ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين: إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي: أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام.

الشهرستاني في كتابه «الملل والنِّحل» عن إمام الإسماعيلية الحشاشين «الحسن بن الصباح».


موجز عقائد الباطنية والحشاشين

للباطنية تاريخ ضارب في القدم، فقد بدأت دعوتهم في الظهور منذ عصر المأمون، حتى إن «عبد القاهر البغدادي»، أحد أشهر من تناول الفرق الكلامية والعقدية في القرن الخامس الهجري، ذكر أن القائد العسكري للجيش العباسي في زمن المعتصم العباسي الأفشين التركي انتسب إلى هذه الفرقة؛ ما يعني أن الباطنية قد أثبتوا وجودهم منذ الربع الأول من القرن الثالث الهجري، وهو تاريخ مبكر بلا شك.

كان ظهور طائفة الإسماعيلية النزارية «الحشاشية» واستيلائهم على قلعة أَلَموت عاملاً كبيرًا من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين

ومنذ ذلك التاريخ والباطنية وفرقها في صراع مرير مع تيار الأمة العام، أما عقيدة الباطنية فتتلخص في أن أصول الدين عندهم مأخوذة من جهات وثقافات شتى، منها المزدكية التي ترى أن للعالم إلهين واحد للظلمة وآخر للنور، وعلى نفس المنوال سار الباطنية حين قالوا بأن للعالم خالقين هما العقل والنفس، ولأجل هذا الاعتقاد المصادم لعقائد المسلمين تستّر الباطنية بستار التشيع لآل البيت، وذهب فريق منهم إلى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو خالق السموات والأرض، وهؤلاء سموا بالنصيرية أو العلوية، وظهرت منهم فرق أخرى مثل الخرامية والقرامطة والإسماعيلية.

أما الإسماعلية فهؤلاء يُنسبون إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ويختلفون مع الشيعة الاثنى عشرية في أن الإمامة في إسماعيل المبارك بن جعفر الصادق، بينما يراها الإمامية في موسى الكاظم وعقبه حتى الإمام الثاني عشر.

وقد أُطلق على الإسماعيلية وصف الباطنية كما يذكر الشهرستاني في «الملل والنحل»؛ «لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً»، فآيات القرآن لا يعرف تأويلها الحقيقي الباطني إلا أئمتهم، وهم في اعتقادهم يسيرون على المبدأ القائل بأن خالق السموات والأرض هما العقل والنفس.

وهؤلاء الإسماعيلية انقسموا بدورهم إلى فريقين هما المستعلية والنزارية أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ)، فالفريق الأول رأى أن الإمامة لا يستحقها إلا المستعلي بن المستنصر، والفريق الثاني رأى أن نزار الابن الأكبر هو الأحق بالإمامة السياسية والعقدية، وهو الأجدر بخلافة أبيه لأنه الأكبر سنًا، لكن الوزير الأقوى الأفضل بن بدر الجمالي انحاز إلى المستعلي لضعفه، وقبض على نزار وقتله لاحقًا؛ مما اضطر معه إلى هروب ابنه الهادي إلى إيران، والتحاقه بركب المؤيدين لهذه الدعوة وكان على رأسهم الحسن بن الصباح.

كان ظهور طائفة الإسماعيلية النزارية «الحشاشية» على يد مؤسسها الحسن بن الصباح الإسماعيلي واستيلائهم على قلعة أَلَموت في بلاد فارس وبالتحديد في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ عاملاً كبيرًا من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين، فضلًا عن مناوشاتها التي استمرت مع الزنكيين والأيوبيين والخوارزميين، ثم الغارات الكبيرة التي كانت تقوم بها هذه المجموعات على المناطق المحيطة بها والتي كان يسكنها على الأغلب السكان المسلمون السنة.

ولد الحسن بن الصباح بالري (تقع أطلالها بالقرب من طهران اليوم) عام 430 هـ، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه ولد في قُم معقل الشيعة الاثنى عشرية حيث نشأ في بيئة شيعية اثني عشرية ثم انتقلت عائلته إلى الري مركز لنشاطات طائفة الإسماعيلية، فاتخذ الطريقة الإسماعيلية الفاطمية وعمره 17 سنة، وفي عام 471 هـ ذهب إلى مصر التي كان يحكمها المستنصر بالله الفاطمي، وعاد بعد ذلك لينشر الدعوة في فارس.

استمر ابن الصباح في قراءة كتب الإسماعيلية، وبعد ذلك لقي معلمًا إسماعيليًا آخر، فلقنه التعاليم الإسماعيلية حتى اقتنع، ولم يبقَ أمامه سوى أداء يمين الولاء للإمام الفاطمي، لكنه أدى تلك اليمين أمام داعٍ إسماعيلي نائب عن عبد الملك بن عطاش كبير الدعاة الإسماعيليين في غرب إيران والعراق، وفي عام 464هـ وصل عبد الملك بن عطاش لمدينة الري، فلقيه حسن الصباح، ثم وافق على انضمامه، وحدد له مهمة معينة في الدعوة، وطلب منه السفر إلى مصر لكي يقابل الخليفة الفاطمي بالقاهرة [1].

