومايوت وبولينيزيا الفرنسية.

لا يتوقع أن يحدث تغيير جذري في خريطة التحالفات الغربية وسيظل التعاون والتحالف قائمًا، لكن منسوب الثقة المتبادلة انخفض بشكل ملحوظ. وقد جاءت ردود الفعل من دول أوكوس هادئة حيال فرنسا تقديرًا لحجم خسارتها وغضبها بسبب ذلك.

تبدو الولايات المتحدة بصدد إعادة ترتيب تحالفاتها القديمة بناء على المعطيات الجديدة، فالبيئة الدولية تغيرت كثيرًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي رسمت فيها خريطة تحالفات المعسكر الغربي. فالصين اليوم برزت كتهديد للهيمنة الأمريكية بدلًا من التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي سابقًا – مع الفارق بين الحالتين – وبالتالي ركزت واشنطن على منطقة آسيا والمحيط الهادي ووضعت خططها لتكتيل حلفائها في المنطقة ضمن مستويات مختلفة.

ففي عهد إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أعيد تنشيط مبادرة الحوار الأمني الرباعي (كواد) التي تضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وهي مبادرة انطلقت رسميًّا في عام 2007 تقوم على مبادئ تبدو غير مختلف عليها مثل حرية الملاحة والتحليق والالتزام بالقانون الدولي؛ لكن قوتها تكمن في إبراز المبادئ التي ترفضها الصين عمليًّا، حيث إن الصين تمارس إعاقة حرية الملاحة الدولية في بحر الصين الجنوبي وتتجاهل حكم محكمة التحكيم الدولي الخاص بهذا الشأن.

التحالف الأنجلوساكسوني

ويأتي تحالف أوكوس ليشكل الحلقة الأضيق في دوائر التحالفات الأمريكية، فهو تحالف أنجلوساكسوني بين دول لا تجمعها المصالح الوثيقة فقط، بل العرق والدين واللغة والتاريخ أيضًا.

فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أخذت العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا منعطفًا جديدًا في تعزيز الأهداف العسكرية والسياسية المشتركة. فبعد تحررها من الفضاء الأوروبي، توثقت علاقات لندن بالفضاء الإنجلوساكسوني وتعززت مركزية أستراليا الاستراتيجية كممثل للعالم الغربي في نصف الكرة الأرضية الشرقي، وتم إيلاء رابطة الدم الأنجلوساكسونية أهمية أكبر. وبالفعل، تربط بين هذه الدول روابط تنظيمية قديمة مثل «تحالف العيون الخمس» بين أجهزة مخابرات دول أوكوس الثلاث مع كندا ونيوزلندا، إذ تتبع كندا ونيوزلندا وأستراليا اسميًّا للتاج البريطاني، فإليزابيث الثانية هي ملكة المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا.

وكذلك «اتفاقية أنزوس» بين أستراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة، وهو تحالف عسكري ينص على التعاون في المسائل الدفاعية في منطقة المحيط الهادي. ويبدو أن استبعاد نيوزلندا من أوكوس سببه موقفها المعلن الرافض للانتشار النووي.

جاءت تلك التحركات لتنتشل أستراليا من مجال التأثير الصيني بعدما وصلت العلاقات بين البلدين إلى مستويات عالية من التعاون الاقتصادي، وانضمت كانبرا إلى دول «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، لكن حكومة رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ألغت اتفاقية ضمن هذه المبادرة أبرمتها ولاية فكتوريا مع بكين رغم التحذيرات الصينية من أن الخطوة ستضر بشكل خطير بالعلاقة بين البلدين.

أصبح كل ما يتعلق بالصين في أستراليا يمر الآن من خلال عدسة الأمن القومي، وأعلنت الحكومة إعادة النظر في اتفاقية مثيرة للجدل لاستئجار ميناء داروين شمال أستراليا لمدة 99 عامًا من جانب شركة لاندبريدج مملوكة للملياردير الصيني يي تشينج، وأدخلت تشريعًا يمنح الحكومة الاتحادية حق النقض فيما يتعلَّق بأي اتفاقيات مستقبلية حساسة ومراجعة الاتفاقات المبرمة، وهو ما يعد استهدافًا للنفوذ الصيني بشكل أساسي.