كنا في فترة التحضير للفيلم عندما قررنا كتابة كل المواضيع التي نريد مناقشتها في السيناريو على لوح كبير: الفقر، اللجوء، العاملات الأجنبيات، البطالة، السجون، زواج القاصرات، الاتجار بالبشر. بعدها نظرت إلى اللوح وقلت: هذا كفرناحوم.. إنه الجحيم.
نادين لبكي في تصريح لموقع Vice

في عام 2006 ظهر للنور أول فيلم روائي لنادين لبكي، وكان بعنوان «كراميل»، أو «سكر بنات». تناول الفيلم حكايات كوميدية لمجموعة من السيدات في كوافير، يتناقشن حول كل القضايا المجتمعية والسياسية في بيروت. وفي فيلمها الثاني «وهلا لوين»، عرضت نادين آراءها السياسية بشكل أكثر وضوحًا من خلال قرية صغيرة تشهد بعض الخلافات بين المسلمين والمسيحيين من سكان القرية.

لنادين آراؤها السياسية والتي لا تنفصل عن أفلامها، فهي ذاك النوع من المخرجين الذين يمكن أن نفهم أعمالهم في إطار الفن الملتزم بقضية، أو الذي يطرح نوعًا ما من الجدل في المجتمع.

وفي العام الماضي، قدمت لبكي ثالث أفلامها الروائية الطويلة: «كفر ناحوم». عُرض الفيلم في مهرجان كان، وحاز إعجاب الجمهور، ولجنة التحكيم أيضًا التي منحته جائزتها، كما رُشح أيضًا لجائزة أوسكار أفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية، وعُرض في العديد من المحافل والمهرجانات السينمائية الأخرى، مثل مهرجان روتردام السينمائي الدولي مطلع هذا العام، والذي حاز فيه الفيلم على جائزة الجمهور.

يحكي «كفر ناحوم» قصة الطفل زين، المسجون في سجن الأحداث جراء طعنه رجلًا، والذي يشكي أباه وأمه في قاعة المحكمة بتهمة إنجابه. يبدو الأمر معقدًا في البداية، حيث نبدأ من غرفة الطبيب الشرعي الذي يفحص أسنان زين ليعرف كم عمره، لنبدأ بعدها الدخول إلى قاعة المحكمة لنسمع تلك التهمة الغريبة بعض الشيء، ونقابل المحامية نادين (والتي تقوم بدورها نادين لبكي نفسها) وهي تدافع عن الطفل زين.

يبدو إذن أن نادين تقوم بدور المحامية مرتين، مرة كممثلة، والأخرى كمخرجة تقوم بإنجاز الفيلم من أجل التوعية بحقوق زين ومن هم في مثل حالته، لكن ما الذي يجعل فيلمًا لبنانيًا ينال كل هذا الاهتمام، خاصة من المشاهد غير العربي؟


ليس هناك فن من أجل الفن

أحد أهم أسباب انتشار الفيلم في المهرجانات هو مضمونه الذي يحتوي العديد من القضايا المجتمعية، والسياسية، التي تشغل العالم بالطبع في الآونة القريبة الماضية مثل: الهجرة، والفقر، وزواج القاصرات، وتجارة الخادمات، والمخدرات، وحقوق الأطفال. ويبدو أن نادين كانت تعي تأثير عرض أكبر قدر ممكن من القضايا في الفيلم، وأنه كلما زاد عدد القضايا، زادت فرص الفيلم في الوصول إلى المهرجانات، وإلى عدد أكبر من الجمهور، خاصة وإن كانت تلك المواضيع تحظى باهتمام المهرجانات والمحافل السينمائية العالمية. وهو ما حدث بالفعل.

تذكر نادين أيضًا،في حوارها المنشور على موقع العين الإخبارية:

لكن، هل تصل نادين حقًا إلى الجمع ما بين القضية والمستوى الفني الذي يتناسب مع قوة الموضوعات؟

على مستوى الشكل، تختار نادين دراما قاعة المحكمة كإطار عام للفيلم، وتستغل تهمة غير معتادة لجذب الانتباه. زين يتهم أبويه بإنجابه. إنها تهمة تجعل من المحكمة وكأنها محكمة فلسفية بعض الشيء. إنه سؤال قد يخطر على بال كل البشر، لكن هل فكر أحدهم من قبل أن يحاكم والديه حقًا على فعلتهما؟ يبدو الأمر غريبًا بعض الشيء، وربما يكون السؤال أكبر من وعي الشخصية (زين)، لكنه يلفت انتباه المشاهد لمعرفة ما الذي أدى بهذا الطفل للوصول إلى هذه النقطة.

