بدأ العام ساخنًا على وقع ألسنة اللهب المتصاعدة من باريس نوفمبر/تشرين الثاني 2015. تقلبت أحداث الثورة السورية أيما تقلب، وازدادت رقعة الخلاف بين المملكة العربية والسعودية وخصمها الأزلي الإيراني.

على خريطة العالم الجامعة كان العام استثنائيًا، شاهدًا على أحداث متعددة، كزيارة الرئيس الأمريكي التاريخية لكوبا، وعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف لاتهامها بالفساد، استمر نزيف أسعار النفط في ظل فشل متكرر للدول المنتجة في خفض إنتاجها وضبط الأسعار، وما تبع هذا النقص من انعكاسات إيجابية على البلدان المستوردة وأخرى سلبية على البلدان المنتجة.

حتى كان الموعد مع أحداث مفصلية، يمكن القول بأنها ولا شك غيرت وستغير وجه العالم في قادم السنوات، جعلناها عنوانًا لهذا العام المليء بالتقلبات. فهو عام برزت فيه «البوتينية» كطريقة لإدارة الأزمات وحكم البلاد، وغابت عنه اللياقة السياسية بشكل كبير، تفككت فيه أوروبا، وتعالت النعرات اليمينية الشعبوية في أكثر من عاصمة غربية، هناك في الولايات المتحدة، وفي برلين وروما وفيينا، وعاصمة التحرر باريس.

انعزلت فيه أمريكا، ولا يُعلم لليوم، هل أفلت شمسها، أم آثرت الانكفاء على مشكلاتها بعيدًا عن ضجيج هذا العالم. تمددت فيه روسيا، وصار لها في كل بلد يد، حسمت أمرها في أوكرانيا وبسطت يدها على سوريا ونشرت صواريخها على حدود أوروبا.


البركسيت: الـ«لا» الأولى في وجه أوروبا

Brexit is the most significant political risk the world has experienced since the Cuban Missile Crisis.

Gepostet von Ian Bremmer am Freitag, 24. Juni 2016

في خطأٍ سياسيٍ فادح، وكمحاولة منه لتجاوز الضغوط السياسية والحزبية، وعد رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون بالدعوة لاستفتاء شعبي على خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي إذا ما أُعيد انتخابه في برلمانيات 2015، وكان أن توجه ثلاثة وثلاثون بريطانيًا، في الثالث والعشرين من يونيو/حزيران، للإجابة على السؤال، هل تبقى بريطانيا داخل الأسرة الأوروبية؟

البريطانيون كان لهم رأي بالخروج من الاتحاد، وهو ما فتح باب التساؤل في وجه العديد من القضايا، أبرزها وأوضحها ناقشت حقيقة الوجود البريطانيا، فهذا ريتشارد هاوس، وكان مطلع القرن مبعوثًا للأمم المتحدة في أيرلندا، يتنبأ بأنه في غضون خمس سنوات لن تكون هناك المملكة المتحدة، في إشارة واضحة لإمكانية تفككها، فحقيقة تكوينها تسمح بذلك. وبدت دلائل هذا واضحة، حتى في نسب التصويت، فأيرلندا واسكتلندا صوتوا للبقاء ضمن الكتلة الأوروبية، التي يجدون أنفسهم في انسجام تام معها.

اقرأ أيضًا:سكة السلامة يا بريطانيا العظمى

البركسيت شكل مصدر ثقة كبير للشعبوين في عموم القارة والعالم، وباتت المطالبات بالخروج من الاتحاد تلقى آذانًا صاغية، ولعل البركسيت لن يكون آخر التفكك الأوروبي!

كما شكل البركسيت انقسامًا دوليًا، بين أنصار الاستقرار ومن هم على الجانب الآخر، وألقى بظلاله على الانتخابات الأمريكية، فبينما كان أوباما في جولة لبريطانيا في محاولة منه لإقناعهم بالبقاء وخطورة الخروج، كان دونالد ترامب المرشح الجمهوري أول المهنئين، بل وزار المملكة صبيحة الاستفتاء!


إنقلاب تركيا: حين تعطلت «المدافع»

http://gty.im/576538632

بينما كان الأتراك يتهيأون لتوسد أسرتهم في ليلةٍ بدت هادئة (مساء 15 يوليو/تموز)، حتى كانت صافرات الإنذار تعوي على جميع الشاشات، معلنة تحرك الجيش لتقويض الحكم المدني في البلاد.

