عرضت منصة شاهد مؤخرًا مسلسل «سفاح الجيزة» من إخراج هادي الباجوري، وتأليف محمد صلاح العزب، استند المسلسل بالأساس على واقعة حقيقية لقاتل يدعى قذافي فراج، تداول أخباره العديد من المصادر الصحفية ووسائل الإعلام، بينما أخذها القائمون على العمل مدخلًا فقط مع بناء خطوط درامية جديدة على الحدث الأصلي لتكون أكثر تشويقًا ومناسبة للدراما.

بداية، تبنى العمل أسلوبًا لسرد الزمن غير منتظم، بسرد أحداث متفرقة لأزمنة متعددة؛ لزيادة الإثارة وحس الغموض بالمسلسل. ثم مرحلة التأسيس لشخصية البطل (جابر/ أحمد فهمي) وعلاقاته بالمحيطين، التي كما يتم ذكرها في الحوار، فهو رجل ذو طبيعة هادئة يحبه الجميع، بالتداخل مع مشاهد القتل التي تكشف عن أفعاله الإجرامية، مع وجود خط درامي موازٍ للضابط الذي يحقق في القضية (حازم/ باسم سمرة) ومشاهد عن حياته وعلاقته بابنه، وبعض المعلومات عن وفاة زوجته وأثر ذلك على نفسية الابن.

حاول المسلسل إضافة خطوط لإثراء الأبعاد النفسية وجعلها أكثر حنكة ودرامية من الأحداث الحقيقية، وهذا مشروع بالطبع، حيث الأخبار الصحفية ما هي إلا مصادر أولية، وللمبدع حق التغيير والإضافة والحذف وفقًا لرؤيته.

لكن بالنظر دراميًّا، أولًا أغلب الخطوط المُضافة لا تثري الحدث الرئيسي، حيث محاولات إيجاد مبررات ودوافع للقتل لم يُستدَل عليها بعد من قِبل شخص السفاح الحقيقي نفسه، سوى أنه كان يريد أن يغتني ويجمع ثروة فيقوم بعمليات نصب، وكل من يكشف سره يقتله، فربما رأى القائمون على العمل أن هذه الدوافع غير كافية لبناء شخصية درامية، لذا جاءت الإضافات.

الذكر صناعة المرأة

تأتي الإضافة الأولى تخص شخصية الأم التي قدمت دورها حنان يوسف، حيث محاولة تأسيس أن سبب نتاج سفاح داخل المجتمع يعود لمشاهدته لقتل والدته والدَه في صغره أمام عينه. ومنها يتبع نفس طريقة القتل لضحاياه.

ونسبة للدراما، لم يؤسس لدوافع قتل الأم لزوجها مطلقًا، إلا بشجار وصل لمد اليد نتج عنه قتل مُبرح وليس محاولة دفاع عن النفس، فوجود شخصية مؤثرة إلى هذا الحد في تكوين «البطل الرئيسي» بالطبع تحتاج براحًا أكبر لفهم ماهية فعلها، وأسبابه. وأثره.

لكن ما حدث، هو محاولة بحث عن سبب لتكوين شخصية القاتل لإيجاد الحل «والدته قاتلة» مع تصوير مشهد لتلك الجريمة يظهر في الخلفية لتنحية هاجس الدوافع جانبًا.

ليكون ذلك ليس بتأسيس، بل بمحاولة تخلص من هم الدوافع، وينتج عنه  أيضًا أولى محاولات إلصاق العمل التهمة الرئيسية للسيدات وليس لشخص الرجل المجرم.

فثمة قصة حقيقية لا يذكر فيها أي خلفية عن الأم، مع التأكيد على أن كتابة ذلك الخط فكرة العمل نفسه، لتظهر دراميًّا مُقحمة، غير متجانسة، وتحمل بين طياتها إدانة لسيدة أخرى.

يُطبع العمل فكريًّا مع الترسيخ لمفهوم أن «الذكر صناعة المرأة»، وأنه لولاها ما كان على هذه الحال، أيًّا ما كان الحال، من متحكم، خائن، قاتل، أيًّا كانت الصفة، تلصق بالمرأة في النهاية.