اقرأ أيضا: السينما اللبنانية: من الحرب إلى الأوسكار

تختار نادين البدء من نقطة ما قبل النهاية مباشرة، وهو اختيار ذكي، لأنها النقطة الأكثر جذبًا للاهتمام في الفيلم. ثم تنتقل إلى تصوير أوضاع الطفل زين، في وسط بيته المزدحم بالبشر، والذي يتركه زين بشكل ثوري احتجاجًا على تزويج أهله لأخواته القُصر. بيت ضيق، يستمع فيه الأطفال، إلى صوت والديهما بينما يمارسان الحب، وزقاق ضيق يسع البيت والسوبر ماركت حيث يبُاع الإندومي الذي تعتبره سحرًا كرفاهية، تحب أن تحظى بها من البقال.

تبدأ رحلة زين بعدها، بانطلاقه للبحث عن معيشة أفضل في مدينة لا تأبه كثيرًا لفقرائها. تظهر المدينة بشكل واضح في خلفية المشهد، مدينة ذات ناطحات سحاب عملاقة، وطرق سريعة. هذا الجزء لا ينظر أبدًا إلى عمق المدينة العبثي، الملئ بالفقر، والتهميش، والفساد. إنهما عالمان متصلان من حيث جغرافية المنطقة، ومنفصلان من حيث سبل المعيشة. يقابل زين أبطال هذه المدينة العبثية: صرصور مان الذي يعمل في مدينة الملاهي، ورحيل الخادمة الأفريقية الفارة من سيدتها، وطفلها يوناس. يتورط زين بسرعة ليصبح هو المسئول عن يوناس.


فيلم من بطولة طفلين

الشق الثاني الذي يجعل الفيلم جاذبًا للجمهور، هو اختيار الممثلين (الكاستينج) الجيد، واختيار أن يكون بطلا القصة طفلين. قامت لبكي بالنزول إلى المناطق المهمشة، واختيار الطفل زين من هذه البيئة بالفعل، وهو ما جعل أداءه للدور يأتي بشكل واقعي للغاية. كذلك الأمر مع يوناس الذي يعيش بلا أهل لأن أهله دخلوا السجن، ورحيل التي تم إيقافها بالفعل بعد يومين من التصوير.

هذا الاختيار يجعل القصة مؤثرة. فعلى مستوى ما، تُبنى القصة بشكل تسجيلي وكأنها مستمدة من الواقع، أو مبنية على أحداث حقيقية، وهو عامل جذب مهم. والسبب الثاني هو فكرة تعرض طفلين لكل هذه المآسي. هنا تتحرك المشاعر بشكل أكثر قوة وحدة، لأن الأطفال من أضعف وأرق المخلوقات على هذا الكوكب، ويجب أن يخضعوا لاهتمام ورعاية لائقة بغض النظر عن أي شيء.

يعد الجزء الذي يبدأ فيه زين رحلته، والذي نراه فيه مكتشفًا للعالم من حوله، ومتعرفًا على مدى خراب الوضع، وحتى العودة إلى لقطات المحكمة التي توجد في نهاية الفيلم، هو الجزء الأكثر سينمائية وحميمية، إذ نبتعد قليلًا عن أجواء الخطابة السينمائية التي تظهر في مشاهد المحاكمة، وتُخلق المواقف الكوميدية والعبثية، بينما يحاول زين إطعام يوناس، ورعايته. هناك أيضًا بعض اللحظات التي يؤدي فيها الطفلان أدوارهما بشكل مؤثر للغاية والتي تجعل الجمهور، خاصة من لم يشاهد مثل هذه المواقف في حياته، منبهرًا بما يحدث ومعتبرًا نادين لبكي مخرجة قادرة على التأثير.

