«الفشل» من أشد الكلمات وقعًا على نفس أي إنسان، لاسيّما مَنْ بذلَ الجهد والوقت ولم يصلْ إلى المُرتَجى والمُرتَضى، ولعلَّ أبرز ما يُخيف في قصة الفشل، هو حتمية حدوث الفشل، بل وتكراره، فلا يمكن أن تصبح حياة شخصٍ ما سلسلة من النجاحات المتتابعة.

لا نتحدث هنا على طريقة مُسكّنات التنمية البشرية، ونُكرِّر مجموعة من (الكليشيهات) المكررة عن أن الفشل طريق النجاح… إلخ. إنما سنتحدث بشكلٍ علمي عن كيفية تجاوز فترات الفشل وتوابعها النفسية بشكلٍ فعَّال، وبأكبر قدر من المكاسب، وأقل قدرٍ من الخسائر، إذ بغير هذا، لا يمكن أن ننطلقَ نحو النجاح.

كيف أتغلب على التوابع النفسية لما أراه فشلًا؟

لا يوجد تعريف محدَّد للفشل، فما يراهُ شخصُ ما فشلًا، قد يراه آخر ليس فشلًا، ويعتبره غيرهما نجاحًا باهرًا، فلكل منّا حياته وظروفه وسماته الشخصية وقدراته وأولوياته وخطته الخاصة في حياته العملية، ووفق كل تلك المحدَّدات وغيرها، يتغير النظر إلى حدثٍ ما على مقاييس النجاح والفشل، ولذا، ففي عنوان تلك الفقرة استخدمت تعبير (ما أراه فشلًا)، فالأهم هو رؤية الشخص لحياته، وحكمه على أحداثها.

يؤدي الفشل إلى كوكبة من المشاعر والآثار النفسية السلبية مثل جلد الذات، والشعور باحتقارها، واختلال الصورة الذهنية عن النفس، والسقوط في دوامات المقارنة مع الآخرين، وصولًا إلى الإصابة باضطرابات نفسية مؤثِّرة مثل القلق والاكتئاب، ومن أسوأ تجليّات هذا الإحساس بالفشل عندما يصل الإنسان إلى وصم نفسه بأنه فاشل، وخوفًا من الوقوع في المزيد من الفشل، يبدأ في تجنب أخذ الكثير من الخطوات في حياته، فهذا التجنُّب مُدمر للطموح وللحياة.

والآن، عبر نقاطٍ موجزة، سنلخِّصُ خطة للتعامل الإيجابي النفسي مع الفشل، تنطلق من تعديل الأفكار وتطوير الذهنية، إلى اقتراحاتٍ عملية مباشرة يمكن للجميع تطبيقها بفاعلية، لتجاوز ما يعتبرونه فشلًا في حياتهم، سواء العملية أو الاجتماعية أو سواها.

1. احترم مشاعرك

لا تنتقل من جلد ذاتك بسبب ما تراه فشلًا، إلى جلد ذاتك لشعورك بمشاعر سلبية بسبب ما حدث، أعطِ نفسك بعض الوقت لتنفيس المشاعر السلبية، وتصالَح مع وجودها لبعض الوقت، يظن البعض خطأً أن الأمثل هو الوصول إلى حالةٍ من اللامبالاة الشعورية تجاه الفشل، ولكن هذا تطرف في الاتجاه العكسي، وليس هو المطلوب، ولا كذلك المطلوب هو التطرف المقابل بمضاعفة الأحاسيس السلبية الناجمة عمّا حدث، تعامَل مع وجود الفشل، وحدوث المشاعر السلبية بسببه، كأنه جزء طبيعي من الحياة، وليس شيئًا طارئًا استثنائيًا حصريًا لك ولحياتك.

وجود قدرٍ متزن من المشاعر السلبية، والرغبة المنطقية في تجنب تكرار الشعور بها، يمثل دافعًا إضافيًا لتصحيح المسار، وكشف الأخطاء التي أدت إلى عدم الحصول على النتيجة المرجوة، ثمَّ تجنب تكرار مثل هذا الفشل مُستقبلًا قدر المستطاع.

2. التعاطف مع النفس

ليست القسوة مع النفس وجلد الذات، نتيجة حدوث الفشل، هي الطريقة المثلى لتحقيق النجاح في ما بعد، بل العكس هو الصحيح، فالاستسلام لهذا مُدمر، يجب التأكيد على ضرورة التعاطف مع النفس في تلك المواقف الصعبة.

تخيل مثلًا ما الذي كنت ستفعله لدعم صديقٍ لك في نفس الموقف نفسيًا ومعنويًا وماديًا، وافعل مثله لنفسك، هل كنت ستنصحُه بالاندماج في هواية يحبها، أو بالذهاب في رحلةٍ قصيرة للترويح عن النفس، أو جلسة لطيفة مع بعض الأصدقاء لتخفيف الشعور السلبي، أو مراجعة ما حدث بعقلانية وحصر مزاياه قبل عيوبه… إلخ. افعل كل هذا مع نفسك، وخذ صفها بإنصافٍ وموضوعية.