ليكون التساؤل: لماذا لم يشاهد جابر المشهد نفسه يقوم فيه والده بقتل والدته، على أقل تقدير، سيكون حينها أكثر منطقية أنه يتلذذ بقتل السيدات فقط، مثلما شاهد في صغره؟

لتكون الإجابة على جميع الأصعدة واهية، فلا متطلب دراميًّا، ولا سند حقيقيًّا، ولا تأسيس متطورًا، كل ما هنالك هو إثبات أن ناتج العنف من قِبل الذكر، ناتج من تربية الأم/ المرأة.

اقرأ أيضًا: سفاح الجيزة: لماذا يتحوّل الرجال إلى قتلة؟

الطبخ تصنع هوليوودي والسيدات كـ «لحم البتلو»

على ذكر التلذذ بقتل النساء، رُوِّج المسلسل في بداية عرضه بِسمة حب البطل «للطبخ»، وظن كثير ممن لم يشاهدوا المسلسل بعد أنه يقوم بطبخ ضحاياه، وبمحاولات النظر في شخصية جابر والبحث وراء أسباب وجود تلك السمة دراميًّا، لم يظهر أي جانب في الشخصية يؤكد أو ينفي أو يترتب على فعل الطبخ، حيث لكل سمة من سمات الشخصيات دور في البناء، إلا إذا تم استبدالها أو حذفها ولم تؤثر في التطور الدرامي بشيء.

ما دور فعل الطبخ في التطور الدرامي؟ فما هو إلا زيادة لتفاصيل شخصية البطل، بجانب محاولات التشبه بالطابع الإنجليزي لمسلسل Dahmer – Monster: The Jeffrey Dahmer Story، الذي تدور أحداثه حول قاتل متسلسل آكل للحوم البشر، لزيادة الإثارة والترويج نحو طابع مختلف، وكسب شرائح جماهيرية تحب هذه النوعية من الأعمال، وكأنه يطبخ ضحاياه، ليكتشف مع مشاهدة المسلسل، أنه فقط يحب الطبخ، ولا يطبخ ضحاياه، وذلك كله دون مبرر ولا تأثير.

أما على مستوى فكرة الترويج بفكرة «أكل لحوم السيدات المقتولات» فهي لا تختلف عن التطبيع مع الفكرة المُقحمة السابقة نحو الأم القاتلة الحقيقية. فهن مستحقات للقتل والأكل، وهن بالأساس المجرمات الحقيقيات.

مشاهد تنفيذ الجرائم للسيدات فقط

مُثبت بالتحقيقات الرسمية لشخصية القذافي السفاح الحقيقي أنه قتل صديق عمره، وتم ذكر ذلك أيضًا في المسلسل وتنفيذه، لكنه ليس بنفس طرق تنفيذ قتل السيدات وتصوير مشاهدهن، حيث تم تنفيذ دقيق لجميع تفاصيل الذبح والضرب للسيدات، في مقابل تقديم مشهد وضع السم في الكشري لصديقه، وتنفيذ المشهد ببعض التقلصات التي أصابت الصديق وحطت به أرضًا، رغم أنه ورد في القضية الحقيقية أنه قام بضربه عدة طعنات على رأسه باستخدام آلة حادة حتى توفي، فلماذا لم يأتِ مشهد تنفيذ قتله المبرح كما تم تنفيذ مشاهد السيدات؟ لتتساوى الضحايا. ولم يصنف القاتل بأنه سفاح النساء فقط.

ولماذا تم تغيير أسباب قتله لزوجته لكونها «زنانة» وليس لسبب كشفها حقيقته كما حدث في الواقعة الحقيقية؟ فما هذا إلا للترويج بمشاهد قتل وطبخ السيدات والتخلص منهن لأنهن بالأساس قاتلات -وفقًا للخلفية التأسيسية للبطل – بجانب كونهن كثيرات الكلام.