توالت الأحداث تباعًا، الجيش أغلق مضيق البوسفور، والقوات العسكرية احتلت المطارات، اقتحم الجيش مقر التليفزيون، معلنًا الانقلاب على الرئيس أردوغان.. لا أحد يعرف أين أردوغان، ولم يتسنّ لأحد التبين؛ هل كان الانقلاب من قبل هيئة الأركان علي الحكومة؟ أم هو من قبل مجموعة من الضباط علي هيئة الأركان والحكومة؟

ضبابية المشهد كانت عارمة، منذ العاشرة مساءً بتوقيت القاهرة، حتى انتصف الليل وظهر أردوغان من خلال هاتف نقال في مكالمة فيديو، طمأنت القلوب وبدأت الأمور من حينها تتخذ منحىً آخر بدعوة الرئيس للجماهير بالاحتشاد.

شهدت البلاد ليلةً دامية، قصفت فيها الطائرات مبنى البرلمان، والمخابرات، هيئة الأركان. واصطفت قوات الجيش المنقلبة أمام قوات الشرطة الداعمة لشرعية الرئيس في ميدان تقسيم، وأُشهرت فوهات البنادق في مقابلة بعضها، وخرج الملايين إلى الشوارع في محاولة لدحر الانقلاب، ولم تنقشع ظلمة الليل الطويل إلا وتكشّف معها كل شيء.

لم يكن الانقلاب حدثًا سياسيًا عابرًا، بل لحظة تاريخية شهد العالم أثرها، وتكوّنت على وقعها تحالفات تركيا المستقبل، وأعيد رسم خارطة الجمهورية التركية الحديثة. اهتزت كثيرًا العلاقات التركية بالحليف الاستراتيجي «الولايات المتحدة الأمريكية»، تفتقت كذلك أواصر العلاقات التركية الأوروبية، حتى انتهت بقرار البرلمان الأوروبي تعليق المفاوضات مع تركيا بغرض الانضمام، وكانت القشة التي قصمت ظهر العلاقات هي ليلة الـ16 يوليو/تموز.

اقرأ أيضًا:انقلاب تركيا الفاشل في أرقام

قويت عقب محاولة الانقلاب العلاقات التركية الروسية للمرة الأولى منذ حادثة إسقاط السوخوي الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وذلك بإعلان بوتين دعمه للحكومة التركية في ساعات الانقلاب الأولى. انعكاساتٌ أخرى في التوجه التركي حيال القضية السورية، بتفاهمات تركية روسية سمحت لأنقرة بقيادة عملية درع الفرات، تحت المظلة الأمريكية غير الكاملة.


إنقلاب الصناديق: دونالد ترامب رئيسًا

http://gty.im/488226322

كان الحدث الأبرز لهذا العام، والذي بمجرد أن حدث كانت هزة عالمية لم تستقر إلى اليوم، ويبدو أنها ستستمر حتى موعد تنصيبه رئيسًا في 20 يناير/كانون الثاني القادم.

الملياردير البرتقالي كما يصفه مؤيدوه، المعادي للمهاجرين، والمنتقد للسياسات الاقتصادية للديموقراطيين، الرجل الذي تعهد بتمزيق اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ في يومه الأول رئيسًا، وهي الإنجاز الاقتصادي الذي أنفق في إتمامه أوباما 7 سنوات من المفاوضات.

كان الثلاثاء الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني، يومًا استثنائيًا في هذا العام الاستثنائي، حُبست أنفاس العالم في ليلةً بدا دونالد ترامب فيها متفوقًا على هيلاري كلينتون، وهو الأمر الذي استمر حتى صباح الأربعاء، وأُعلن الرجل المثير للجدل رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكة.

انقسم العالم بين رابح وخاسر للوهلة الأولى، فالرجل لم يكن سياسيًا أو لبقًا بقد ما أحدث من تمايز بين الأضداد، فتصريحاته لم تقبل التأويل في معظمها، وكان من أبرز الخاسرين بانتخابه؛ حلف الناتو، الرجل كان أول المرحبين بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ومعروف عنه تشجيعه للجماعات اليمينية الشعبوية في أوروبا والتي في أغلبها تجعل على رأس أطروحاتها الانفصال وتفضيل القوية الوطنية على القومية الأوروبية.

كانت دول الخليج كذلك أبرز الخاسرين، وذلك لأن ترامب لم يكف عن حديثه عن ضرورة دفع دول الخليج أثمان الحماية الأمريكية، كذلك عُدت الإدارة الإيرانية واحدة من الخاسرين، لموقف ترامب العدائي من الاتفاق النووي، الإنجاز الأبرز لهذه الإدارة الإصلاحية!

