تناولنا في الجزء الأول كيف ظهر الجنيه من خلال شاشة السينما المصرية من الثلاثينيات وحتى الستينيات، وما تبع تلك العقود من تحولات اقتصادية محورية أدت إلى تحولات جذرية في قيمته واستخداماته. ونسعى لاستكمال تلك السلسلة الزمنية من خلال الأسطر القادمة.


السبعينيات وما أدراك ما السبعينيات

في السبعينيات تغيرت الحياة بشكل لافت، فعلى صعيد الفن شكلت هزيمة 1967 علامة فارقة، فظهرت بشكل فج سينما المقاولات معتمدة على التمويل الخليجي، ووفقًا لما ذكره «جان ألكسان» في موسوعة «السينما في الوطن العربي»، فإن 80 % من أفلام السبعينيات كانت أفلامًا تجارية وفقط 20 % هي التي يمكن وصفها بأنها سينما حقيقية.

ففي البداية خرجت السينما من عباءة الدولة وتحررت من إرث الستينيات أو ما عُرف باسم «مرحلة القطاع العام»، وكان هذا الخروج مجرد مؤشر على التحولات الاقتصادية التي شهدها النظام من المرحلة الناصرية إلى مرحلة السادات وتغير الأيديولوجيات، ومن ثمّ تزامن تحول السينما من القطاع العام للخاص نفسه تحول سياسات المرحلة ككل الأمر الذي أثر على شكل الحياة وقيمة العملة والتضخم. ويُمكن القول، إن إرهاصات السبعينيات اقتصاديًا ما زالت قائمةً حتى اليوم.

ففي أحد المشاهد من فيلم «ثرثرة فوق النيل» عام 1971، والمأخوذ عن رواية «نجيب محفوظ» والتي تصف بشكل فني التردي في أروقة المجتمع، فشخصية «ليلى زيدان» الفتاة التي تعيش ظروفًا اجتماعية قاسية وترعى أمها وأخواتها بطرق غير شريفة، نجدها وقد افتتنت تمامًا بشهوة المال إذ تسعى لاستكمال الـ700 جنيه ليصبحوا 1000 فتصبح قادرة على سداد مبلغ 600 جنيه «خلو» شقة في الزمالك و400 جنيه نظير شراء سيارة.

وفي سياق متصل من فيلم «البحث عن فضيحة 1973» يتقدم «عبعظيم أحمد عبعظيم» الموظف بالدرجة السادسة بمرتب 35 جنيها، ما يُعادل الآن رقميًا – وليس من زاوية القوة الشرائية بالضرورة – 840 جنيها مربوط الموظف بالدولة بنفس الدرجة.

وعلى صعيد كوميدي آخر أحد المشاهد من فيلم «مدرسة المشاغبين» عام 1973 يرصد بعض التحولات المالية لا سيما في الزواج، فنجد «مرسي» يحاول إقناع أبيه المعلم الزناتي بدفع مبلغ 2000 جنيه كمهر وشبكة للأستاذة «عفاف» الأمر الذي يستصعبه كثيرًا الأب مستنكرًا هذا المبلغ الهائل والذي يكفي لشراء «مرشيدس» على حد قوله. وفي نفس إطار المزايدات على المهر بين الراحلين «محمد رضا»، و«توفيق الدقن» بشكل تعمد فيه المخرج إظهار المبالغة ماليًا وكأنها صفقة تجارية، فيقوم «المعلم الزناتي» برفع السعر إلى 2000 جنيه كمهر و500 جنيه شبكة ليتفوق على غريمه.

ولفهم العلاقة بين سينما السبعينيات والجنيه المصري يعدُّ فيلم «ولا يزال التحقيق مستمرًا» عام 1979، هو أبرز مثال على روح هذا العِقد. نجد «حسين» المدرس المؤمن بقيم التعليم والمُثل والأفكار، غير العابئ بتغيرات المجتمع الاستهلاكية ويقف في وجهه الجميع بدءًا من صديقه «مدحت» الفاشل دراسيًا، رجل الأعمال الثري العائد من أوروبا الذي لا يفهم سوى لغة المال والأعمال، و«نافع» الموظف المرتشي بالجمارك الذي يتكسب من الرشوة على مسمع ومرأى الجميع.

