بمناسبة رمضان، شهر المسلسلات، أحب أن أشارككم بعض أفكاري حول ظاهرة “المسلسل العربي”.

ثورة التليفزيون

فيما أعلم، لا توجد كتابات رصينة حول “المسلسل العربي”، رغم أني أظن أن هذه الظاهرة – “المسلسل” – كان لها أثر كبير في تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه “الوعي الجمعي” للمصريين على مدار ما يقترب من خمسة عقود. وأظن أن أفضل مدخل لفهم “المسلسل” ودوره هو النظر بشكل عام إلى التليفزيون والثورة الثقافية الكبرى التي أحدثها في بلادنا.

كلام كثير قيل عن اختراع المطبعة وابتكار الجريدة اليومية كأدوات مكنّت الطبقة المسيطرة في العصر الحديث، البرجوازية، من تشكيل الوعي الجمعي للسكان في زمن الوطنية والقومية بشكل أكثر عمقًا وإحكامًا.

كذلك، اعتبر كثيرون السينما أداة خطيرة من أدوات تشكيل الوعي الجماهيري، لما لها من سحر خاص يرتبط بجاذبية الصورة المتحركة وأثرها العميق.

لكن كل ذلك يتضاءل إلى جانب الأثر المدوي للراديو والتليفزيون، بالذات التليفزيون.

ابتُكرت النماذج المكتملة الأولى للتليفزيون في أواخر عشرينات القرن العشرين. لكنه أصبح جهازًا شعبيًا فقط بعد الحرب العالمية الثانية، بالذات في الخمسينات. ثم وصل إلى بلادنا، مصر، في عام 1960، تحت اسم “التليفزيون العربي”، حيث كان بالفعل أول تليفزيون في المنطقة العربية.

وعلى خلاف كل وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى، ولد التليفزيون، ولأسباب تقنية بحتة تتعلق بنظام البث الأرضي، احتكاريًا، أي تحت يد قوى محدودة العدد هي صاحبة القدرة، والحق، في البث.

ثورة التليفزيون أكبر من أن توصف بالكلمات. إذ فجأة ظهر جهاز يمزج الصورة والحركة والصوت، ويحاكي الحياة الطبيعية، ويمكن، من الناحية الاقتصادية، أن يسّوق على نطاق واسع بحيث يتوفر في ملايين البيوت، ويمكن أن تتحكم فيه السلطة، أو القوى النافذة في المجتمع، بشكل حصري وتام.

وهكذا أصبح البث التليفزيوني الأداة الأهم، والأكثر نفاذًا، في نقل صوت القوى المسيطرة إلى الناس العادية، إلى الملايين الذين أُطلق عليهم: الجماهير الغفيرة.

تليفزيون الطبقة الوسطى

في مصر، كما في كل البلدان في العالم، كان التليفزيون هو الأداة الأهم في إعادة خلق الطبقة الوسطى في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية على صورة جماعة ذات بعد واحد، حسب تعبير الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز؛ جماعة منسجمة ومتجانسة و… خاضعة.

وربما كانت الصدفة، وربما كانت احتياجات الرأسمالية الاحتكارية والدولتية الضاغطة، هي التي أدت إلى انتشار التليفزيون عالميًا في عصر طغيان الدولة الشمولية الرهيب.

أيًا ما كان الأمر، فالأكيد في هذا السياق أن التليفزيون، كجهاز شعبي في البيوت، بدأ مسعاه كأداة للنمذجة والإخضاع من تركيز هدفه على أبناء الطبقة الوسطى العريضة، بدءًا من شرائحها الأعلى، فالأدنى، فالأدنى.

لكن المسألة هنا ليست فيمن يستطيع أن يمتلك جهاز التليفزيون، أبناء الطبقة الوسطى أم آخرين. إذ سرعان ما أصبح التليفزيون تقريبًا في متناول الجميع، حتى أفقر الفقراء، وذلك بعد أقل من عقدين من الزمان على تدشينه في مصر.

المسألة هي في الحقيقة لمن يتوجه التليفزيون. فالتليفزيون العربي، الذي سُمي لاحقًا اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري، بلور صورة للمشاهد المثالي هي بالتحديد رجل وامرأة وطفل الطبقة الوسطى؛ ليس رجل/امرأة/طفل البرجوازية المترفة، وليس رجل/امرأة/طفل الطبقات الكادحة، بل رجل/امرأة/طفل الطبقة الوسطى بالذات.

