سبتمبر/ أيلول 1990م والصيف يلفظ أنفاسه، الأخضر الإبراهيمي المبعوث العربي والأممي إلى لبنان يستقل الركب قبل مغيب الشمس؛ مصطحبًا معه المرافقين اللبنانيين إلى وسط بيروت قائلًا «هذه بيروت عشية وقف إطلاق النار، انظروا إلى هذا الخراب هذا ما فعلتموه بأنفسكم، وغدًا سيبدأ بناء لبنان بما صنعناه لكم».

متى تضع الحرب الأهلية أوزارها؟ كيف تنتهي؟ ولصالح من؟ هكذا كان التساؤل طوال 15 عامًا من الحرب الأهلية في لبنان، وهكذا هو الحال اليوم في ليبيا، فهل سيستقل يان كوبيش المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا سيارته يومًا إلى وسط العاصمة الليبية طرابلس ليُنَّظر على مرافقيه الليبيين.

هكذا توالت التهنئة الدولية والإقليمية بتشكيل المجلس الرئاسي الجمعة 5 فبراير/ شباط، وتصاعد التفاؤل بإمكانية نهاية الحرب التي انخرطت فيها العديد من الدول دعمًا أو تواجدًا على الأرض، بدت عشرية ليبيا منذ ثورة 17 من فبراير/ شباط 2011 أنها لن تنتهي، لأن ليبيا تفتقد لكل مقومات الدولة، ويغيب عنها مؤسسات الجيش فهي أشبه بالميليشيات الأمنية والعسكرية بالأخص بعد تدمير قوة الجيش في حرب تشاد.

أقرأ أيضًا: ليبيا «الدولة الهشة» وحفتر «الرجل القوي»

لبنان ليبيا: دروس مستفادة

انطلاقًا من التجربة العربية الرائدة في الحرب الأهلية لبنان، ومن سؤال متى انتهت الحرب وكيف؟ لنطبقها على المسألة الليبية مع تأكيد خصوصية كل واحدة منهما، بل واختلاف ظروف النشأة والوضع الاقتصادي والمكون الجهوي لليبيا عن المكون الطائفي والمذهبي، والاختلاف الشاسع بين الأهمية الأمريكية لكل منهما، وصولًا لجيران كل منهما وقوتهم، إلا أن هناك مؤشرات لنهاية الحرب الأهلية يمكن تطبيقها على النموذج الليبي وهي:

أولًا: رغبة الأطراف الخارجية في إنهاء الصراع، وذلك بعد عدة شروط: الاعتراف باللاعبين الخارجيين الفاعلين، وأن الفاعلين جزء أساسي من الحل، وعلى صعيد آخر حسم بعض الفاعلين الخارجيين للمنافسة وبقاء عدد محدود من الفاعلين الرئيسيين على الأرض كما في حالة لبنان سوريا والولايات المتحدة وإسرائيل، وثانوي مثل السعودية والعراق، وأخيرًا صياغة كل طرف لحدوده بدقة والانخراط في التفاوض والحفاظ على أكبر قدر من مصالحه من دون أذى.

ثانيًا: وجود قوى رادعة وتكافئ نسبي لكل القوى الخارجية على الأرض، التوازن النسبي هذا يتيح فرصة للذهاب للتفاوض وقبوله.

ثالثًا: إنهاك وتقليص عدد أمراء الحرب أو المومياوات، ويتحقق هذا الشرط بعد استعار الحرب واستمراريتها لأكبر وقت ممكن، مع تهديد مصالحهم الاقتصادية والتي غالبًا ما تتضاعف في فترة الحرب الأهلية، ويؤدي خنقها لرضوخهم لضغوط الخارج الذي رغب في التفاوض ابتداء.

رابعًا: انشقاق معسكرات المطالب الصعبة، مثل انشقاق ميليشيا القوات اللبنانية بقيادة جعجع عن الجيش اللبناني بقيادة مشيل عون، حيث كان المعسكر الماروني والجيش يُصران على إقصاء اللاعب السوري من المشهد.

