مضى أكثر من عقد ونصف من الزمان على صدور مجموعته القصصية الأولى «بني بجم» عن دار ميريت عام 2005، ولا يزال كثير من قرائه ومحبيه يعرفون له عددًا من قصص هذه المجموعة، وينتظرون بلهفةٍ وشوقٍ شديدين الجديد من كتاباته الأدبية الساخرة شديدة الخصوصية، ومع مرور الأعوام وتغيّر الأحوال لم يزدد قلم الكاتب الساخر والسيناريست بلال فضل إلا تميزًا ولمعانًا، رغم أن قراءه ومتابعيه يتابعون  كثيرًا من كتاباته ومقالاته على عدد من المنصات الإلكترونية، فإن كتابته الأدبية وقصصه القصيرة، والمقاطع التي ينشرها من روايته المقبلة «أم ميمي» يبقى لها نكهتها المميزة ووقعها الخاص.

صدر له حتى الآن أربع مجموعات قصصية يسيطر عليها حس النقد السياسي والاجتماعي اللاذع، والسخرية المبالغ فيها أحيانًا، ولكنها في النهاية لا تخلو من المتعة والأسلوب الأدبي الخاص، الذي يسِم عادة كتاب هذا النوع من الأدب، إذ من الضروري أن تجد عندهم خلطة في استخدام اللغة بشكلٍ خاص، فلا بد أن تقفز العامية بين الحين والآخر إلى سطور السرد، ويأتي الحوار البسيط المقبل من الطبقات الشعبية الفقيرة، بما يحويه من شتائم وجمل قد تمنعها الرقابة، ولكن يبقى أنه يصف بمهارة شديدة المجتمع المصري ويرسم «بورتريهات» واقعية شديدة الصدق قادرة على أن تتنتزع منك الضحك والدموع في الوقت نفسه!

مصر من العشة إلى القصر

في مجموعته القصصية الأولى «بني بجم» نلمح التركيز على رصد مواقف حياتية للناس في الشارع والمسجد والحارة، تبدو المجموعة كأنها صورة لمصر الشعبية بكل ما تحويه من هموم ومآسٍ وصراعات أحيانًا، بين رصدٍ لهموم كبار السن في «جزل» أو انتقاده لشيخ المسجد في «فضيحة الشيخ عرفة» أو أحلام الشباب وآمالهم التي تتحطم على «صخرة الكومبو»، أو الشاب الذي يحلم بمراسلة «جوليا روبرتس» ويحفظ أفلامها ويجلس على مقاهي الإنترنت يشاهد صورها ويقرأ أخبارها. ويحكي عن ذكريات ذلك الزمن الذي ولى حيث الإنترنت أمام الناس ومشاهدة الأفلام من خلال تأجير شرائط الفيديو.  

وهكذا يبدو للقارئ أنه سيقرأ مجموعة تتناول هموم المجتمع والشباب فحسب، حتى نصل إلى القصة السادسة فتحضر السياسية بشكلٍ قاسٍ وتفاصيل مؤلمة في «خلاف حميم بين الحكومة وبتاع السنترال» لمواطن بسيط يحكي تعرضه للإهانة على يد ضباط شرطة. والتي كتبها عام 1999 ولكنها ستذكرنا بلا شك بكل حوادث التعذيب والإهانة التي وصلت بنا إلى 2011،  والتي سنجد صداها في قصص أخرى في مجموعاته التالية. كما يحضر الرئيس «السادات» في قصة «ولكن ربنا ستر» الذي يحكي فيها على لسانه تفاصيل نجاته من الاغتيال.

 قصص المجموعة كلها مكتوبة بأسلوب تيار الوعي حيث تتداعى الأفكار والحكايات بشكلٍ حر وبسيط، لذا يحضر أسلوب “الرسالة” في أكثر من قصة مثلاً، أو البطل الذي يحكي كل ما يدور حوله من مواقف ويرصد حركة كل شيء حتى قط الشارع، ذلك النوع من الكتابة الذي يجذب القارئ للحكاية مباشرة ويجعله يتفاعل معها رغم ما قد تحويه من زوائد أو استطردات قد لا تكون في صلب فكرة القصة.  