لم يتمكن ابن الصباح من المثول بين يدي الخليفة الفاطمي ورؤيته رأي العين، وإن كان قد أقام بالقاهرة ثمانية عشر شهرًا كاملاً، و كثرت دسائس «المستعلى» و أعوانه وخاصة قائد الجيش «بدر» للحسن بن الصباح، فاضطر إلى مغادرة مصر وركب السفينة من الإسكندرية في شهر رجب سنة 472هـ، فما كادت تخرج به حتى تحطمت بالقرب من شواطئ الشام، فأنقذوه ورجع إلى بلاده مجتازًا طريق حلب وبغداد وخوزستان، ووصل في النهاية إلى أصفهان في ذى الحجة سنة 473هـ.

ومن ذلك الوقت أخذ يدعو لنزار- أكبر أولاد المستنصر- وشملت دعوته يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات أخرى من إيران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لأنه كان يتجنبها اتقاءً لشر الوزير نظام الملك الطوسي الذي كان يتحرق إلى القبض عليه، والقضاء على الباطنية وخطرهم الاعتقادي والسياسي التابع للفاطميين في مصر، كما دلت على ذلك أوامره التي أصدرها إلى زوج ابنته «أبي مسلم» حاكم هذه المدينة، كما تؤكد على ذلك روايات كل من «تاريخ كزيدة» و«جامع التواريخ»[2].


انتشار دعوة ابن الصباح

تنقل ابن الصباح داخل إيران مستكشفًا لها لمدة تسع سنوات، حتى بدأ دعوته في إقليم الديلم ومازندران وقد كان لها بعض النجاح، وقد كان يتفادى المدن في تنقلاته ويفضل أن ينتقل عبر الصحراء؛ حتى استقر في دامغان [3] وحولها قاعدة له يبعث منها الدعاة إلى المناطق الجبلية لجذب السكان من هناك، واستمر بذلك لمدة 3 سنوات حتى انكشف أمره وأمر الوزير نظام الملك باعتقاله، ولكنه فلت وهرب إلى قزوين [4].

لم يكن كل هم حسن الصباح في تنقلاته هو نشر دعوته وكسب الأنصار فحسب، بل أيضًا للعثور على مكان مناسب يحميه من مطاردة السلاجقة ويحوله إلى قاعدة لنشر دعاته وأفكاره، وقد عزف عن المدن لانكشافها؛ لذا لم يجد أفضل من قلعة ألموت المنيعة، فهي حصن قديم فوق صخرة عالية وسط الجبال على ارتفاع 6 آلاف متر أو يزيد، وبنيت بطريقة كي لا يكون لها إلا طريق واحد يصل إليها؛ مما يصعب على الغزاة اقتحام هذه الطريق الوعرة.

لم يعرف على وجه الدقة أول من بنى هذه القلعة، ويقال إن من بناها هو أحد ملوك الديلم القدماء وأسماها (ألوه أموت) ومعناها «عش النسر»، ثم جددها حاكم علوي محلي سنة 246هـ، وبقيت في أيدي عقبهِ حتى دخلها الإسماعيلية بقيادة ابن الصباح في 7 رجب سنة 483هـ فطرد الحاكم منها، وقد روى ابن الأثير قصة دخولهم القلعة بقوله: «إن الحسن الصباح كان يطوف على الأقوام يضلهم فلما رأى قلعة أَلموت واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر وأظهر الزهد ولبس المسَح فتبعه أكثرهم والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس إليه يتبرك به، فلما أحكم الحسن أمره دخل يومًا على العلوي بالقلعة فقال له ابن الصباح‏:‏ اخرج من هذه القلعة فتبسم العلوي وظنه يمزح فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة»[5]، وقيل إنه اشتراها منه بـ 3000 دينار ذهب.

بقي ابن الصباح في هذه القلعة بقية حياته ولم يخرج منها مدة 35 سنة حتى وفاته، حيث كان جل وقته يقضيه في القراءة ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط، وكان همّه كسب أنصار جدد والسيطرة على قلاع أخرى في المنطقة؛ لذلك استمر بإرسال الدعاة إلى القرى المحيطة برودبار [6] المجاورة، ويرسل المليشيات لأخذ القلاع عن طريق الخدع الدعائية، وإن فشلوا لجأوا إلى الطرق الدموية والمجازر، وتمكن ابن الصباح من الاستيلاء على قلعة لمبسر عن طريق هجمات مليشياته عليها ما بين عامي 489هـ و495هـ بقيادة عامله «كيا بزرجميد» وحكمها عشرين عامًا، وقد كانت قلعة إستراتيجية مهمة وقائمة على صخرة مدورة تطل على شاه رود [7]، وعن طريقها تمكن من الاستيلاء على كل منطقة رودبار.