خامسًا: تراجع أولوية اقتصاد الحرب وتشبع النخب التي توسعت ثروتها من خلالها، وتحول الحرب دينامو نمو الثروة إلى منجل يجتثها ويهدد وجودها، فتسعى تلك النخب للتهدئة، أو على الأقل الانخراط في العمل السياسي بدلًا من العسكري، ولا ينفي هذا استخدامهم العنف طوال فترة التفاوض بين الفينة والأخرى.

كيف تشكل المجلس الرئاسي؟

شكلت البعثة الأممية ملتقى للحوار العام الماضي مكونًا من 75 مندوبًا، مُثل فيه أقاليم ليبيا الثلاث برقة وفزان وطرابلس، كما مثلت القبائل والفاعلين الجهويين والعسكريين، ودب الخلاف على ضم تيار سيف الإسلام القذافي أم لا.

استضافت تونس الحوار برعاية الرئيس التونسي قيس السعيد، خلص الحوار إلى اتفاق في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بعد تقديم السراج استقالته من منصبه بناء على تفاهمات مصرية تركية عبر قنوات سرية، ودفع مصر بعقيلة صالح في المفاوضات بدلًا من الجيش الوطني الليبي بقيادة حِفتر.

وقد اتفق المشاركون على إجراء انتخابات وطنية في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، على أن يتم تشكيل مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أفراد، بنظام المحاصصة أو المواثيق بين الأقاليم الثلاث، إضافة لرئيس حكومة يتم التوافق عليه، وبأن توزع المهام بينهم، على ألا يترشح أي أحد منهم في انتخابات نهاية 2021.

يجتمع 75 ممثلًا لمكونات الشعب الليبي والنخب، ويتم اختيار المجلس المؤقت عبر مرحلتين الفردي على أن يحصل المرشح على 70% من اقليمه، وفي حال فشل التصويت الفردي نذهب لمرحلة القوائم والتي تقسم على طريقتين، في الخطوة الأولى يصوتون لاختيار رئيس للمجلس من المرشحين، فإذا حصل أحدهم على 6 أصوات من إقليم برقة- الشرق- و3 عن إقليم فزان- الوسط والجنوب- و8 عن إقليم طرابلس- الغرب الليبي- بمجموع 17 صوتًا؛ يذهب الفائزون للخطوة الثانية، وهي التصويت على القائمة حيث يقدم كل مرشح قائمته لأعضاء المجلس الآخرين ورئيسًا لوزراء الحكومة الوطنية، ولا تحسب الاصوات التي امتنعت من مجموع الأصوات.

على أن يضطلع المجلس الرئاسي بمهام ثلاث رئيسية:

  • إطلاق مسار المصالحة الوطنية وإجراء الاتفاقات الفنية والسياسية بين جميع أطراف الصراع.
  • القيام بدور القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتوحيد القوات العسكرية تحت أمرته- وهذه إحدى نقاط الخلاف القوية- كما يحتكر قرار إعلان حالة الطوارئ دون سواه.
  • بناء مؤسسات الدولة والإشراف على الانتخابات، وتعيين السفراء وكل القيادات المؤسسية في البلاد.

وعلى أن تشكل حكومة ائتلاف وطني، خلال 21 يومًا من تسمية المجلس الرئاسي، وأن تكون مهامها تنفيذية، كما تسعى لتنفيذ الأمور التقنية التي جرى الاتفاق عليها سابقًا، وما سيجري الاتفاق عليها في المؤتمرات اللاحقة.

اقرأ أيضًا: الموت المقبل من الشرق: كيف وصل حفتر إلى أبواب طرابلس؟

حامد كرزاي ليبيا: هل غابت المومياوات؟

اجتمع ملتقى الحوار الليبي قرب مدينة جنيف السويسرية 5 فبراير/ شباط 2021؛ لتسمية أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الوزراء، وقد ترشح أكثر من 24 شخصًا لملء منصب رئيس المجلس، وضمن أربع قوائم مترشحة كانت أقوى قائمتين وهما: عقيلة صالح الذي ينتمي إلى إقليم الشرق، محمد المنفي المنتمي إلى إقليم الشرق أيضًا.