إجراء كشف العذرية

بين التغييرات التي أحدثها المسلسل شخصية زينة/ ركين سعد، شقيقة زوجته، وهي ضحية من ضحايا السفاح الحقيقي، استخدمها العمل كي يكشف الأبعاد النفسية لشخصية البطل كاملة، فبنى خطًّا دراميًّا بدأ من حبها ودعمها له، وانتهى بأنه كان يتخيل ذلك الحب، لكنها في واقع الدراما مخطوفة يتوهم حبها، ليتم تحليل الشخصية من خلال رواية سردها بعد إنقاذها من تحت يده بأنه شخصية «سيكوباتية»، وكما ورد بالحوار تفصيليًّا «شخصية سيكوباتية، تتعامل مع الشخصيات كالأدوات، ترى العالم بفلتر خاص بها».

يستند تحليل شخصية السفاح في المسلسل على أقوال إحدى ضحاياه المخطوفة، التي ما زالت في مشاهد التحقيقات لم تتعافَ بعد من أثر الصدمة، لذا فهو تفسير في غير محله، لأنه تشخيص نتاج سماع وجهة نظر فيه، وليس أي وجهة نظر، بل وجهة نظر تعاني هي الأخرى من اضطراب ما إبان حادثة خطفها، علاوة على مشهد سؤال سلمى زوجة جابر وشقيقه زينة/ داليا شوقي، للضابط/ باسم سمرة، عن عذرية شقيقتها، وهل زوجها أقام علاقة جنسية مع شقيقتها؟ ليجيبها الضابط: اطمئني لم تحدث علاقة، فما زالت الأخت عذراء!

ولم يأتِ مشهد واحد في المسلسل يتم فيه استئذان الشخصية بإجراء ذلك الكشف، بل جاء المشهد على نحو تأكيد عدم حدوث أي انحراف جنسي، لتهدئة الشخصية وربما المُشاهد أيضًا.

رغم أنه من بين سمات الشخصية السيكوباتية، الانحراف الجنسي: كالجنسية المثلية، والتلبس بالجنس الآخر، والسادية، وعشق الأطفال، والفتشية، وذلك حسب “إشكالية الحسم التصنيفي للسلوكيات المعادية للمجتمع: ما بين الانحراف الاجتماعي والحالات التحت إكلينيكية.. السيكوباتية أنموذجًا”، وغيرها من الأبحاث العلمية المتخصصة في علم النفس، التي تؤكد أن للسيكوباتية أبعادًا وسمات كثيرة متداخلة ومتشابكة ليست بكل هذه السهولة التي يمكن أن تُمنح كتصنيف مبني على أقوال شخصية أخرى تعاني اضطرابًا!

لتكون الناجية الوحيدة دراميًّا واقعة تحت سلطة متجددة لا تحترم حالتها، بل تكشف عذريتها دون إذن منها.

وللتأكيد على أن المسلسل استهدف النساء فقط، رغم تنوع ضحايا القاتل الحقيقي، أن الأغنية الخاصة بالتتر، تخاطب النساء أيضًا بمفردهن «فيه في دماغك صوت بيقولك خافي خافي».

ليُطرح السؤال: لماذا تم استخدام النساء للترويج للعمل؟ رغم أن هناك مادة درامية خصبة في القضية الحقيقية، لا تعتمد جنسًا معينًا، بل تعتمد هدفًا واضحًا للقاتل وهو جمع ثروة، والتخلص من كل العقبات في طريقه بالقتل، حتى وإن كان لصناع العمل كل الحق في التغيير، فهل التغييرات أضافت للحدث الرئيسي؟ هل لو تم حذف خلفية قتل الأم لزوجها، والطبخ، وكشف عذرية الفتاة، سيتغير مسار الحدث؟ فما تم تقديمه، ما هو إلا استخدام واهٍ ومُقحم دراميًّا، محاولًا بناء عالم مخيف عن طريق استخدام أسلوب كتابة سرد غير متدرج، بجانب أسلوب إخراجي للصورة يلتزم بالإضاءة الخافتة، وكثرة الأمطار، فلا طابع واضح “للجيزة” المذكورة بعنوان المسلسل، بل كولاج لمشاهد عالمية شهيرة، ليظهر الناتج مجموعة سمات غير متسقة، بجانب استغلال خطاب العنف ضد المرأة من أجل تحقيق مشاهدات أعلى. ويسبقها استغلال لرواج القضية نفسها. 

اقرأ أيضًا: مسلسل «سفاح الجيزة»: السعي غير المسئول تجاه الجماليات العالمية