في مجموعته التالية يأخذ بلال فضل من المثل الشعبي الشهير «عيان في ميت» ليحوله من المعنى الجنسي الشهير، إلى رصد لواقع شديدة المأساوية والدرامية، في قصة «ما فعله العيان بالميت» والتي تصلح لأن تكون انعكاسًا لكثير من التصرفات المجتمعية مع حرمة الأشياء في ظل الحاجة والضرورة الشديدة التي قد تدفع الناس لنبش قبور الأموات! والقصة مكتوبة بطريقة ذكية من خلال راوِ عليم ينقل المشهد على كل شخصية من شخصيات القصة حتى يرسم رؤية كاملة للحدث/ الموقف من جوانبه المختلفة، ولا يفوت فرصة النقد السياسي لطريقة تعامل ضباط الداخلية مع المواطنين أو المجرمين!

السيد الرئيس «الثمانيني» تحديدًا (والمجموعة صادرة عام 2008) يحتل مركزًا مهمًا في قصص المجموعة، إذ يأتي في بؤرة الأحداث بنفسه ثلاث مرات في قصص «نفق العروبة» رغم غيابه، و«البلد بتاعة سيادته» حينما يفقد الذاكرة  و«حيوان البلد الأول»، كما يأتي على الخلفية وفي أفكار أبطال القصص أحيانًا مثل قصة «الرئيس الضيف» وقصة «على تلات بنات».

لم يعد ممكنًا إخفاء الهوس الجديد للحاكم الثمانيني بالبلد بتاعته، وعندما بدأت الانتقادات تتصاعد في العديد من المحافل العامة، كان لا بد من تبرير، على الفور عقد مذعن بيه اجتماعات موسعة ومغلقة لرؤساء تحرير الصحف الحكومية وكبار الكتّاب والإعلاميين الحكوميين، في اليوم التالي نشرت مقالات وأذيعت تعليقات تتحدث عن التماهي الذي حدث بين سيادته والبلد لدرجة أنهما صارا روحًا حللا بدنًا واحدًا، وأنه لم يعد يمكن أن تفصل البلد وحاكمها عن بعضهما أبدًا لو حتى على مستوى اللغة. لكن ذلك لم يكن مقنعًا لأحد!
من قصة البلد بتاعة سيادته _ ما فعله العيان بالميت

تقنيات قصصية مختلفة

في مجموعته الثالثة «الشيخ العيل» يلعب بلال فضل على أكثر من مستوى عددًا من الألعاب اللغوية والقصصية البارعة، فيعمل على فكرة «الطفل المعجزة» الذي يتكلم وهو ابن ستة أشهر ويحوله بين يدي البسطاء إلى الشيخ العيل الذي تسعى السلطة لاستغلاله فإذا به يفضح الحاكم وهو لم يتجاوز عامه الأول! كما يلعب على فكرة تأثير وسائل الإعلام والاتصال على الشعب في تصدير صورة جميلة للحاكم/السلطان في قصة تبلغ السخرية فيها ذروتها «الجنرال عاريًا»، وماذا يفعل أصحاب السلطة إذا اكتشفوا فضيحة كهذه فجأة.

لا تحتاج السياسة لواسطة حاكم أو الحديث عن السلطة والداخلية لكي تحضر في قصص بلال فضل، هي حاضرةُ وموجودة دائمًا، حتى في تلك القصص التي يتناول فيها شأنًا يوميًا عابرًا كما يفعل في قصة تبدو طريفة واعتيادية تصور شجارًا بين «النصبجي والكاشيرجي» ويعرض من خلاله رؤية المواطن البسيط للسلطة، وتلك الرغبة الفطرية في التحكم في مقاليد الأمور بمجرد غياب الرئيس أو صاحب المكان حتى لو كان ذلك في مطعم بائس في مجاهل وسط البلد.