تقدم الاثنان بقائمتيهما التوافقية فتحالف عقيلة مع فتحي باشاغا وزير الداخلية في حكومة الوفاق والمقرب من تركيا على شغل منصب رئيس الحكومة الوطنية المؤقتة، في حين تقدم المنفي باسم رجل الأعمال عبدالحميد دبيبه المحسوب على تركيا أيضًا كمرشح لمنصب رئيس الوزراء، وقد فازت قائمة المنفي- دبيبه بـ39 صوتًا مقابل 34 لقائمة عقيلة- باشاغا.

المنفي ودبيبه لم يكونا من أمراء الحرب في ليبيا مقارنة بقائمة عقيلة، فالأول دبلوماسي ينتمي لإقليم الشرق، لكنه لم يكن متحالفًا مع برلمان طبرق والجيش الوطني الليبي بقيادة حِفتر، بل كان ممثلًا دبلوماسيًا عن حكومة الوفاق في اليونان، قبل أن تطلب اليونان مغادرته البلاد بعد اتفاق أبرمته الوفاق مع تركيا على ترسيم الحدود البحرية الليبية، بما رأته اليونان يضر بحدودها البحرية.

يتشابه سيرة المنفي وسيرة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، فالرجلان دبلوماسيان، والاثنان توليا الحكم في عمر الخامسة والأربعين، وقد عمل كرزاي مساعدًا في وزارة الخارجية في حكم رباني، ورشح لتولي منصب مندوب أفغانستان في الأمم المتحدة في حكم طالبان، قبل أن ينقلب عليهم، والمنفي مع انتمائه الشرقي فلم يحمل هم المسألة الشرقية؛ بل كان منخرطًا في التحالف مع حكومة الوفاق التي أتت عبر اتفاق الصخيرات.

حامد كرزاي الرئيس الأفغاني السابق 2001-2014

كرزاي رئيس لنظام ضعيف بشكل عام؛ والذي حكم من خلال سلطة الاحتلال الأمريكي، والرجل القوي في حسم صراع القوى السياسية الداخلية على السلطة، نجح الرجل في تحييد تحالف الشمال «يونس قانوني وبرهان الدين رباني وعبدالله عبدالله» ونزع أسلحته.

كما استطاع تفكيك العديد من الميليشيات الجهوية والعسكرية في البلاد التي تنازعه البيت السياسي، حين أفضى الواقع الافغاني إلى قوى رئيسية منها الاحتلال الأمريكي ونخبة تابعة له هي الحكومة الأفغانية، وحركة طالبان وتحالفاتها.

سعى كرزاي لبناء مؤسسات لمراقبة الفساد بمساعده غربية، كما صعد العديد من النخب حديثة السن ليزيح بعض مومياوات الحرب الأهلية الأفغانية، وقد يتحدث البعض عن النجاح الباهر لحركة طالبان في التفاوض، متغاضين عن السعي الأمريكي مع حكومة كرزاي لتوحيد السلطة في البلاد وخفض ممكنات تجاذبها، وهذا ما أدى إلى نجاح المفاوضات.

اقتضت الخطة الأمريكية تقوية السلطة الحكومية، والسيطرة على الفساد فيها، والدفع بوجوه جديدة وتكوين نخبة بديلة عن الاحتلال المباشر، ما تفتأ أن تجتذب مكونات شعبية وتوسع قاعدة مصالحها السياسية والاقتصادية، وأن تستوعب سلطة كابول التعقيد الجهوي والاثني للمجتمع الأفغاني، حيث يضمن استمرار نفوذها وتبعيتها للغرب في حال خفض عدد القوات العسكرية في البلاد.