قررت دولة عبد الناصر، ثم السادات، ثم مبارك في سنواتها الأولى، أن مشاهدها، أي متلقي رسالتها الإعلامية، ينبغي أن يكون “الوسطي الجميل” الذي يسكن شقة ما في ضاحية كمصر الجديدة أو المعادي أو المهندسين، وربما الظاهر أو العباسية أو حدائق القبة، والذي يعمل طبيبًا أو مهندسًا أو مدرسًا أو موظفًا في الدولة، والذي يذهب أبناؤه إلى مدرسة لغات أو مدرسة تجريبية، ثم ينطلقون إلى النادي للمرح مع أصدقائهم، والذي ينتهي يومه بمشاهدة التليفزيون مع الأسرة في دعة وهدوء.

على خلاف الفكرة السائدة، كان عصر عبد الناصر عصر الطبقة الوسطى بامتياز، عصر الكوادر البيروقراطية والتكنوقراطية للدولة التي هي في طور البناء. حتى الاحتفاء بالعمال والفلاحين كان مطروحًا آنذاك من زاوية “أننا نعيش في عصر يمكن لابن العامل والفلاح فيه أن يتمتعا بفرصة الحراك الاجتماعي والصعود إلى صفوف الطبقة الوسطى بفضل التعليم وتكافؤ الفرص”.

هذا هو السبب أن الدولة الناصرية، ومن ثم تليفزيونها، وجهها خطابهما إلى الطبقة الوسطى. شاهد مثلًا برامج المرأة والطفل في التليفزيون العربي، ولاحقًا المصري، ستجد أن المخاطب هو نساء وأطفال الطبقة الوسطى. فلا يوجد كانون أو فرن بلدي أو باجور جاز في المشهد، ولا يوجد طفل متسخ آت من يوم عمل شاق في الغيط أو الورشة في الصورة.

وكما هو متوقع، فإن الخطاب الموجه إلى المشاهد المثالي، إلى جانب التسلية المجانية، وإلى جانب بث الخطاب الرسمي التافه للدولة، كان يهدف إلى تغذية مثالية هذا المشاهد الخاضعة لآلة الحكم والدولة؛ المثالية الفردية الأنانية التي تركز على إنجاز حلم الترقي الطبقي الآمن، وعلى التشبث بأمل الاستقرار في وطن “لا نعيش فيه، بل يعيش فينا”، انطلاقًا من أن المواطنين هم “عيال الدولة” المشغولة، كالأب الحاني، بهمومهم وآمالهم.

حتى عصر السادات، الذي شهد انقلابات مهولة في مصائر أبناء الطبقة الوسطى، لم يغير شيئًا من هذه المنظومة. التغيير تمثل فقط في إضافة لحن جديد إلى السيمفونية السابقة: لحن جنائزي يرثي لزمن الطبقة الوسطى الجميل، لكن الغارب، الذي يندثر تاركًا لنا الحسرة والحزن، بعد أن غزا العالم “أولاد الإيه” المنحدرين من أصول وضيعة، والصاعدين إلى مواقع النفوذ والتأثير بفضل الأموال التي تدفقت عليهم في عصر النفط والانفتاح.

لم ينكسر كل هذا، أقصد لم تنكسر منظومة تليفزيون الطبقة الوسطى، إلا مع انكسار احتكار التليفزيون الحكومي للبث، وهو ما حدث في عصر الفضائيات بدءًا من الألفية الجديدة. حيث هبط التليفزيون الأرضي من على عرشه، وانطلقت الفضائيات تطرح أشكالًا، ومشاكل، جديدة للإعلام التليفزيوني، تمثل أهمها في الربط المباشر بين الإعلام، حكومي وخاص، ونظام الأرباح، ودخول الرأسمالية المصرية على خط تمويل الإعلام المرئي، مما أدخل التليفزيون في عصر الاستهلاك النيوليبرالي السعيد.

مسلسل عربي

العمل الدرامي المسلسل ليس اختراعًا للتليفزيون العربي. فلقد اقتبس التليفزيونيون الأوائل الفكرة من تجارب “أوبرا الصابون” الغربية، خاصة الأمريكية، التي ربطت ربات البيوت والعجائز إلى مقاعدهم انتظارًا لـ”الحلقة القادمة”، ومن تجربة الإذاعة المصرية في “المسلسل الإذاعي” الذي صنع لنفسه تاريخًا بأشكال من الدراما المسلسلة والمتصلة المنفصلة كـ”سمارة” و”ألف ليلة وليلة”.