ويحاول بعض الباحثين النفسيين تقديم تمارين خاصة للتدرب على فن التعاطف مع النفس، ومنها الموجود بهذا الرابط، يمكن الانتفاع ببعضها.

3. النقاش العقلاني مع الذات

حديث الإنسان مع نفسه أكثر أهمية وخطورة من الحديث مع الآخرين، ودائمًا ما تدفعنا المواقف الصعبة وغير الموفَّقة إلى الكثير من الجدال مع النفس لتحليل أسباب ما حدث، وغالبًا ما يتطور هذا إلى الإغراق في لوم أنفسنا، وصولًا إلى جلد الذات، والذي سيؤول في نهاية المطاف إلى فقدان الثقة في أنفسنا وقدراتنا.

يجب أن نحرص على أن يكون النقاش مع الذات أكثر إيجابية من هذا، وأن يركز على التحليل الموضوعي المنصف لما حدث، والإنصاف العاقل المتزن مع النفس بإعطائها ما لها، وبيان ما عليها، وهو أمر ليس سهلًا، لكن يمكن تحقيقه بالتدريب على ذلك النقاش الواعي مع النفس بشكلٍ مستمر.

ويجب أولًا بأول استئصال الأفكار السلبية من هذا النقاش مع الذات، مثل (أنا فاشل وسأظل فاشلًا)، (لا أمل في نجاحي)، (لقد أصبحت أكبر سنًا من أن أعوِّض ما فات)… إلخ. فهذه الأفكار التي تُصادِر على المستقبل، وتحتقن بالأحكام السلبية القطعية، هي أفكار خاطئة تمامًا، لا يجب الاسترسال معها مطلقًا، إذ لا ينبني عليها أي عمل إيجابي، وستؤدي هيمنتها على الذهن إلى ديمومة الفشل.

4. التقاط الإيجابيات في كل موقف

لا يوجد حدث سلبي بنسبة 100%، فأشد الأحداث أو المواقف سوءًا وفشلًا لن تخلوَ من بعض الإيجابيات والنجاحات الجزئية التي يمكن البناء عليها، بدلًا من التركيز الحصري على النتيجة غير المُرضية لما حدث، يمكن التركيز على الفوائد غير المباشرة للتجربة غير الناجحة، مثل الخبرة العملية، والتعرف على الأخطاء لتجنبها مستقبلًا، والتدرب على تجاوز المشاعر السلبية… إلخ. مثل هذا التفكير الإيجابي، يساعد كثيرًا على سرعة تجاوز الفشل، والانطلاق منه إلى نتائج أفضل في وقتٍ قصير، إذ يتحوّل الفشل بهذا النظر الإيجابي إلى جزء من خطوات نجاحٍ مستقبليٍّ قادم، باختصار تصبح مواقف الفشل دروسًا تعليمية حقيقية.

5. النمو هو الأصل والقاعدة

تهيمن على ذهنية الكثيرين فكرةٌ سلبية تركز على أن عقولهم وقدراتهم ومهاراتهم ثابتة، وغير قابلة للتطور، وأن هذا هو سبب تواضع النتائج التي يحققونها، وإحساسهم بالفشل النسبي بالمقارنة بما يطمحون إليه وما يرون غيرهم يحققونه، هذه الفكرة خاطئة تمامًا، وتُعارض ثوابت الحياة، فالإنسان قابل دائمًا وأبدًا للنمو المهاري والذهني، للتعلم وللتطور، ولاكتساب المزيد من المهارات وتطويرها، حتى في أصعب الأوقات وعبر أقسى التجارب.

وإذا سألت بعض أصحاب الأعمال المرتكزة على المهارات، مثل الأطباء، لاسيّما الجراحين، ستجدهم يتحدثون عن أنه بمرور الوقت وبتنوع الحالات المرضية التي يتعاملون معها، يكتسبون المزيد من القدرات، وتزداد المهارات صقلًا، وأن بعض الحالات الصعبة سيئة النتائج، كانت أفضل أضعافًا مضاعفة في ما أكسبتهم من دروس ومهارات علمية وعملية.

وتؤكد دراسات علمية عديدة على ضرورة أن يبدأ ترسيخ تلك الفكرة عن قابلية العقل الإنساني ومهاراته للتصحيح والتحسن والتطور، منذ الطفولة، في مناهج المدارس، وفي ثقافات المربَّين في البيت وغيره من المؤسسات.

6. ثقافة «ليس بعد»

في مبادرة رمزية لكنها مهمة، وضعت إحدى المدارس العليا في ولاية شيكاغو الأمريكية عبارة (ليس بعد) بدلًا من (راسب) و (ضعيف) أمام المواد التي لم ينجح الطلاب في اجتياز امتحانها، يمكننا استلهام تلك الفكرة على نطاقٍ أوسع، وتعويد النفس عليها، لتتعامل تلقائيًا مع كل فشلٍ أو نتيجة غير مرضية، على أنه مجرد مشروع نجاح، محتمل بقوة، لكنه لم يحدث بعد.