ربما فُضلت قائمة المنفي- دبيبه لهذا السبب، تحالف الشرق بداعميه الإقليمي والدولي عبر شخص دبلوماسي ضعيف نسبيًا أمام الخارج قوي في حسم الحلف الداخلي، ودبيبه رجل الاعمال المقرب من قوات الغرب الليبي وتركيا والمغرب العربي، فهل سينجح التحالف في ذلك في ظل الوقت المحدود الذي يقل عن 10 أشهر؟

إدارة ترامب: بلورة الفاعلين الخارجيين

في بيئة العلاقات الدولية لا شيء خارج التوازن، بعد اتفاق نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بين حكومة الوفاق وتركيا، الذي اقتضى تواجد الأخيرة عسكريا في طرابلس، وبعد فشل قوات حِفتر في الحسم السريع صار الروس والأتراك يحاولون استنساخ آستانة جديدة في ليبيا، إلا أن هذه المحاولة كان من الواضح مآلها الفشل، لأن خصوصية الملف الليبي يضعها في بؤرة الاهتمام الأوروبي والأمريكي.

كما أن المحاولة التركية الروسية قفزت على حقيقة التواجد المصري الفاعل بليبيا، وهو ما ظهر جليًا في انسحاب حِفتر من موسكو قبل استكمال المفاوضات يناير/ كانون الثاني 2020، بعدها بأشهر معدودة فتحت تركيا قنوات سرية مع النظام المصري، أدى لعزله قليلًا عن التحالف الإماراتي، وحيث يستجيب النظام المصري عادة لوجهة النظر الأمريكية بشأن ليبيا، وما جعله يتوسع في ليبيا هو غياب البرنامج الأمريكي الواضح، مع تعاظم الدور المصري بحكم الجوار.

أقرأ أيضًا: هل انتهى وجود حفتر في غرب ليبيا بعد خسارته الوطية؟

أدت هذه التفاهمات إلى انسحاب حِفتر من الغرب تحت ضربات الأتراك وحكومة الوفاق، ودفعت مصر بعقيلة صالح المقبول دوليًا كوجه سياسي؛ وتنحية حِفتر في إشارة لإمكانية تخليها عن شخصه، ثم أعلن الرئيس المصري عن خط سرت الجفرة إشارة لرسم حدود للقوات التركية والوفاق مهددًا بالتدخل المباشر، هذا الخط لم يكن مصريًا فحسب بل كان أمريكيًا خالصًا، حيث سعت إدارة ترامب لعدم هزيمة أحد الأطراف أمام الآخر، كما تركت الضوء الأخضر للحليفين التركي والمصري للتدخل العسكري المعلن وغير المعلن في ليبيا.

سعت ألمانيا غريم روسيا مباشرة بعد فشل مفاوضات موسكو بالدخول على الخط بقوة، من خلال مؤتمر «برلين 1» وفيه اعترفت ألمانيا بالدور المصري، اتفق فيه على خريطة طريق مكونة من 55 بندًا، والتي أفضت إلى تشكيل لجنة 5+5 العسكرية والأمنية، واتفقوا على خروج القوات الخارجية وقصد بها تركيا وميليشيا فاغنر الروسية، والتفاوض على وقف إطلاق النار، وتوحيد المؤسسات، وذلك لقطع الطريق على الأتراك والروس إيجاد موطئ قدم دائم في شرقي المتوسط وعدم تكرار الوضع السوري.

برلين الغردقة بوزنيقة

استجابت تركيا وبدأت القنوات السرية مع الطرف المصري، خصوصًا بعد انقلاب قبرص واليونان على مصر والاتفاق مع اسرائيل في مد خط غاز المتوسط، كان أحد أهداف النظام التركي هو إيجاد صيغة حوار مع مصر وذلك في ظل تفاقم أزمة شرق المتوسط أوروبيًا، أزاحت تركيا السراج، وبدأت الأزمة في التحلحل، فبعد برلين ظهر مؤتمر القاهرة، والذي مهد لمؤتمر الغردقة، ويمكن وصف كل مؤتمر بحسب الملفات المطروحة عليه، ويمكن من خلاله فهم توازنات الأطراف الخارجية.

فبعد انعقاد اللجنة العسكرية 5+5 في سرت استضافتها الغردقة بمصر، أحد شروط مصر الصلبة هو الاعتراف الرسمي بالجيش الوطني الليبي أو تحوله لنواة الجيش الجديد؛ واحتكار السلاح في مؤسسة واحدة، وقد أبدت مصر إشارات بإمكانية تخليها عن حِفتر وهو ما أغضب الإمارات، تسعى جولات الغردقة إلى فرض خط سرت الجفرة كخط أحمر للشرق الليبي يتصف بشرعية دولية.