ففي أحد المشاهد يقوم «مدحت» رجل الأعمال العائد من أوروبا بتأجير مكتب في قصر النيل دفع فيه 20 ألف جنيه، فتعتلي الجميع نظرات ملؤها الانبهار. وفي محاولة لإغراء «حسين» لترك التدريس والعمل معه يعرض عليه 200 جنيه بالإضافة إلى مرتبه والذي يبلغ 58 جنيهًا.


الثمانينيات والتسعينيات

على الصعيد الفني ابتدأ كل شيء في الثمانينيات، فقد شكلت تلك الفترة الملامح الفنية التي ستسود لفترة طويلة تُقارب الثلاثين عامُا فاحتفظت بأغلب نجوم صفها الأول، ولم تشهد عمليات الإحلال السريعة التي شهدتها العقود السابقة. أمّا على الصعيد الاقتصادي فلم تختلف كثيرًا السياسات المالية في الثمانينيات عن السبعينيات بل سارت في فلكها وعلى أثرها، ولكن بتسارع أعلى.

ظهر بشكل أكثر وضوحًا أثر السياسات الاقتصادية للسبعينيات على الثمانينيات، فنكاد نلاحظ بوضوح الصراع المتكرر في غالبية الأعمال بين القيم والمُثل العليا والمبادئ المجردة من ناحية، وبين المال الذي يستطيع شراء أي شيء من ناحية أخرى، وتأكدت تلك التيمة في أكثر من عمل مثل «انتبهوا أيّها السادة 1980»، و«الكيف 1985»، و«البيه البواب 1987»

ففي تلك الأعمال نجد شخصيتين محوريتين تمثل كل منهما اتجاها مناقضا للآخر. إما نموذج المال المرتبط بأنشطة الكسب السريع غير الأخلاقي، وإما الحياة المعتدلة البسيطة ذات المبادئ المجردة.

وعلى سبيل المثال نجد في فيلم الكيف «د.صلاح» الذي يسعى للحصول على 800 جنيه لإدخال ابنه المدرسة، مما يُثير سخرية أخيه «جمال» وتهكمه من سنوات دراسته الطويلة، ودرجاته العلمية من ماجستير ودكتوراه، ومرتبه الذي لم يتجاوز 250 جنيهًا بعد كل هذا المجهود الذي لا يُعادل أجر مهرج. وفي سياق تال من نفس الفيلم مشهد هزلي نجد فيه جرام الذهب بـ12جنيهًا مما يُعطي صورة واضحة لما كان الوضع عليه في الثمانينيات مقارنةً بما هو الآن.

وفي فيلم «البيه البواب» تدور الأحداث حول «فرحات» الموظف بالقطاع العام الذي يجد نفسه على المعاش بثلاث وثائق استثمار قيمتها 90 جنيهًا فقط، وسط براثن الحياة الاستهلاكية.

والفيلم ينطوي على الكثير من الإشارات المالية، إلا أنّ أبرزها سؤال «عبدالسميع» للشاب الجامعي «صلاح» عن الدولار فيجيبه: «ده يا سيدي اسمه الدولار، ده بقى الفتوة بتاع الناس الغلابة، الفتوة الكبيرة الأوي، ده نصير الأغنياء وهادم الضعفاء، من تمسك به نجا وحلق في السماء العالية، ومن تخلى عنه ضاع وراح في ستين ألف داهية»، ثم يستتبع سائلًا الأستاذ فرحات عن سعر الدولار فيُخبره بأنه بـ190 قرشًا. ولأول مرة يظهر الدولار في السينما المصرية بمظهر الريادة فكان السؤال عن سعر الدولار مقابل الجنيه وليس سعر الجنيه مقابل الدولار.

وينتهي الصراع سالف الذكر بين المال والقيم بتفوق كاسح للمال وقيم الثراء والكسب السريع، وتستمر الهوة في الاتساع شيئا فشيئا وتتحول فلسفة المال في التسعينيات لا إلى وصف الصراع بل إلى رؤية نتائجه وآثاره.

