كثيرًا ما حيَّرني سؤال هل نحب الأعمال ذات الثقافات المختلفة بسبب ببراعة كتابتها؟ أم بسبب انبهارنا بهذا العالم الجديد ذي التقاليد الغريبة؟أيًّا كان فهناك أعمال كثيرة تستحق الإشادة والإشارة، ربما يفتح لنا الأدب بابًا للتاريخ والسياسة والاجتماع، ولكن هذه المرة في مكان جديد تمامًا.

الأدب الآسيوي ثري وواسع رغم أن أغلب قراءتنا العربية تدور حول الصين واليابان لكونهما الأكثر ترجمة، اليوم سوف نتحدث عن عمل روائي آسيوي، ولكن هذه المرة البطل هو إندونيسيا.

فتاة السجائر

العمل هو رواية من الأدب الإندونيسي الحديث، صدرت الرواية عام 2012 بينما صدرت الترجمة العربية عام 2018. حبكة الرواية تنقسم لرحلة الحاضر في البحث عن الماضي من خلال مقارنة بين ما حدث قديمًا ونتائجه الحقيقية، حيث لا مكان للآمال والتوقعات العالية.

حبكة الحاضر تبدأ بسجائر «الكون العظيم» الشركة الكبرى في إندونيسيا الحديثة، والتي كوَّنت ثروتها من السجائر، ثم واكبت العصر وتطرقت إلى العديد من الصناعات الأخرى. في هذا التوقيت يوشك رئيس الشركة ومؤسسها على الاحتضار، بينما يتمتم باسم امرأة غريبة، لذا يقرر الأبناء الذهاب في رحلة إلى قريتهم القديمة لمعرفة سر هذه المرأة، وأيضًا حكاية شركتهم ونجاحها العظيم.

أما عن حبكة الماضي فهي تبدأ في الأربعينيات، وتروي صراعًا بين عائلتين تصنعان سجائر محلية، ونزاعهما في استخدام حيل لصنع وتسويق المنتجات في بيئة قرية زراعية لا تملك أي مقومات للنجاح أو لإقامة عمل استثماري.

يفضل الناس في مدينة إم لف سجائرهم بأنفسهم، كانوا يلفون التبغ في أوراق النخيل الجافة، كانوا يشترون التبغ والأوراق، كلًّا على حدة، ويلفونها يدويًّا بعد ذلك، في بعض الأحيان يضيفون جذور «الراوند» أو «اللبان» للتبغ للحصول على مذاق أفضل، لكن إدروس موريا يمتلك حلمًا أكبر من هذا كله، أراد أن يكون رائدًا في صناعة السجائر في مدينة إم.

صراع سجائر أم نموذج لتطور دولة؟

كما ذكرت فإن مدار الرواية حول تنافس رجلين، ثم عائلتين، ثم مصنعين، ولم يكن الصراع بينهما للشهرة والثروة هو الوحيد الذي ينمو، بل تنامي تجارتهما يعني بشكل أو بآخر تطور الدولة أيضًا.

لذا يجب أن نتحدث أولًا عن الخلفية السياسية والاقتصادية للأحداث. تدور أحداث الرواية في دولة لا تدعى إندونيسيا، بل كانت تدعى وقتها «الهند الشرقية الهولندية»، وقد كانت تحت الاحتلال الهولندي إلى أن استحوذت عليها اليابان في الحرب العالمية، استبشر السكان الأصليون بوصول اليابان وطردهم المحتلين القدامى، كما أن اليابان شكلت عنصرًا مهمًّا في اقتصاديات السكان ذوي الحرف أو الأعمال الصغيرة، وكانوا يعتمدون على السكان في توفير العديد من المستلزمات اليومية (من ضمنها السجائر بالطبع)، مما تسبب في تكوين ثروة صغيرة لبعض هؤلاء السكان والمزارعين.

لكن الود بين القوات اليابانية والسكان الأصلين سريعًا ما انقلب إلى رعب مع اشتداد الحرب العالمية الثانية واضطرار القوات اليابانية إلى خطف الرجال عشوائيًّا من الشوارع للزج بهم في معسكرات العمل.