تتحرك السياسة لتظهر في خلفية الفيلم، حيث يكون للمشاهد في الجزء الذي يخرج فيه من قاعة المحكمة أن ينظر، وأن يفكر، ويستمتع بطزاجة هذه المواقف التي تنشأ جراء الرحلة. أسئلة كثيرة نعيد التفكير بها، بينما يواجه الأبطال في رحلتهم أشياء ربما اعتدنا سماعها كثيرًا في أشرطة الأخبار، وفقدت تأثيرها المفزع علينا، لكنها تمسنا من جديد بشكل يجعلنا نعيد النظر في تلك المسائل.


بين الخطاب السياسي والخطاب الفني

ليس هناك فن من أجل الفن في المطلق، أو أن هناك أفلامًا هادفة فقط، هناك النقيضان، ومن الجيد أن نتكيف مع كل أنواع الفن، وفي تجربتي في فيلم «كفر ناحوم» كنت أسعى لتقديم فن هادف، لتوصيل صوت هؤلاء الأطفال المهمشين، فبالنسبة لي موضوع الطفل موضوع أساسي، وشعرت أن من واجبي أن أتطرق إليه.

تُفسد نادين كل هذا الزخم بعودتها إلى قاعة المحكمة في نهاية الفيلم، وحشو المشاهد بالخطابة السياسية الفجة التي، وبدلًا من أن تطرح الأسئلة، لا تطرح إلا أجوبة تقليدية لم تؤتي ثمارها بأي حال في المجتمعات العربية، وبشكل متعالٍ بعض الشيء عمن تُصوِر الفيلم عنهم (المهمشين والفقراء). أجوبة أيضًا اعتدنا سماعها في نشرات الأخبار لكن بشكل مختلف، كما في رحلة زين ويوناس إذ يأتي الجزء الأخير ليدمر كل هذا الطموح السينمائي، ويحول الفيلم إلى مجرد نشرة أخبار معتادة.

إذن ينقسم الفيلم إلى جزءين، جزء خطابي، مهتم بتسجيل المواقف والكلمات لاعبًا دور الإعلام الذي درسته نادين، والجزء السينمائي الذي يجعلنا ننجذب حقًا إلى زين ورحلته وآلامه ونفكر فيها بشكل مختلف. الجزءان متناقضان بشكل ما، فالجزء السينمائي، يقوم بدور الجزء الخطابي بالفعل، دون الصياح في وجه المشاهدين بما يتوجب فعله، والجزء الخطابي، يُفسد نوعًا ما الجزء الآخر، حيث يملي علينا ما يجب فعله إزاء القضية، وهو ما يفقد الفيلم جزءًا من قوته بالفعل.

ربما لا يتضح هذا الانقسام بالنسبة للجمهور الأجنبي المُعجب بشدة بالفيلم، ولكن بالنسبة لأغلبية الجمهور العربي الآتي من خلفية تمر بمثل هذه المشاكل بشكل يومي، أو تراها في يومها العادي على الأقل، يظهر هذا الفارق بشكل بيّن. وبالرغم من ذلك، فإن نادين تبدو أنها قد حققت هدفها التوعوي الذي تصبو إليه حسب ما تذكر في حواراتها.

الأمر الآخر، أن الفيلم وبرغم ما يعيبه من أخطاء، فإنه قد تم تنفيذه بطريقة محكمة تجعل مشاهدته لطيفة. ويبقى السؤال، حول مدى بقاء مثل هذا النوع من الأفلام في ذاكرة السينما، والمشاهدين على حد سواء، حتى وإن حققت تأثيرًا وقتيًا على أرض الواقع.

تتعامل نادين إذن مع السينما كوسيلة للدعاية السياسية لأفكارها، وكوسيلة للوصول إلى شكل توعوي بمشاكل المجتمع. الأمر الذي وإن بدا مفيدًا نوعًا ما، إلا أنه لا يختلف كثيرًا عن طريقة القنوات التلفزيونية، إلا فيما يخص وجود الحرفة السينمائية التي تمتلكها لبكي. نادين تقترح أيضًا في حوارها أنها تطرح المشاكل لا الحلول، لكنها في الفيلم تطرح بعضًا من الحلول على لسان الطفل زين ذاته، وهو الذي يقول جملًا أثناء المحاكمة تشي بأن نادين قد بالغت في وعي هذه الشخصية، وحملته حوارًا لا يمكن أن ينبع من عقله، بل من عقلها هي، وهذا واحد من عيوب الفيلم القاتلة.