ففي فيلم «بخيت وعديلة 1995» نجد الموظف «نزيه» الحاصل لتوه على درجة الماجستير، في مشهد صُمم بإطار من الكوميديا السوداء، وقد سافر خصيصًا من طنطا للقاهرة ليُخبر خطيبته «عديلة» بأن مرتبه قفز قفزة مهولة على إثر علاوة الماجستير والتي بلغت 7 جنيهات، فتنعته في أحد المشاهد التالية «اسكت يا موظف» في إشارة لما طال تلك الطبقة اجتماعيًا من تآكل.

وفي إطار لاحق من نفس العمل إشارة أخرى لمدى التدهور في سعر الجنيه مقابل الدولار لنجد الدولار يساوي 330 قرشًا وبزيادة 42% عن فيلم «البيه البواب» في أقل من 10 سنوات.


الألفية الجديدة

استمرت موجات الغلاء وتآكل الجنيه وذلك مع استمرار سياسات التحول الهيكلي لتقليص الدور الحكومي في الحياة العامة والإنفاق العام والتي قد بدأت منذ السبعينيات، فازداد التآكل الرأسمالي للجنيه فيظهر في «فيلم أصحاب ولا بيزنس 2001» سعر الدولار من خلال مسابقة تلفزيونية قيمة جائزتها الكبرى 10000 دولار ثم يستتبع مُقدِّم البرنامج «طارق» بأن الدولار بـ 4 جنيهات.

ثم يصل الدولار لمستوى جديد غير مسبوق في 2010 في مشهد به الكثير من الأسى حينما يذكر «راضي» لـ«مصري» في فيلم «عسل أسود» أن سعر الدولار هو «خمسة جنيه ونصف». وتكمن أهمية رصد تلك التحولات في سعر الدولار على المستوى السينمائي في رسم ملمح مهم، إذ يمكننا وبشكل أوليّ، الاستدلال بقيمة على التغيرات في سعر الدولار للإشارة بشكل عام إلى تغيرات مماثلة في القوة الشرائية للجنيه.

وفي فيلم «عايز حقي 2003» ومشهد المزاد والذي يدور حول بيع نصيب المواطن في المال العام، نجد «شوقي» الذي يتولى الإشراف علي المزاد معلقًا بإطار من الكوميديا السوداء أن المزايدة ستتم بالدولار وليس بالجنيه، إذ على حد تعبيره «الجنيه من ساعة ما عوّمُوه ضرب الغطس ماقبِّش تاني» في إشارة إلى القرارات الاقتصادية المُتخذة في 2003 والتي أدت إلى ارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه بنسبة تُقارب 50%.

وفي فيلم «قص ولصق 2007» للمخرجة هالة خليل، وفي أحد مشاهد الفيلم يدور الحوار بين «شريف منير» الذي يلعب شخصية «يوسف» وصديقه «فتحي عبدالوهاب» الذي يجسد شخصية «سامي» حول أسعار العقارات في أحد المدن الجديدة والخاصة بمشاريع إسكان الشباب، وفي إطار تهكمي تسوده نبرة السخرية يذكر «سامي» لصديقه : «الشقق دي كلها فاضية» فيُثار فضول صديقه يوسف ليسأل عن أسعار تلك الشقق، فيجيبه بأن صديقهما «تيتو» يدفع قسط شهري قيمته ألف جنيه، لترتفع علامات الدهشة الممزوجة بالحزن على وجه صديقي ليستتبع «سامي» بأن أسعار تلك الشقق تتراوح بين 100 و120 ألف جنيه ثم يختتم سامي حديثه المشوب بالألم : «عرفت ليه بقى كل الشقق دي فاضية»

وبالنهاية فإن تلك الرحلة المالية للجنيه من خلال السينما المصرية على مدار عقودها الماضية إنما تهدف لا إلى الحنين فحسب لأزمان فائتة، وإنما إلى رؤية قد تبدو أوليّة وبسيطة نحو تأريخ شكل الحياة الاقتصادية للمصريين من خلال زاوية غير رسمية ألا وهي السينما حتى وإن كانت غير دقيقة بشكل كامل إلا أنها ذات مؤشر ودلالة على ما لحق بهذا الاقتصاد من تحولات لا يُمكن إنكارها.


لقراءة الجزء الأول من المقال من هنا