مؤتمر برلين وهو الحاكم لجميع تلك الاتفاقات فقد كان هدفه منع تركيا وروسيا من الانفراد بالحل في ليبيا، فأعاد مصر لاعبًا، مع مراعاته احتمالية انخراط الولايات المتحدة وخصوصًا مع قرب الانتخابات الأمريكية وقتها، مع تحجيم تركيا في شرق المتوسط، واستمرار خفض معدلات الهجرة من ليبيا، ووأد الحركات الإسلامية المسلحة، وضمان وصول النفط إلى أوروبا.

أما تونس، فقد حاولت تعويض الغياب الجزائري من خلال دعم جهود ستيفاني ويليامز المبعوثة الأممية لليبيا بالإنابة، وفيها عقد ملتقى الحوار الوطني الذي شمل تمثيلًا أكبر للمجتمع الليبي من جميع التحالفات السياسية المشكلة سابقًا.

واستضافت المغرب في بوزنيقة التفاهمات حول توزيع المناصب والمحاصصة بين الأقاليم الثلاثة، بما يراعي عكس الواقع العسكري والسياسي، وادماج أطراف جديدة لليبية في المشهد السياسي.

عادت القاهرة من جديد بمفاوضات لاستكمال البناء الدستوري والدولاني للبلاد، الاتفاقات العسكرية بالغردقة أفضت إلى تثبيت وقف إطلاق النار التاريخي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 قاب قوسين أو أدنى من انهياره، بسبب تمسك مصر الشديد بتكوين مؤسسة عسكرية واحدة للبلاد، كما حددت 5+5 موعدًا بعد ثلاثة أشهر بانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة وهو ما يقصد منه الأتراك والروس، وهو ما يصعب مهمة استمرار الاتفاق الحالي.

المجلس الرئاسي: هل كان قدوم بايدن حاسمًا؟

جاءت تركيا إلى ليبيا لعدة أسباب رئيسية، منها الحيلولة دون إحكام الطوق الأوروبي ضدها، والسعي لردع أوروبا من خلال استغلال الملف الليبي الحساس بالنسبة لهم بخصوص الهجرة والجماعات الإسلامية والنفط، وثالثًا، التوازن مع الجارة الجنوبية مصر من أجل غاز المتوسط، والحيلولة دون تحولها لشريك أوروبي في حصار الترك ومشروعهم القومي، رابعًا قطع الوصال بين أوروبا وإسرائيل بحريًا مما يحتم عليها التحالف مع الترك إن رغبت في مد خطوط غاز لأوروبا، ويؤدي هذا لإمكانية تركيا لتحول لمنصة توزيع طاقة إلى أوروبا من المتوسط وقطر وايران إن توافرت الظروف الإقليمية لذلك، وأخيرًا استمرار لانفتاح تركيا على إرثها الجنوبي العربي والإسلامي، من خلال الاقتصاد والسياسة.

على خلاف إدارة ترامب فبايدن يمتلك وجهة النظر الأوروبية في تصنيف نظام أردوغان كخطر قومي، مع الزامية إخضاعه وتحجيمه، كذلك يتخذ بايدن ووزير خارجيته موقفًا سلبيًا من النظام المصري، أدرك النظامان حجم الخطر فسعيا حثيثًا لاستباق التحركات الأمريكية ضدهما، وقد كان الملف الليبي أحدها.

يمتلك النظام المصري مرونة أكبر في الملف الليبي بخصوص إدارة بايدن، كما يتقاطع مع المصلحة الفرنسية والألمانية بخصوص الأتراك، كما يمتلك النظام المصري تجربة فريدة في سحق جماعات الإسلام التي تنظر أوروبا لها بإعجاب، وفي الوقت الذي اتهم ترامب النظام المصري بشراء الأسلحة من الروس انخرطت مصر في صفقات سلاح جديدة من الولايات المتحدة؛ في إشارة لانحيازها للحل الأمريكي وإمكانية التخلي عن التحالف الروسي المصري في ليبيا.