على أن المسلسل التليفزيوني العربي حقق نجاحًا مدويًا، استمر بلا انقطاع على مدى خمسين عامًا أو يزيد. فعلى خلاف كل برامج التليفزيون الأخرى، طبعًا إذا استثنينا البث المباشر للأحداث الهامة كمبارايات الكرة، نجح المسلسل في توحيد “كل أفراد الأسرة”، بحسب العبارة الشهيرة لمذيعات الربط السمجات، واستطاع أن يكون أداة سحرية وقوة ضاربة في مسيرة تشكيل الوعي الوسطي “الجميل”، والمتماثل، لأغلب “أبناء الوطن”.

سر قوة المسلسل يكمن في جاذبية الدراما وتشويق الحدوتة، وهو أمر متوفر في كل الفنون الدرامية كالمسرح والسينما، لكنه يأتي هذه المرة مضاعفًا كخيال مرئي يصل إليك في منزلك بلا تعب. إذ يرتبط المشاهد بالحدوتة، مهما كانت سخافتها، كالمنوم مغناطيسيًا. فالحدوتة لها سحر لا يقاوم، حيث يمكن أن ينام العقل الناقد، ويستيقظ الحلم والخيال، ويا حبذا لو كان البطل يحقق أحلامنا، التافهة أو الكبيرة، ويعوضنا عن قلة حيلتنا وضيق حالنا. أما لو كانت الحدوتة ساخرة، فإن الفودفيل الاستهلاكي يدغدغنا ويستدر منا الضحكات المجانية، مما يسرّي عنا في آخر يوم ربما كان مرهقًا أو محبطًا أو فارغًا.

مسلسل السابعة مساءً على القناة الأولى، الأم، ظل أيقونة أساسية من أيقونات التليفزيون المصري حتى تسعينات القرن العشرينات. خلال تلك السنوات الطوال عُرضت مئات المسلسلات؛ قائمة طويلة لا يمكن حصرها منها: الرحيل، هارب من الأيام، صابرين، القاهرة والناس، الشاهد الوحيد، أخو البنات، المشربية، الأيام، النديم، الرجل والحصان، هند والدكتور نعمان، صيام صيام، أبنائي الأعزاء شكرًا، أحلام الفتى الطائر، زينب والعرش، أديب، ليالي الحلمية، الشهد والدموع، الحرملك، مارد الجبل، رأفت الهجان، دموع في عيون وقحة، على هامش السيرة، الأفعى، البخيل وأنا، العائلة، اللقاء الثاني، محمد رسول الله، عيون، نهاية العالم ليست غدًا، هو وهي، سفر الأحلام، رحلة المليون، على بيه مظهر، هي والمستحيل، وغيرها كثير كثير.

لا يمكن أبدًا تحليل تلك المئات من المسلسلات، أو حتى أهمها، في مقال قصير. لكن يمكن إبداء بعض الملاحظات الأولية للتفكير.

الملاحظة الأولى هي أنه رغم أن المسلسل العربي تاريخه طويل، ويبدأ مع تدشين التليفزيون، إلا أن عصره الذهبي كان الثمانينات والتسعينات، حيث استولى تمامًا على عقول وقلوب المشاهدين، قبل تحولات الألفية الجديدة وبزوغ عصر التنافس بين عشرات المسلسلات المتزامنة المتزاحمة ذات الإنتاج الكبير والمرتبطة بسوق إعلامي رأسمالي الطابع تمامًا. ربما كان ذلك بسبب اكتمال انتشار التليفزيون في كل البيوت مع قدوم الثمانينات، وربما كان بسبب دخول الأموال الخليجية النفطية على خط الإنتاج الدرامي، وربما كان بسبب انحسار عالم السبعينات الصاخب بالحركة والنضال والتمرد، وربما كان لأسباب أخرى. لكن الثابت أن الثمانينات والتسعينات كانا عقدي المسلسل كأداة تلقين رئيسية للمواطن.

الملاحظة الثانية هي أنه إلى جانب المسلسلات الدينية والوطنية والمخابراتية بأهدافها المباشرة والساذجة المعروفة، وإلى جانب مسلسلات التشويق البوليسي، الفاشل غالبًا، وقصص الحب، المسطحة دائمًا، فإن واحدًا من أهم تيمات الثمانينات والتسعينات، الثمانينات بالذات، هي، كما قلنا، الحسرة على الزمن الناصري الغابر والجميل الذي أتى الانفتاح والتطبيع ليهدماه على رؤوسنا. تلك كانت تيمة أثيرة لأسامة أنور عكاشة، ويسري الجندي، ووحيد حامد، وهم من ملوك الدراما التليفزيونية في هذين العقدين.