اقرأ أيضًا: بلال فضل و«المعذبون في الأرض»

وهكذا يعزف بلال فضل طوال الوقت في قصصة بمهارة، بين التقاط الحوادث العابرة العادية، وعرض مشكلات الناس والمجتمع المصري بدقة متناهية، رابطًا ذلك حينًا بالحاكم والسياسة، أو مصرحًا بحكاية فانتازية من خياله المحض بالطبع عن رئيس أحد البلاد في العالم الثالث، وما يقوم به من مغامرات ومحاولات للسيطرة على شعبه المغلوب على أمره. كما يمر ببساطة على مشكلات الشباب وأحلام الحب والزواج وغيرها.

لن يصدق أحدٌ من الجالسين إلى جواري في العزاء والذين يعلمون جيدًا كم كان المرحوم قريبًا إلى قلبي. أن كل ما أفكّر فيه الآن هو: هل سيفهمني ورثة المرحوم بشكلٍ سليم لو طلبت منهم غدًا أو حتى بعد أسبوع أن يبحثوا في مكتبته عن الجزء الأول من حياة الحيوان الكبرى للدميري، لكي لا يظل الجزء الثاني وحيدًا في مكتبتي؟َ!
استعارة _ من مجموعة الشيخ العيّل

علاقة خاصة وحميمية بالكتب

لا يمكن أن نذكر بلال فضل وكتابته الساخرة دون أن نذكر بكثير من التقدير والامتنان دوره الجميل في ترشيح والحديث عن عدد من الكتب والأقلام المهمة سواء في مقالاته أو في برنامجه الجميل الذي يذكره جيل ما قبل ثورة 2011، والذي أخذ اسمه من زاوية مهمة للناقد والروائي الجميل علاء الديب، وهو برنامج «عصير الكتب» الذي بدأه على شاشة قناة دريم عام 2009، ثم توقف وعاد لاستكماله على قناة العربي ولا يزال البرنامج  بمواسمه المختلفة موجودًا على يوتيوب لحسن الحظ، والذي يحوي لقاءات ثرية مع عدد من الكتاب والأقلام المميزة، كما تحوي كل حلقة ترشيحات لكتب متنوعة بين الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع.

كذلك يذكر القراء كتابه الشيق «في أحضان الكتب» الذي كان ثمرة للعديد من الأسئلة التي تطالبه باستمرار ترشيح أجمل ما قرأ في الروايات أو كتب التاريخ أو الثقافة العامة وغير ذلك، والمطلع على «في أحضان الكتب» يتعرّف ببساطة على ذوقه في الكتابة والأدب، والذي يأتي على رأسها دومًا الكُتاب الذين عرفوا بالسخرية من الدنيا بالكتابة مثل محمود عوض ومحمود السعدني، والكاتب التركي «عزيز نيسين» الذي يعتبره إمام الساخرين، ويحكي عنه حكاية طريفة عن محاولة الحصول على حق تحويل إحدى رواياته لمسلسل تلفزيوني.

 والجميل أن بلال فضل لا يكتب ليقدم لنا عددًا من الكتب أو يعرضها لنا، بل يعرض الأفكار أولاً، ويأخذك إلى تفاصيل العمل الذي يتحدث عنه قبل أن يخبرك أنه يتحدث عن هذا الكتاب أو ذاك، وهو في نفس الوقت يعرض أفكاره حول الحرية والثقافة وجدوى القراءة والكتابة وسط كل ما نعانيه في هذه الحياة. وهكذا يورطنا بسهولة في قراءاته التي تتنوّع وتمتد شرقًا وغربًا من ديستوفسكي وأليف شافاق إلى هنري ميللر وأوجين يونيسكو، ومن الكواكبي وعلي بدر إلى نجيب محفوظ وأسامة الديناصوري .. وغيرهم الكثير.   

كانت هذه إطلالة سريعة على عالم بلال فضل الأدبي، بعيدًا عن مقالاته السياسية اللاذعة، وهانحن في انتظار أول أعماله الروائية «أم ميمي» التي أعلن أنها صدرت أخيرًا عن دار المدى.