قال له أحد كبار السن الذين تصادف مرورهم أمام المدرسة إن اليابانيين قد أجبروا معلمي المدرسة على العمل في معسكرات العمل الخاصة بهم، ومن ثم أُغلقت المدرسة لأنه لم يعد هناك معلمون من أجلها، بعد ذلك سمع إدروس موريا إشاعات أن اليابانيين كانوا يعتقلون الكثيرين من أجل العمل لديهم، إجبار الناس؟ لماذا؟ كان يصعب على إدروس موريا أن يربط بين الإجبار وبين اليابانيين، ألم يكونوا هم من خلص إندونيسيا من الهولنديين؟ ولو طلبوا من الناس العمل لديهم برفق لكان الناس وافقوا على العمل، لماذا يلجئون للإجبار إذن؟ لكن أسئلة موريا سرعان ما وجدت إجاباتها حينما ذهب للعمل في اليوم التالي وأعلن باك تريسنو أنه سوف يغلق مصنع السجائر الخاص به، أعلن أن كل السجائر التي لفها العمال في اليوم السابق صادرها اليابانيون من أجل المجهود الحربي.

لا شك أن تأثير هذه الفترة المضطربة التي امتدت من (1942 إلى 1945) قد أثر على اقتصاديات الدولة من خلال السكان الذين تعلموا استغلال الأزمة لصالحهم وبناء شركاتهم ومصانعهم الخاصة داخل حجرات منازلهم الضيقة بلا تعليم أو حسابات، بل بالاعتماد على رؤيتهم للسوق واحتياجاته.

السجائر كشغف وعمل ورمز أدبي

براعة الرواية تكمن في وضع رمز يناسب كل شيء تقريبًا. بالنسبة للأبطال فإن السجائر هي الشغف والحب الذي دفعهم لهذه الصناعة، وكانت هي الأمل في ثروة وحياة مريحة، ومثلت أيضًا دور الاقتصاد في أبسط صوره بين يد القرويين.

لقد امتلكت السجائر حياة عائلات وعمال ومصانع أفنوا فيها حياتهم، وفي النهاية كانت السجائر هي ما صمدت في وجه الزمن، وبقيت موجودة، لا البشر ولا مجهودهم.

لكن واحدة من أهم العوائق التي تواجهنا أثناء قراءة عمل يدور حول شيء واحد هو الإغراق في هذا الشيء، تكررت هذه المشكلة في عدد من الأعمال الأدبية الأخرى، البعض يكتب رواية عن الرياضيات، فنجد أن العمل تحول في النهاية إلى مسألة حسابية لا عمل أدبي.

لذا يمكننا أن نعتبر أن الكاتبة قد حولت السجائر من رمز يكثر استخدامه إلى شغف لدى الشخصيات وجزء منهم لا يمكن انتزاعه، وهي واحدة من أقوى نقاط الرواية.

هل يوجد سبب واحد لقراءة العمل؟

ذكرت في بداية المقال أن اختلاف ثقافة هذا العمل والتاريخ الجديد الذي يعرضه يضفي عليه طابعًا خاصًّا يجعله يستحق القراءة، لكن هناك جوانب أخرى أدبية يجب أن نذكرها.

تتبع الرواية أسلوبًا سرديًّا بسيطًا للغاية وغير معقد؛ لذا ظهر التميز الأدبي للرواية في التنقل بين الماضي والحاضر والقفزات الزمنية في كل قصة بحيث لا تأخذ قصة أكثر من وقتها أو أقل.

ترجمة العمل إلى العربية جيد للغاية، أثناء تصفحي والبحث عن الكاتبة (راتيه كومالا) وجدت أن هناك العديد من الشكاوى الخاصة بترجمات أخرى، وأنها لا توضح المصطلحات الخاصة بالثقافة الإندونيسية بينما الطبعة العربية لا توجد بها هذه المشكلة.

الرواية هي تجربة أدبية وثقافية تستحق القراءة، أدبية لكونها ممتعة ذات سرد بسيط وشخصيات متعددة ذات أفكار متنافرة ونتابع تطور الشخصيات والأفكار على حد سواء حتى نصل إلى قصة ذات نهاية واقعية وممتعة في آن واحد.

أما على المستوى الثقافي فالكاتبة الإندونيسية قد أحاطت بجوانب عدة لثقافة الدولة الشعبية بين المزارعين والأميين ونمط حياتهم وتقاليدهم وأساطيرهم الشعبية كذلك.