وفي سنة 484هـ، بعث ابن الصباح دعاته إلى منطقة قوهستان الجبلية على الحدود الحالية بين إيران وأفغانستان، وكانت تلك المنطقة في بداية الإسلام يعيش فيها المجوس الزرادشتيين ومن ثم أضحت معقلا للشيعة وغيرهم من المنشقين الدينيين، ومن ثم استطاع أن يضم سكان تلك المنطقة عن طريق استغلال حالة التذمر التي كانت هناك ضد السلاجقة فصارت تابعة للإسماعيليين [8].

على أن أهل أبهر لم يتحملوا هجمات الإسماعلية فأرسلوا استغاثة إلى السلطان السلجوقي بركيارق، كانت السبب في إرساله فرقة عسكرية لمحاصرتها، واستمر الحصار ثمانية أشهر، وتمكّن من الاستيلاء عليها منهم سنة 489هـ، وتم قتل من كان بها من الإسماعيلية عن آخرهم [9].


السياسة الدموية

بقي ابن الصباح في قلعة ألموت بقية حياته ولم يخرج منها مدة 35 سنة حتى وفاته، حيث كان جل وقته يقضيه في القراءة ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط

كان العام 485هـ البداية الحقيقية لمواجهة السلاجقة لابن الصباح، حيث بعث السلطان ملكشاه حملتين؛ واحدة على قلعة ألموت، والثانية على قوهستان. لكن الفرق العسكرية الإسماعيلية المدرّبة تصدت للسلاجقة وبمساعدة الأهالي المتعاطفين معهم في روذبار وقزوين فانسحبت القوات من قوهستان بعد وفاة السلطان ملكشاه في شوال من نفس العام.

لم يتمكن السلاجقة من القضاء على الإسماعيلية الباطنية أو الاستيلاء على قلعة ألموت، وظلت الباطنية يدًا خفية تغتال رموز أهل السنة بلا رحمة لمدة قرنين فيما بعد

استطاع ابن الصباح أن يضرب ضربته الكبرى باغتيال الوزير الشهير «نظام الملك الطوسي» بعد عدة أسابيع من وفاة السلطان ملكشاه من نفس العام 485هـ. وقد كان اغتيال نظام الملك من أوائل عمليات الاغتيال الكبرى التي قام بها الحشاشون، بل كانت بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات التي قاموا بها ضد ملوك وأمراء وقادة جيوش ورجال دين، استمرت حتى احتل هولاكو قلعة ألموت وقضى على فتنتهم بالشرق والتي استمرت حوالي قرنين من الزمان [10].

توفي ابن الصباح عام 518 هـ في الألَموت، واختلفت المصادر عن مصير ذريته (المصادر الغربية وبعض العربية تذكر أنه قتل أولاده في حياته)، إلا أن المصادر كلها أجمعت على أنه لم يفعل ذلك، وخلفه بزرك أميد (برزجميد)، وكلف آخرين بشئون الدعوة والإدارة وقيادة القوات، وطلب منهم التعاون مع بعضهم حتى ظهور الامام المستتر بحسب العقيدة الإسماعيلية [11].

وبالرغم من وفاة ابن الصباح استمرت الصراعات المسلحة بين الإسماعيلية الباطنية والسلاجقة وتوسعت مناطقهم، وتمكن الفدائيون الباطنية من الاستيلاء على قلاع جديدة. لكن السلاجقة استطاعوا احتوائهم عام 500 هـ عندما استولى السلطان محمد على قلعة شاه دُز بالقرب من أصبهان وقتل عددًا كبيرًا منهم من ضمنهم ابن العطاش كبير دعاتهم في إيران وولده، ولكن لم يتمكنوا من القضاء عليهم أو يستولوا على قلعة ألموت، وظلت الباطنية يدًا خفية تغتال رموز أهل السنة بلا رحمة لمدة قرنين فيما بعد.


[1] ابن الأثير: الكامل 4/411.[2] راجع: براون: تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى سعدي ص249.[3] دامغان: مدينة كبيرة بين الري ونيسابور وكانت عاصمة منطقة قومس. البغدادي: مراصد الإطلاع 2/51، وهي الآن مدينه إيرانية كبيرة في محافظة سمنان شمال إيران.[4] براون: تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى سعدي ص249.[5] ابن الأثير: الكامل 8/452.[6] رودبار: قرية تقع في غرب إقليم قوهستان. مجهول: حدود العالم من المشرق إلى المغرب ص142، وهي الآن قرية كبيرة تتبع مدينة خمير في محافظة هرمزكان في جنوب إيران.[7] أحد الأنهار في جنوب الوسط من إيران.[8] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 2/214.[9] تاريخ ابن الوردي 2/13.[10] الذهبي: تاريخ الإسلام 34/31.[11] ابن الأثير: الكامل 8/696.