الملاحظة الثالثة هي أن ثورة أسامة أنور عكاشة في الدراما التليفزيونية، تلك الثورة التي اعتبرها البعض نقلة نوعية في الأدب التليفزيوني الواقعي، والتي بدأت بالنجاح المدوي للشهد والدموع، لم تكن في الحقيقة ثورة واقعية بقدر ما كانت حنكة ميلودرامية ملحمية متخفية تحت زخرف واقعي متقن. معظم مسلسلات عكاشة المهمة، ربما فيما عدا المسلسلات التاريخية الكبرى، مضمونها الدرامي لا يزيد عن معركة ملحمية بين الخير والشر، وهو ما لا يمت للواقعية بصلة. ففي الشهد والدموع عندنا الخير ممثلًا في زينب المكافحة، والشر ممثلًا في حافظ الطماع. وفي الراية البيضا هناك الدكتور أبو الغار في مواجهة فضة المعداوي. وفي أنا وإنت وبابا في المشمش هناك وداد وعبد الباقي ويوسف وصحبهم في مواجهة قوى الشر. وفي النوة هناك سوكة التي تكافح ضد توغل الشر داخل بيتها. وهكذا. هذا بالضبط هو ما منح عكاشة جماهيريته. إذ قام بإعادة صياغة معارك الواقع الحقيقية في صورة صراع بين الخير والشر، بين الإنسان المتمسك بإرثه وأرضه والسوق والفهلوة والانفتاح. ومن هنا خلق عالمًا مبسطًا مليء بالألاعيب والدسائس والحواديت الجذابة يتناطح فيه الخير والشر على كسب الأرض وتحقيق النصر.

عالم جديد؟

لا يعني هذا كله أن الدراما التليفزيونية خالية من الإبداعات العظيمة. فحتى الميلودراما العكاشية فيها درر لا يمكن نسيانها، درر استخدمت الميلودراما في صياغة عالم ملحمي غني وشديد الخصوصية. فمن منا ينسى عصفور النار ووقال البحر.

كل ما هنالك أن الخط الأساسي للدراما التليفزيونية، “اللي بتخش كل بيت”، كان خطابه موجهًا غالبًا إلى ابن الطبقة الوسطى المثالي، لتسليته، وتشويقه، وبث قيم الانتماء إلى مصر والبيت والعيلة والتاريخ والأصول فيه، ودفعه إلى تصوير المعركة الدائرة على أنها معركة خير وشر بسيطة، مع تمجيد قيم البرجوازية الوسطى التقليدية كالكفاح وبناء الذات على طريقة كتب التنمية البشرية إياها.

إلا أن هذا كله اهتز وتفكك مع توغل الليبرالية الجديدة في حياتنا الواقعية، وفي الإنتاج الإعلامي والبث التليفزيوني.

ففي السنوات الأخيرة، وبغض النظر عن المستوى المتردي والكم المهول، اقتربت الدراما التليفزيونية، جزئيًا، من السينما، حيث بدأت تفكك المنظومات القيمية السائدة في بعض المسلسلات ذات التكنيك السينمائي الجيد والجرأة الملحوظة في كسر الخطوط الحمر.

هل هذه علامة على غروب عصر “أوبرا الصابون”، بجميلها وقبيحها؟ هل هذه نهاية علاقة التليفزيون بالطبقة الوسطى؟ هل ندلف إلى عالم جديد يندمج فيه التليفزيون مع السينما مع الإنترنت، ليس فقط تقنيًا، ولكن كذلك وظيفيًا واجتماعيًا؟ هذه أسئلة مهمة وجوهرية تبحث عن إجابة. لكن الأكيد أن عصر “الدراما الوسطية الجميلة” يهتز، واهتزازه يردد صدى اهتزاز عالم دولة يوليو وطبقتها الوسطى.

أرابيسك، خالتي صفية والدير، الوتد، عصفور النار، أم كلثوم، قاسم أمين، المال والبنون، ذئاب الجبل، مارد الجبل، رحلة السيد أبو العلا البشري، رأفت الهجان، دموع في عيون وقحة، على هامش السيرة، محمد رسول الله، الأفعى، اسطبل عنتر، البخيل وأنا، الحاوي، الراية البيضا، العائلة، اللقاء الثاني، هو وهي، الملك فاروق، أوبرا عايدة، أوان الورد، حديث الصباح والمساء، سفر الأحلام، عائلة الحاج متولي، عباس الأبيض في اليوم الأسود، رحلة المليون