أما على الشاطئ الآخر فثمة رابحين أمثال بوتين، إذ يعتبره ترامب مثلًا أعلى وقدوة ينبغي الاحتذاء بها، ويندرج تحت هذه الراية كذلك بشار الأسد والسيسي وكلاهما كان ترامب قد أعلن إمكانية التعاون معهما في مشروعهما «الحرب على الإرهاب». الصين كذلك تُعتبر أحد الرابحين بفراغ محتمل على الساحة الإقتصادية.

اقرأ أيضًا:تعرف على أهم الرابحين والخاسرين من فوز ترامب

من خلال متابعة الفريق الرئاسي الذي بدأت ملامحه ترتسم منذ إعلان فوز ترامب، يبدو أن الرجل عازمٌ وبصدق على إنفاذ ما وعد به إبان الحملة الانتخابية، وهو ما ينذر بعام قادم أكثر سخونةً من هذا الذي نحن بصدد توديعه!


سقوط حلب: العالم على خط النار مع السوريين

http://gty.im/458903556

ليس من قبيل المبالغة القول بأن الأزمة السورية التي نأى العالم بنفسه عنها، وكأنها مأساة السوريين وحدهم، فرضت نفسها على العالم رغمًا عنه. أزمة اللاجئين كانت حاضرةً في بلدان أوروبا وشكلت لهم شبحًا تلقفته الأيادي اليمينية الشعبوية المعادية لمبادئ الاتحاد الأوروبي، وأرهبت من خلاله الناخب الأوروبي.

في ظل الأحوال الاقتصادية المتردية، وأزمات العمالة، كان لورقة اللاجئين مفعول السحر، فكان الخروج البريطاني أبرز النتائج أوروبيًا. وكان صعود البديل من أجل ألمانيا، اليميني، ودخوله برلمان العاصمة برلين لأول مرة في تاريخه، شاهدًا كذلك.

تحولت الثورة أو كما يحلو للغربيين تسميتها الحرب الأهلية السورية إلى كابوس، لم يعد مفر من مواجهة المصير المحتوم لفشل الربيع العربي عمومًا والثورة السورية على وجه الخصوص، لأنها باتت أرضًا خصبة للإرهاب والتطرف، وقاحلة للعيش من قبل أهلها، لاسيما المعارضين منهم لحكم الرئيس بشار الأسد.

منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، تحركت القوات النظامية والقوات الرديفة (ميليشيات حزب الله، والحرس الثوري الإيراني) تحت غطاء الطيران الروسي، للإيقاع بثاني أكبر المدن السورية، ومدينة الثورة الأهم.

سقطت المدينة بالفعل، وكُتبت بسقوطها -واقعيًا- شهادة وفاة الثورة، أو على وجه أدق، باتت فرص إسقاط بشار الأسد معدومة، واعتبر بشار ذلك انتصارًا مفصليًا في تاريخ مقاومته للثورة، الذي امتد لـ6 سنوات. اليوم بسقوطها تتحول سوريا لحرب العصابات. ومن ثم سيدفع العالم ثمن تخاذله في دعم الديمقراطيات العربية، بمزيد من موجات اللجوء، والإرهاب، وهو ما سيدفعه لمزيد من الانقسام. إذ لن يكون الخروج لبريطانيا حادثًا فريدًا، فثَم جماعات يمينية متطرفة تواصل الصعود السياسي في بلدان عدة، وسيشهد العام القادم الانتخابات الفرنسية الأقسى في تاريخ باريس.


كان العام مزدحمًا أكثر، إلا أن هذه الأحداث الأربعة شكلت الركيزة الأساسية التي على إثرها بدأت خريطة جديدة للعالم تتشكل، فالولايات المتحدة قبل انتخاب ترامب لن تكون كما كانت قبله، وبريطانيا الخروج لم تكن بريطانيا الاتحاد. الاتحاد نفسه تعرض من جراء هذا الخروج لخطر وجودي، إذ بات عليه أن يقاوم مزيد من جماعات اليمين الشعبوي القومي.

ولا تكف الإدارة في تركيا عن وصف مرحلتها الزمنية الراهنة، بمرحلة الجمهورية التركية الجديد ما بعد انقلاب يوليو/تموز. كذلك الثورة السورية التي كانت حاضرة في كل ما سبق من أحداث مفصلية، تأثرت به وأثرت فيه، سيكون لها مزيدًا من التأثير في قادم الأيام. ننتقل إذن بهذه الأحداث إلى العام 2017، لعله يكون أكثر هدوءًا!