يتحسس الطرفان الإدارة الجديدة، ويحاولان الحفاظ على مكتسبات عهد ترامب لكل منهما، أكثر من رغبتهما في التوسع، لذا يسعى النظام المصري لإضفاء الشرعية الدولية على مطالبه في لانضمام الوحدات العسكرية تحت قيادة واحدة، وخروج القوات الأجنبية، في حين ترغب تركيا في الاعتراف الدولي بتواجدها واعتبارها جزءاً من حفظ التفاهمات السياسية.

ميزان القوة: هل تُحسم الحرب؟

ربما السؤال الرئيسي الآن؛ هل يجب التفاؤل بمفاوضات 2020 الكثيفة؟ الإجابة قد تكون غير يقينية، ببساطة لأن الهدوء النسبي هذا سيستمر لثلاثة أشهر على الأقل، خصوصًا مع الضغط باتجاه خروج الأتراك والروس، وهو ما ستواجه تركيا بسعيها لفضح التواجد المصري في ليبيا- إن وجد- وذلك لخلط الأوراق، وهو ما أدركه النظام المصري وبدأ محاولة لتحسين العلاقات بقطر والعديد من المؤسسات الإعلامية العالمية بالإفراج عن عدد من الصحفيين، وذلك لتخفيف أي حملات إعلامية في هذا الجانب من جهة، ومن جهة أخرى لإبداء مرونة لإدارة بايدن.

الحل في ليبيا الآن يذهب لإدارة بايدن، فهل ستضغط على الروس والأتراك؟ وبالتالي ستأجج الحرب في ليبيا مرة أخرى، أم ستقبل بوضع وسط دون الحل الراديكالي الذي يسعى لتحييدهم من الساحة الليبية؟ وهل سيقبل بايدن في لحظة ما بإرسال قوات أمريكية وحفظ سلام إلى ليبيا لتثبيت أواصر الاتفاقات؟ أم سيقبل بالجهد المصري الرامي للتبني الخطوط الحمراء الأوروبية في ليبيا؟ وهل سينجح في إقناع روسيا والصين في مجلس الأمن لمعاقبة مخترقي قرار منع تصدير الأسلحة؟

الرئيس الأمريكي جو بايدن
الرئيس الأمريكي جو بايدن

بالرجوع إلى المؤشرات الخمس للحرب اللبنانية، فمن الواضح أن الاستعداد الخارجي مرحلة استثنائية ومؤقتة، تعتمد على الولايات المتحدة كما حدث في اتفاق الطائف، عندما قبلت أمريكا بسوريا حافظ وأخضعت كل الأطراف لذلك من إسرائيل وحتى الفرنسيين.

بالنسبة لأمراء الحرب فما زال من المبكر الحديث عن انقسامهم وتقلصهم، مع الاعتبار بخصوصية الحالة الليبية التي يغيب عنها الاعتبار الطائفي الفج، كما في حالة اللبنانية، لكن هذا يعتمد على المنفي فهل سينجح في استنساخ تجربة كرزاي في وقت محدود.

أما بالنسبة لاقتصاد الحرب، فلم يكن قدوم دبيبه حدثًا استثنائيًا، بل هو في صلب سمات الحروب الأهلية، رجل الأعمال الليبي الذي يتمتع بأواصر مع تركيا، محاولًا تمثيل وضع رفيق الحريري، والذي سيحاول فرض رؤى ومصالح اقتصادية لشبكة علاقات ضخمه من المنتفعين، وهو ما نراه صعبًا في الحالة الليبية لعدة أسباب تقنية منها أن التمويل الخارجي الخليجي تحديدًا يذهب للشرق، وصولًا لوجود المخزون النفطي في الشرق الليبي.

ربما التفاؤل الوحيد الحقيقي، هو أن اتفاق برلين أصبح اتفاقًا تأسيسًا ولو استمرت الحرب لسنين، وأن الليبيين منذ ثلاثة أشهر ينعمون بوقف إطلاق النار، لم يكن فيه خروقات كبيرة تؤدي إلى انهياره بالكلية، وفي النهاية سيكون الحل والعقد هناك في واشنطن.