7. مراجعة واقعية الأهداف

يمكن أن تكون المشكلة ليست في التقصير منك في بذل مجهودك، أوفي ضعف مهاراتك، إنما قد يكون سقف أهدافك، لاسيّما المرحلية مرتفع، وغير واقعي، يجب أن تكون خطتك المستقبلية واقعية، تُراعي محدودية وقتك، وحجم طاقتك البشرية النفسية والمعنوية والمادية.

8. لا تنتظر الاعتراف من الآخرين

تقييم نجاحك أو فشلك يكون بالأساس انطلاقًا من أفكارك وأولوياتك، وخطتك لحياتك، وبالتالي فهو رغبتك ومسؤوليتك أنت، ويمكن بالفعل الاستفادة بآراء الآخرين لاسيما المُقرَّبين والمخلصين وأصحاب الرأي في ذلك، ولكن لا يكون الهدف الأول لك، أو معيار الاعتراف بالنجاح، هو أحكام الآخرين، والتي سيكون أكثرها بناءً على نظرتهم الخاصة للحياة وترتيب الأولويات في خطتهم هم، فهذا سيظل قدراتك وطموحك كثيرًا، ويُعرِّضك لإحباطٍ مضاعف عندما تتعرض للآراء السلبية منهم.

فمثلًا، عندما تكون فنَّانًا تُقدم لوحة فنية، لابد أولًا أن يكون هذا الفن مُعبرًا عنك وعن أفكارك، ومُفرِّغًا لمشاعرك ومُرضيًا لعواطفك، وهذه هي معايير النجاح الأبرز. بالفعل، أنت تنتظر رضا الجمهور والنقاد وإعجابهم بفنك، لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو المعيار الأوحد أو الأول لحكمك على العمل من منظور النجاح أو الفشل.

9. امتدح الجهد وليس النتيجة النهائية

اجعل من نفسك ناشرًا بالتطبيق العملي لهذا المفهوم الرائع في الدوائر المحيطة بك، وسيكون هذا بمثابة إدخار لك في المستقبل عندما تتبدَّل الأدوار، عندما يُحقق أحد أصدقائك نجاحًا عمليًا، ركّز على امتداحه لما بذل من وقتٍ وجهد قبل الإطراء على النتيجة، وهذا الفعل أولى مع الأطفال ليتأسسوا على هذا المفهوم الإيجابي الحيوي، فالاكتفاء بامتداح الطفل لتحقيقه نتائج مدرسية إيجابية، سيجعله أكثر تمحوُرًا مع الوقت حول النتيجة، وبالتالي أكثر هشاشة أمام مواقف الفشل والإحباط.

10. اللجوء للطبيب النفسي والمعالج النفسي إن لزم الأمر

في حالة العجز عن السيطرة على المشاعر السلبية الناجمة عن الفشل، واستطالة المدة الزمنية للتعافي دون جدوى ودون أي تحسن، وظهور تغيرات سلبية كبيرة في الحالة المزاجية، وتأثر الأنشطة اليومية والاجتماعية بشكل ملحوظ، وتأثر الشهية، وأوقات النوم وجودته، فلابد من استشارة الطبيب النفسي للكشف المبكر عن الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب، ووضع خطة دوائية وغير دوائية للتعامل معها بالتنسيق مع المعالج النفسي.

اقرأ: كيف تتعامل مع صديق تبدو عليه أعراض مرض الاكتئاب؟

اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.

خاتمة: أين دور الدين والجوانب الروحانية؟

في هذا التقرير، ركّزنا في مواجهة التوابع النفسية للفشل، على ما يقدمه لنا الطب النفسي وخبراؤه، بناءً على الأدلة العلمية الطبية النفسية، لكن بالفعل، لا تقتصر مواجهة (الفشل) على ما يتيحه الطب النفسي من أفكارٍ وأسلحة للمواجهة، فمثلًا المبدأ الإيجابي الذي ركّزنا عليه وهو تقدير الجهد المُخلص والنية الحسنة، وإن لم يتحقق عنهما النتيجة المرجوة، يعتبر من ثوابت الدين، وهناك أنماط من التديُّن الإيجابي التي تلعب دورًا مركزيًا في مساعدة الإنسان على تجاوز المواقف الصعبة وعلى رأسها الفشل وتوابعه مثل الإصابة بالاكتئاب، وقد فصَّلنا بعض هذا الدور الذي يلعبُه التدين والروحانيات في مقالٍ سابق (هل يساعد التدين المكتئبين؟ العلم يجيب)، يمكن الرجوع إليه لتسليط المزيد من الأضواء على جوانب أخرى في المسألة.